توظيف الأسطورة فى مسرح علي أحمد باكثير.. مأساة أوديب نموذجًا
استعان الكثير من الأدباء بتوظيف الأساطير والملاحم الإنسانية في أعمالهم، فنقلوا رؤاهم الفكرية وابداعاتهم واعتمدوا على التراث، واستطاعوا في بعض الأحيان الحفاظ على أن يكون مخرجهم الإبداعي متوازنًا بين التجديد والحفاظ على أصالة الملحمة وعراقتها.
وقد قام العديد من الأدباء والشعراء باستخدام الموروث الميثولوجي في أعمالهم الأدبية ونصوصهم الإبداعية مثل: "نجيب محفوظ، توفيق الحكيم ، علي سالم وعلي أحمد باكثير"، ومن الشعراء أمثال "أدونيس، بدر شاكر السياب، صلاح عبدالصبور، أمل دنقل ومحمود درويش"، واتخذوا من رموز الملاحم والأساطير أبطالاً لرواياتهم وقصائدهم.
وكانوا يلجأون لتلك الأساطير مرةٍ من إجل إبراز طاقاتهم الإبداعية، ومراتٍ كثيرة كان من أجل التخلص من المباشرة في النص لأسباب عديدة منها ضمانة أن تعيش كلماتهم أطول وقت ممكن، حتى لا يتم ربطهم بزمن محدد أو أحداث معينة.
كتب علي أحمد باكثير، عن تصوره الإسلامى للكون والحياة، وماهية الوجود، لكن لم تقتصر أعماله المسرحية على معالجة الموضوعات والقضايا الإسلامية فقط، بل أعطى لنفسه حيز استطاع أن ينفذ منه إلى التراث الإنسانى وحضارات ما قبل الإسلام. فألهمته الأساطير، وكانت معبرًا مختلفًا له ألهمته بأفكار جديدة عليه لم يكن يكتب عنها من ذي قبل. فقد كان يرى أن الاستعانة بالأساطير "الفرعونية والإغريقية مثالًا" إنما يُعد جسرًا هامًا لأن يخطو الأدب العربي نحو العالمية، وذلك في إطار القالب الذي يعكس من خلاله فلسفة عصره وقضاياه الكبرى.
لم يكن علي أحمد باكثير أول من استلهم الأسطورة الإغريقية فى أعماله المسرحية فقد سبقه فى هذا الأديب توفيق الحكيم وذلك من خلال مسرحية "أوديب ملكًا" الذى قام بإلباسها ثوبًا إسلاميًا فى محاولة منه لإنتاج أدب إسلامى يتماشى مع بيئته وعصره، فالرمز والإيحاء من أهم الأسس التى كان يقوم عليها الفن وخاصة المسرح في تلك الفترة الزمنية، أكثر مما يقوم على التحديد والتعيين والمباشرة فى الطرح والمعالجة وبذلك ينتقل العمل الفني إلى مساحة أوسع وأرحب من الحقيقة التي يفرضها الواقع، فالرمز والإيحاء يستطيع أن يتغلب على القاعدة والقيود الزمنية والظروف المحلية فى كافة أشكالها السياسية أو الإجتماعية أو الإقتصادية وغيرها، دون مساءلة أو خوف أو مواربة .
افتتح باكثير مسرحية "مأساة أوديب" بالأية القرآنية "وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّه مَا لاَ تَعْلَمُونَ" من سورة البقرة الآيتين "168 و169"، وبذلك يُلقى ظلالاً على أحداث المسرحية ويُشكل الصورة الجديدة التى ستقوم عليها.
وتعمد علي أحمد باكثير أن يُجرد الأسطورة الإغريقية من العناصر الخرافية التي تُشكل هوية العقيدة الإغريقية في محاولة منه لتقديم شكلًا جديدًا يدمج بين أفكاره وبين الأسطورة.
وقام ببعض التغييرات، فجعل مصدر الكذب في مسرحيته الكاهن الأكبر وليس الآلهة، فلم يكن هناك قوى خارقة مثل المتداول في كثير من الحضارات مثال "الفرعونية، الآشورية والإغريقية" واستخدم لفظة "الإله" بديلًا عن "الآلهة" فصبغ الأسطورة بموروثه الديني، رغم معرفته الجيدة بأن تعدد الآلهة هو أصل تلك الحضارات.
واستغنى عن بعض العناصر الخرافية والوثنية، فجعل النبوءة التي تنبأ بها "أبولون" الإله الإغريقي لملك طيبة "لايوس" بأنه سيولد له غُلام يقتل أباه ويتزوج أمه، وأصبحت في "أوديب باكثير" على لسان "لوكسياس" كاهن معبد "دُلف" وذلك برشوة من "بوليب" ملك "كورنث" الذي كان ينافس لايوس على زعامة "هيلارس"، وكان بوليب عقيمًا لا يُنجب، وحين بلغه أن "جوكاستا" زوجة "لايوس" تحمل بين أحشائها طفلًا، أعمت الغيرة والحقد قلبه فعزم على أن يتخلص منه لكي لا يكون وريثًا للحكم، فتعهد الكاهن الأكبر أن يجد له مخرجًا واختلق النبوءة الكاذبة ليقتل لايوس ابنه "أوديب".
كما لم يجعل باكثير السبب فى هلاك المدينة هو وباء "الطاعون" الذى جاء منزلاً من السماء كعقاب من الآلهة طلبًا للقصاص من "أوديب" قاتل أبيه، وقام بكتابة أسباب أخرى للطاعون أكثر واقعية وتحررًا من خرافة العقل الأسطوري، فيجعل باكثير الكارثة التى حلت بأهل المدينة هى "المجاعة والوباء" وذلك كرمز ودلالة واضحة للسبب الرئيسى وراء تلك المحنة المجحفة وهى استحواذ المعبد على أموال الشعب ومساعدة زوجة الملك "جوكاستا" فيما تقدمه من نذور تدفعها من خزينة الدولة وأموال الشعب الفقير وذلك إرضاءً للكاهن الأكبر حتى لا يبوح بسر مقتل زوجها السابق، ونجد أوديب يوبخ "جوكاستا" على تلك المحنة فيقول "يا حسرتاه.. لقد كانت نذروك وقرابنيك من أسباب هذه المجاعة التى حاقت بالشعب، إذ ظللت تجرين من خزينة الدولة إلى المعبد حتى تجمع المال فى أيدى هؤلاء الكهنة فلم يبق للشعب شيء، حرام على العيش فى ظلك يا جوكاستا إن لم أعد للشعب أمواله وأملاكه".
كما تطرق أحمد باكثير إلى قضية القضاء والقدر والتي تعد واحدة من قضايا الجدل والنقاش فى العقيدة الإسلامية، فجعل من "أوديب" صاحب قرار وبإمكانه أن يفعل الشيء أو يرفضه بمحض إرادته المطلقة ونلاحظ ذلك من خلال استنكار الكاهن الأكبر "ترزياس" لعدم تقصي الحقيقة وعدم استخدامه نعمة العقل وحرية الإرادة، فهو يفكر مؤازرة بعقيدة من إنحازوا إلى أن الإنسان نفسه يخلق أفعاله وأن الله قد تركه يقرر نتيجة أفعاله، وليس للقدر علاقة فى هذا الأمر، فالإنسان عند باكثير لديه الحرية المطلقة فى صنع قراراته وأفعاله وهكذا كان أوديب لم يفعل شيئ مكرهًا أو مجبرًا بل كان بمحض إرادته وقرارته التى آل إليها تفكيره. ونلاحظ أيضًا أن باكثير لم يجعل شخصية "أوديب" تراجيدية تلقى نهايتها المأساوية بل ظهر "أوديب" في صورة أقرب إلى البطل الشعبي الذى يختار المخاطر والصعاب ويتغلب عليها.
يتمحور الصراع فى مأساة أوديب لدى أحمد باكثير على الصراع بين الإنسان والإنسان وليس بين الآلهة والإنسان عند أسطورة "سوفوكليس" حيث كانت إرادة الآلهة نهائية.
فالصراع عند باكثير بين الكاهن"ترزياس وأوديب" من ناحية وبين الكاهن "لوكسياس" الذى يمثل الشر المستطير من ناحية أخرى. وهو صراع بين إنسان وآخر. بين واحدًا قوي الإرادة وآخر لا يملكها، بين الخير والشر، أو بين الرذيلة والفضيلة كما ظهر الصراع بين الكاهن "ترزياس" ممثًلا الفضيلة، و"جوكاستا" ممثلة الرذيلة، فكان يحاول أن يقتلعها من الآثام، ويحثها على السمو والإرتقاء الأخلاقي والتحلي بالنبل الإنساني، كما فعل فى صراعه مع "أوديب" حيث الصراع بين ظلمة الضلال ونور الهداية والحق، وهذه محاولة واضحة من باكثير لإصباغ ذاك العمل بموروثات العقيدة الإسلامية.
يضع علي أحمد باكثير حلًا لعقدة الصراع فى التوبة، فيتوب أوديب ويُقلع عن المعصية، ويدعو الناس له بالرحمة والمغفرة ونجده ذلك فى قول الكاهن "ترزياس" فى نهاية المسرحية: "إن كنت تنشد غفران الآلهة ورضوانها يا أوديب فاقض ما بقي من حياتك فى خدمة شعبك ".
وبذلك يجعل باكثير أساس العقيدة الإسلامية كحل نهائى لعقدة أوديب، فالتوبة والإستغفار تحل محل الأفعال المشينة وهذا جوهر الدين الإسلامى فهو فى الحقيقة امتثال لقول الله تعالى "إن الحسنات يذهبن السيئات" وبخدمة الشعب تنفك كربة أوديب ويتحرر من عذاب ضميره الذى يؤرق حياته .