صنع الله إبراهيم: يونيه الهزيمة.. كانت حتمية
الهزيمة لازالت تجرح الوجدان والروح، رائحتها آتية من الزمن البعيد، خطوطها محفورة بدقة فوق وجوه المصريين، ندباتها تقاوم الزمن. خمسون عاما كاملة لم تستطع أن تمحو آثارها التى سكنت صنع الله إبراهيم، وكيف تُمحى ولا زال الظهر ينوء من أثر سياط التعذيب فى زمن المعتقلات.
بسيط عفوى لا يعرف الكبرياء. يمشى كأنه نوع من الظل. من بساطته المتناهية.. هكذا التقيت صاحب "يوميات الواحات"، شقته البسيطة فى الدور الأخير بإحدى عمارات مصر الجديدة، يشبه تماما ما يقول، ولا يبيعنا كلاما بينما يحيا واقعا مغايرا.
على حائط واجهة الصالة صورة كبيرة للفنان فريد الأطرش وتحية كاريوكا، النصف الآخر من المكان مكتبة كبيرة، وأثاث بسيط. ومن خلف الزجاج تطل شجرة صبار، بقدرتها الهائلة على تحمل الظروف القاسية. إنها تشبهه تماما.
لم تقع الهزيمة فى 5 يونيه 1967، بل قبل ذلك بزمن طويل، يحدده صنع الله بلحظة إلغاء الأحزاب. لا ينسى وهو يتحدث عن الهزيمة أن يتذكر محاسن عبد الناصر، يشير إلى ثلاجة إيديال فى الطرقة المقابلة لنا.. "ضربوا الصناعة حتى التلاجة الإيديال ما بقتش موجودة"..!
حالة من التشوش والضياع تعيشها شخصيات رواية "67" التى كتبها صنع الله إبراهيم قبل 45 عاما، ولم تر النور إلا مؤخرا. الراوى خارج من المعتقل ويعمل صحفيا، يرتبط بعلاقة حميمية مع زوجة أخيه، أحداث يومية عادية، شخوص محبطة. تعيش مأزقها الخاص. وتمر من أمامنا نتائج الهزيمة عرضا.. الفنان كان فى سيناء أيام العدوان وعاد من هناك إلى مستشفى للأمراض العقلية، لوحاته الجديدة خطوط لأشباح عظيمة تتلوى. والمرأة قضت حياتها تشهد الآخرين وهم يروحون إلى السجن أو الخارج أو الموت..
قلت لصنع الله إبراهيم: فى رواية "67" تعيش كل شخصية فى عالمها الخاص.. هل هذا هروب من الهزيمة أم مقدمات للهزيمة؟
أجاب: الفكرة أنها هروب من الواقع الذى أدى إلى الهزيمة، ثم هروب من الهزيمة نفسها فيما بعد، لأن الواقع الذى أدى إلى الهزيمة كان "فظيعا"، والتناقض غريب ما بين سياسة وطنية تحترم وتحاول أن تحقق شكلا من أشكال العدالة الاجتماعية، وفى نفس الوقت هناك قمع بوليسي. هذا الوضع كان مربكًا ومزعجًا لكثير من الناس، فكانت هناك هذه الحالة من الهروب.
هل أردت أن تخبرنا بأن هذا المجتمع كان لابد أن تضربه الهزيمة؟
نعم، الهزيمة كانت تعبير عن فشل جمال عبد الناصر فى سياسة التوازنات ومراعاة الصراعات الداخلية الموجودة فى نظامه، وعدم تمكنه من مواجهة الفساد الذى استشرى فى القيادة السياسية العليا وفى القيادة العسكرية، فكان لابد أن تصبح هذه هى النتيجة.
غالى شكرى قال إن الهزيمة لم تقع فى يونيه ٦٧ وإنما هى قد وقعت قبلها بزمنٍ طويل وبقيت من بعدها.. فى رأيك متى بدأت المقدمات لتلك الهزيمة؟
منذ لحظة إلغاء الأحزاب، وحصر النشاط السياسى فى تنظيم واحد الذى كان هيئة تحرير، ثم الاتحاد القومي، ثم الاتحاد الاشتراكي. هذه كانت اللحظة الفاصلة، وهى عدم السماح بالرأى الآخر فى داخل النظام.
هناك أكثر من تفسير للهزيمة، هناك من يرجعها إلى المشير عامر وقيادته للجيش، وهناك من اعتبرها مؤامرة للإيقاع بعبد الناصر بسبب مواقفه المناهضة للاستعمار والهيمنة الغربية؟
كل هذا صحيح.. فمن جانب كان هناك تآمر الأمريكان وإسرائيل، والقوى الرجعية التى كانت قوية فى المجتمع، من بقايا الإقطاع والرأسمالية الكبيرة التى تم ضربها بقرارات التأميم، ومصالح الجهات الجديدة التى خلقها النظام، لكى يتجنب سخط وغضب الضباط الذين اشتركوا فى الثورة، فأرضاهم بإعطائهم مناصب فى المؤسسات الجديدة، وهو ما خلق طبقة جديدة لها مصالح، وعجز عن السيطرة عليها، فأصبح لدينا -إلى جانب دور الأمريكان والإسرائيليين- الفساد الداخلي، وهذا وضح جليا فى القيادة العسكرية، فبدلا من أن تكون مشغولة بالدفاع عن حدود الوطن، أصبح لديها نشاط اقتصادى وعمليات غريبة. على سبيل المثال قبل النكسة بعام، كانت هناك مشاكل فى النقل العام، فقرر المشير عامر أن تكون إدارة النقل العام تحت إدارة الجيش. من مهام الجيش أن يدرس الفنون الجديدة وتطورات الصراعات العسكرية، لكنهم انشغلوا بأشياء ليس لها علاقة بالقتال. بعض هذا يحدث اليوم، الجيش يبيع مكرونة وأظن هذا ليس عمله.
فى خطاب التنحى قال عبد الناصر إن هناك قوى أخرى كانت وراء العدو جاءت لتصفى حساباتها مع حركة القومية العربية.. ما مدى اتفاقك مع هذا التفسير؟
أتفق معه، لكن هناك سببا أساسيا هو المغالاة فى تقدير القوة الذاتية، والإحساس بالقوة والعظمة وأن لا أحد يستطيع أن يفعل لك شيئا! وهذا ثبت أنه غير صحيح. قبل الهزيمة بثلاثة أو أربعة شهور، صرح المشير عامر أن الجمهورية العربية المتحدة أكبر قوة ضاربة فى الشرق الأوسط، وفى النهاية طلع "فاشوش".
ربما لأن جزءا كبيرا من الجيش كان يحارب فى اليمن؟
نعم، هى مجموعة عوامل مجتمعة.. أغلب الجيش فى اليمن كان يقوم بعمل بطولي، لكن هذا يحتم عدم الدخول فى معركة جديدة. القرار كان خاطئا، وهو إغلاق مضيق تيران الذى أدى فيما بعد إلى هذه الحرب. الأمريكان والإسرائيليين لعبوا على هذا الأمر، كانوا دارسين جيدا. كانت هناك حجرة فى المخابرات الأمريكية يطلق عليها اسم "لعبة" يجلس بها أشخاص يمثلون شخصيات عبد الناصر وخروشوف، على دراية كاملة بطباع الشخصيات ويناقشون ردود الأفعال، مثل لعبة الشطرنج، فكانوا يدركون أنهم يستطيعون اللعب على الشعور بالعظمة أو الغرور الذى أصاب عبد الناصر فى السنوات الأخيرة، ويستدرجونه للدخول فى مواجهة عسكرية يعلمون جيدا أن الجيش غير مستعد لها، لأنه مشغول بأشياء ليس لها علاقة بالعمل العسكري، وبالتالى يستطيعون هزيمته.
نصف قرن على الهزيمة ما الذى تبدل فى أحوال المصريين؟
ضربة 67 حققت أهدافها تماما، تم القضاء على الصناعة المحلية، لم يعد لدينا أى صناعة مصرية "ولا حتى أعواد كبريت". تم محو النشاط السياسي، من يحاول أن يقول رأيا أو يخرج فى مظاهرة يجد نفسه متهما بقضايا ملفقة أو تشويهه بصور مفتعلة. مستوى المعيشة أصبح صفرا بالنسبة للأغلبية. ثم أصبحنا خاضعين تماما وتبعية تامة للغرب، لدينا ممثل دبلوماسى فى اجتماعات حلف الأطلنطي، ولدينا حلف إسلامى أمريكى عربى "حاجة تضحك".. ما حدث فى الرياض انتصار بشع ورهيب للغرب وأمريكا. وكل ما حدث طوال خمسين عاما منذ كان الأمريكان يريدون عمل حلف بغداد وأيزنهاور، وأفشلناها نحن بقيادة عبد الناصر، وأخيرا نجح ترامب فى عمل الحلف العربى الإسلامي.
دكتور محمد عفيفى أستاذ التاريخ الحديث قال إن الخطورة لم تكن فى مجرد الهزيمة التى وصفها بالزلزال ولكن فى توابعها التى جعلتنا نتخبط من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين وأجهضت كل محاولة لتقديم مشروع قومى للخروج من السرداب؟
ليست قضية يسار ويمين، بل المصالح المنطقية فى الخط الوطني. هناك من يريدون التفريط فى تيران وصنافير، ويمكن أن نفاجأ غدا بأنهم باعوا "شبرا" من أجل قرشين، والذين خططوا خلقوا أزمات بدخولنا فى مشروعات هائلة ليست وقتها، أصلح لى الشارع الذى أعيش فيه الممتلئ بالحفر. وبعدها نعمل تفريعة جديدة للقناة، وعاصمة إدارية. يعلق ساخطا: "مش ممكن".
بعد الهزيمة زادت موجة التدين عند اليهود معتبرين انتصارهم إشارة إلهية برضا الله، بينما وجد العرب أن الهزيمة غضب من الله وتكونت بيئة حاضنة للفكر الدينى المتشدد.. هل هذا الفكر المتطرف الذى نعانى منه حتى الآن هو نتاج النكسة؟
هذا الفكر قوته الهزيمة، لكنه بدأ منذ الخطوة الرائعة التى قام بها جمال عبد الناصر، عندما ضرب الإقطاع والرأسمالية الكبيرة فى التأميمات، فبدأوا يغذون فكرة أن العدوان على الملكية الخاصة عدوان على الدين، وأن الدين يحمى الملكية الخاصة، وهذا غير صحيح، وحتى لو صحيحا ليست مشكلة، لأن العدوان على الملكية الخاصة كانت له أهداف نبيلة، من عمل مصانع لتشغيل الناس، والسد العالى وغيرها، كلها مشروعات ليست فردية من أجل شخص واحد، بل من أجل البلاد بأكملها، للاعتماد على الذات.. يشير إلى ثلاجة فى الطرقة المواجهة لنا ويكمل: تصنيع ثلاجة إيديال يتم تصديرها إلى أفريقيا هدف نبيل. الآن تم ضياع كل هذا، ولم يعد هناك حتى ثلاجة إيديال.
بدءا من لحظة التأميمات وضرب الإقطاع بدأت محاولة جر الدين، والزعم أن الدين يحمى الملكية الخاصة وأن النظام يضرب الملكية الخاصة. ثم جاءت الهزيمة فقالوا إن الله ينتقم. الموضوع فى النهاية ليس سوى مصالح اقتصادية.
أيام الحرب اعتقد المصريون أنهم على مشارف تل أبيب وأن إسرائيل قد انتهت.. بعد 50 عاما على الهزيمة لماذا تراجعت القضية الفلسطينية ولم تعد قضيتنا الأولى والمركزية؟
هذه كانت أهداف العملية، وهى ضرب الطريق الذى نتوجه إليه، وهو محاربة الاستعمار والقضية الفلسطينية والاستقلال الاقتصادي، القومية العربية تعنى شيئا واحدا أنه من الجزائر إلى العراق والإمارات وكل الدول العربية، يستخدمون المنتجات التى يصنعها العرب، هذا كان الهدف الرئيسي.
آثار الهزيمة لازالت ممتدة حتى اليوم؟
نعم، فالحلف الإسلامى الأمريكى "الأضحوكة والمهزلة"، هذا شيء لم نكن نتخيله فى يوم من الأيام. وهذا يسير مع شيء آخر تماما. أن راتبك الذى يقدر بـ650 جنيها يسدد ضريبة، ومن يصل راتبه إلى 20 ألفا أو مليون يدفع ضريبة بنفس النسبة.
هل هذا نتيجة للسياسات المتبعة اليوم أم مترتبة على الهزيمة؟
سياسات اليوم استمرار لتوابع الزلزال، التابع الأول مقتل جمال عبد الناصر. التابع الثانى هو أن السادات -الذى كان يأخذ راتبا شهريا من أمير الكويت والمخابرات الأمريكية- يصبح رئيسا للجمهورية، ثم حسنى مبارك الذى كان يمثل مصر فى نادى السفارى -وهو تنظيم أنشيء فى أواخر السبعينات لممثلى أجهزة المخابرات فى مصر وفرنسا والمغرب وأفريقيا الوسطى لمكافحة التيارات التقدمية واليسارية- يصبح رئيسا للجمهورية ويستمر 30 عاما. ثم تقوم ثورة، لكننا بشكل أو آخر نصل إلى نفس الوضع.
الهزيمة التى سكنت وجدان المصريين هل تلاشت مع حرب الاستنزاف ومن بعدها حرب أكتوبر؟
هذه صفحات خرافية ومجيدة فى تاريخنا الحديث، حرب الاستنزاف والتضحيات التى قدمها المصريون لشيء ليسوا مسئولين عنه. السبع سنوات التى قضاها ضباط وجنود رائعين فى خنادق، متخلين عن كل المكاسب الشخصية، تاركين عائلاتهم لكى يصلوا بنا إلى الانتصار الذى حققناه فى أكتوبر.
هل ما زالت الهزيمة تسكن صنع الله إبراهيم؟
لست وحدي. كلنا نعانى من هذه الهزيمة ونتائجها.
كتبت رواية "67" فى زمن النكسة.. ما الذى تغير من قناعاتك خلال نصف قرن؟
هى ثانى رواية كتبتها فى مسيرتى الأدبية، كنت مازلت أخطو خطواتى الأولى، أرجو أن ينظر إليها على هذا الأساس، هى وثيقة تاريخية لجزء من مسيرتي، هى متقدمة قليلا عن روايتى الأولى من ناحية البناء الفني، لكن ليس هذا ما يمكن أن أقدمه اليوم فى عملي. لقد تجاوزت هذه المرحلة إلى مراحل وأشكال أخرى.
ماذا عن تصوراتك وقناعاتك عن الهزيمة؟
أكيد ستكون هناك إمكانية لأشياء أخرى تقال، لأن هناك أشياء لم تكن معروفة حينها، نحن شعب لم يكن لدينا تصور عما يدور داخل المؤسسة العسكرية، صراعات القوى التى كانت موجودة داخل النظام، لم نكن نعرف أمزجة السيد صلاح نصر رئيس المخابرات الحربية، ولا كنا نعرف أن المشير عامر يستمتع بتدخين الحشيش وله علاقة بالممثلات، كل هذه التفصيلات عرفت فيما بعد. لم نكن نعرف أن السادات فى الوقت الذى كان نائبا لرئيس الجمهورية، كان مستشارا اقتصاديا ووكيل أعمال أمير الكويت. لم نعرف الدور الذى لعبه مبارك وعلاقته بالفريق أبو غزالة، هؤلاء كانوا يخدمون المصالح الأمريكية بشكل مباشر. كذلك عمولات وتجارة السلاح، والشركة التى تكونت بين مبارك ومنير ثابت شقيق سوزان مبارك وحسين سالم. كل هذه التفاصيل تلقى الضوء على المشهد وطريقة تناوله وعلى حجم المادة الوثائقية.
هل يمكن أن تكتب عملا جديدا عن الهزيمة؟
لا أعرف.. لا أعتقد. لا أظن حتى أن العمر والوقت الزمنى المتاح لى يسمح بهذا..
لو لم تحدث الهزيمة كيف كان سيصبح شكل مصر؟
بنفس نظام عبد الناصر السياسى كنا سندخل هزيمة من نوع آخر. عبد الناصر نفسه أدرك هذا فى اجتماع اللجنة التنفيذية للاتحاد الاشتراكي، وقبل الهزيمة بعام حذرهم وقال إننا لا يمكن أن نستمر بهذا الشكل، كان هناك إحساس بأن الانفراد التام بالحكم لا يمكن أن يستمر، وأن هناك مأزقا سياسيا فى البلاد. كان هناك نجاح على الصعيد الخارجي، وتخطيط لمؤتمر عالمى آسيوى أفريقى يحضر له الزعيم المغربى المهدى بن بركة، قبل أن تختطفه المخابرات الفرنسية والإسرائيلية ويختفى حتى اليوم. كنا وصلنا إلى درجة عالية جدا من تهديد النفوذ الاستعماري.
إنما على المستوى الداخلى كانت هناك مشكلة الفساد، فالطبقة الجديدة التى خلقها النظام بدأت تدافع عن مصالحها، فكان فى مفترق طرق، وكان هناك تفكير جاد أن يكون هناك نشاط سياسى مفتوح. رغم أن عبد الناصر طوال عمره يرفض فكرة أن يشاركه أحد فى القيادة أو الحكم.
لو لم تحدث هذه الحرب، كانت ستحدث أزمات أخرى مرتبطة باستمرار هذا الشكل من الانفراد بالحكم والقرار السياسي.