.. وجــــاءكم بـايــــدن!
لست مع هؤلاء الذين أصابتهم فرحة
غامرة بفوز جو بايدن فى انتخابات الرئاسة الأمريكية، ولا مع الذين أصابهم الحزن
الشديد لهزيمة الرئيس ترامب وإخفاقهم فى الاحتفاظ بالبيت الأبيض لأربع سنوات
مقبلة.. فأنا أرى أن كلا الموقفين ليس صائبا وصحيحًا فى عالم تصوغ فيه المصالح
العلاقات بين الدول، كبيرها وصغيرها.. والصحيح هو التعامل بذكاء ومهارة وكفاءة مع
واقع أمريكى جديد تمخضت عنه الانتخابات الأمريكية الأخيرة التى فتحت أمام جو بايدن
أبواب البيت الأبيض فى يناير القادم وأربع سنوات مقبلة.
وأهم ما يتسم به بايدن الرئيس المنتخب
ليس فقط أنه كان نائبًا للرئيس الأمريكى أوباما الذى شهدت منطقتنا خلال سنوات حكمه
تطورات عميقة دراماتيكية، كان أهمها تمكين الإخوان من حكم بلادنا كما يختزله البعض
فى هذه الصورة، وإنما هو ابن الدولة الأمريكية العتيدة ومؤسساتها المختلفة منذ عدة
عقود مضت، وينتمى لتلك الطبقة السياسية الأمريكية التى تناوبت بممثليها ديمقراطيين
وجمهوريين على حكمها، ولذلك هو يحترمها ويقدر آراءها، وسوف يعيد لها الاعتبار الذى
فقدته فى سنوات حكم ترامب الرئيس المنتهية ولايته، وبالتالى سوف يكون لهذه
المؤسسات دور مؤثر فى صياغة السياسات التى سوف ينتهجها الرئيس الجديد رقم 46
لأمريكا، على عكس ما كان يحدث فى سنوات حكم ترامب الذى كان ينفرد بالقرارات ومنها
الصادمة ويفاجأ بها مؤسسات الدولة الأمريكية.
غير أن هذا لا يعنى أن بايدن سوف يتخلى
تمامًا عن رؤاه وآرائه وأفكاره وقناعاته الخاصة التى صاغتها تجربة عمل سياسية
امتدت لعقود طويلة، خاصة أن الدستور الأمريكى يمنح الرئيس الأمريكى صلاحيات
واسعة.. وإنما ستطبع سياساته الداخلية والخارجية قناعاته ورؤاه الخاصة أيضًا.. أو
ستكون سياساته هى تعبير عن محصلة رؤى ومواقف المؤسسات الأمريكية المختلفة مع رؤاه
ومواقفه هو أيضا ما دام هو سيد البيت الأبيض، خاصة فى حالة تفاوت الاقتراحات التى
تقدم إليه من قبل هذه المؤسسات التى قد تختلف عن بعضها البعض، وهو احتمال وارد
دومًا وليس مستبعدًا، وحدث من قبل كثيرًا فى التاريخ الأمريكي.
وبايدن له رؤى وآراء ومواقف وقناعات تجاه
العديد من الأمور والقضايا، سواء فيما يتعلق بالسياسة الداخلية أو السياسة الخارجية
التى تهمنا ومعنا العالم كله بالطبع.. وفيما يتعلق بهذه السياسة الخارجية أفصح
بايدن خاصة خلال الحملة الانتخابية عن أهم وأبرز هذه الرؤى والمواقف والقناعات.
- فهو مثل ترامب يدرك خطر ملاحقة الصين
اقتصاديًا لأمريكا وأنها تسعى حثيثًا لتتقدم عليها وتسبقها وتحتل موقع الاقتصاد
الأول والأكبر، وسبق خلال الحملة الانتخابية أن انتقد منافسه ترامب أنه لم يكن
حازمًا تجاه الصين، ولذلك سوف يعمل بايدن على ألا يحدث ذلك، أو على تعطيل الصين
اقتصاديًا حتى لا تسلب من أمريكا لقب الاقتصاد الأول والأكبر فى العالم.. غير أن
بايدن غالبًا لن يحاكى ترامب فى سياسة الصدام مع الصين، وإنما قد يحبذ سياسة
الاحتواء التى ابتكرها كسينجر وتبناها الرئيس الأمريكى الأسبق ريجان، والمرجح أن
يستثمر بايدن العقوبات التى فرضها ترامب على الصين لاستكمال الاتفاق التجارى
الأمريكى معها والذى تم قبل هجوم فيروس كرونا للعالم توقيع المرحلة الأولى منه..
وما يرجح ذلك هو استعداد الصين لتقديم تنازلات فى هذا الشأن لأمريكا لتفادى حرب
تجارية لا ترغب فيها بكين مع واشنطن.
- أما بالنسبة لروسيا فإن بايدن على عكس
ترامب يعتبرها تمثل خطرًا أكبر من الصين على أمريكا، وهو يخشى السياسات التوسعية
التى ينتجها الرئيس الروسى بوتين فى العالم، خاصة منطقة الشرق الأوسط، وحزبه سبق
أن اتهم روسيا بالتدخل فى انتخابات عام 2016 لترجيح كفة ترامب، بل وسعى
الديمقراطيون فى مجلس النواب لعزل الرئيس المنتهية ولايته.. ولذلك الأرجح أن يتبنى
بايدن سياسة غير ودية تجاه روسيا.
- وبالنسبة لأوربا فإن بايدن سوف يتعامل
معها كحليف مهم لأمريكا يتعين أن تحافظ عليه حليفًا دائمًا ومستمرًا، وسوف يمد يد
التعاون معها فى مجالات شتى، مثل مجال الدفاع من خلال حلف الناتو، أو مجال المناخ
بالعودة إلى اتفاقية باريس للمناخ.. وسوف ينبذ بايدن مواقف ترامب تجاه الأوربيين،
خاصة تلك التى أزعجتهم وباعدت بينهم وبين أمريكا خلال السنوات الأخيرة.
- وإذا كانت إسرائيل حظيت من ترامب بما لم
تحصل عليه من رئيس أمريكى آخر سبقه، فإن بايدن سوف يستمر فى منح دعمه الكامل
للإسرائيليين ولن يلغى قرار الاعتراف الأمريكى بالقدس عاصمة لإسرائيل، ولن يمارس
ضغوطًا عليها لوقف الاستيطان فى الصفة الغربية، أى لن يسلبها هدايا ترامب الثمينة،
خاصة أن الرئيس المنتخب بثمن حصوله على النصيب الأوفر من أصوات اليهود الأمريكيين
فى الانتخابات.. لكن الأرجح أن بايدن لن يمض قدمًا فى تنفيذ ما سمى بصفقة القرن
التى صاغها زوج ابنة ترامب وارتبطت باسم الرئيس المنتهية ولايته، وإنما سوف يعود
إلى ذات السياسة التى كان أوباما يتبناها ورؤساء أمريكيين آخرين سابقين، وهى
السياسة التى تعتمد حل الدولتين عبر مفاوضات فلسطينية إسرائيلية.
- وأخيرًا فإن بايدن له عبر تجربته
السياسية ملاحظات على منطقتنا العربية، وتحديدا على أسلوب الحكم والعمل السياسى
فيها، أى العمل الحزبى ونشاط المجتمع المدنى وممارسات خاصة بحقوق الإنسان.. وهذه
الملاحظات سبق أن جاهر بها خلا حملته الانتخابية.. غير أن بايدن لم يشارك أوباما حماسه
فى انتهاج سياسة تغيير الأنظمة السياسية فى منطقتنا من الخارج وممارسة الضغوط على
الحكام فيها ليتنازلوا على الحكم بشكل فورى.. وقد كشفت هيلارى كلينتون فى مذكراتها
الشخصية عن تجربتها فى وزارة الخارجية التى سجلتها فى كتاب صدر لها كيف أنها خلال
انتفاضة يناير عام 2011 ومعها مستشار الأمن القومى ونائب الرئيس أوباما بايدن
نصحوا الرئيس الأمريكى بعدم الضغط على مبارك لكى يتنازل عن السلطة فورًا، غير أن
أوباما انحاز لنصيحة مستشاريه الشباب الذين تحمسوا للضغط على الرئيس المصرى وقتها
لكى يترك السلطة فورًا وبدون إبطاء.
هذا بعض مما يتبناه بايدن من رؤى وأفكار
ومواقف وقناعات قبل أن يدخل البيت الأبيض رئيسًا، وبالتأكيد فإنه سوف يتبنى سياسة
خارجية تعبر بدرجات متباينة لهذه القناعات، مع الأخذ فى الاعتبار أنه سوف يمنح جل
اهتمامه، خاصة فى أيامه الأولى بالبيت الأبيض للأمور والقضايا الداخلية التى فرضت
نفسها عليه وهى رأب الصدع الذى أصاب أمريكا وعلاج الانقسام الذى تعانى منه بشدة
الآن، وعلاج أزمة كورونا الضاغطة بحدة على الأمريكان، وأيضًا علاج الأزمة
الاقتصادية التى تؤرق الأمريكان الآن.. وهذا سوف يمنح جميع الفرقاء فى العالم ونحن
منهم، بعض الوقت لتدبر أمورهم وتجهيز أنفسهم للتعامل مع الإدارة الأمريكية الجديدة
التى سوف تُمارس صلاحياتها بداية العام المقبل.
وبالنسبة لنا فى مصر يجب أن ندركً مجموعة
من الأمور والحقائق ونحن نستعد للتعامل مع الإدارة الأمريكية الجديدة، التى تمنى
الرئيس السيسى وهو يقدم التهنئة للرئيس المنتخب أن يتم التعاون معه لمصلحة الشعبين
المصرى والأمريكى معًا.
أولًا: أن تمكين الإخوان من حكم مصر وعدد
من الدول العربية لم تكن فكرة أوباما حصريًا، إنما كانت فكرة طغت على الطبقة
السياسية الأمريكية بما فيها من ديمقراطيين وجمهوريين، وكانت هذه الفكرة حصيلة
دراسات وأبحاث عديدة دارت حول كيف تواجه أمريكا الاٍرهاب الذى طالها وضربها بقسوة
فى حادث سبتمبر، وهى الدراسات والأبحاث التى انتهت إلى الحاجة للاستعانة بالقوى
والجماعات الدينية المعتدلة لمواجهة التنظيمات الإرهابية. ومن يومها سعى الأمريكان
إلى تكثيف الاتصالات مع بعض التنظيمات الدينية التى توسمت فيها خطأ واشنطن
اعتدالًا، وكان فى مقدمتها جماعة الإخوان فى مصر.. كما أن فكرة الفوضى الخلاقة
وتغيير الأنظمة السياسية من الخارج تبناها الرئيس الأمريكى بوش الابن وهو جمهوري،
ومضى قدمًا فى تنفيذها فى منطقتنا بالفعل، ثم جاء أوباما ليستكمل تنفيذها.. وذات
الأمر ينطبق على تكثيف الاتصالات الأمريكية مع الإخوان فى مصر، فقد حدث ذلك فى عام
2005 بعد أن حصد الإخوان 88 مقعدًا برلمانيًا فى الانتخابات البرلمانية، وتنامت
هذه الاتصالات بكثافة أكبر فى عصر أوباما استثمارًا لتزايد الحركات الاحتجاجية فى
مصر.
ثانيًا: أن الإخوان اليوم ليسوا هم الإخوان
عام 2011.. فهم يتعرضون للملاحقة والمطاردة داخل مصر وخارجها، بعد أن فقدوا الحكم
فى مصر والسودان، وتم تصفية الهيكل الأساسى لجماعتهم وتنظيمها المسلح، وتعتبر دول
الخليج باستثناء قطر جماعتهم إرهابية، وزادت شكوك الدول كثيرًا فيها وبدأت بعض هذه
الدول التفكير فى التضييق على أنشطة التنظيم الدولى، بل وحظر هذه الأنشطة وغلق
المنظمات التابعة للإخوان. وإذا كنا نجحنا فى التخلص من حكم الإخوان الفاشى فى عهد
أوباما الذى كان يتبنى فكرة تمكينهم من حكم مصر، ولم نقبل الضغوط الأمريكية بعد
انتفاضة 30 يونيو، والتى وصلت ذروتها بتجميد المساعدات العسكرية الأمريكية لنا،
فإننا بالقطع صرنا أكثر قوة وقدرة على مواجهة أية ضغوط للتصالح مع تلك الجماعة
الإرهابية والسماح للإخوان بالعمل سياسيًا مجددًا.
ثالثًا: شهدت الأربع سنوات الماضية تغيرات
عديدة فى منطقتنا لا يمكن تجاهلها حتى من قبل الدولة الأكبر فى العالم التى لم تعد
هى الدولة العظمى المهيمنة بالكامل على النظام العالمى، بعد أن أخفقت فى أن تفرض
كلمتها كاملة، خاصة فى منطقتنا، وتحديدًا فى العراق وسوريا وليبيا، ورغم إفراطها
فى استخدام العقوبات الاقتصادية لم ترغم إيران على ما تريديه منها، ولم تمنع
أذرعتها فى المنطقة من العمل والنشاط حتى بعد أن وجهت ضربة قاسمة لرجلها القوى فى
المنطقة.. أما بالنسبة لنا فقد أثمرت سياساتنا المنفتحة على كل القوى فى العالم
دعمًا للحفاظ على استقلال إرادتنا، وتقوية جيشنا بتنويع مصادر سلاحه، وزيادة
الروابط الاقتصادية مع الصين وأوربا وروسيا.. أى أننا صرنا الآن ونحن نستعد لتوديع
عام 2020 أكثر قوة اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا من حالنا ونحن نستقبل عام 2016
الذى انتهى فيه حكم أوباما وبدأ فيه حكم ترامب...
رابعًا: كما أن أسلوب إدارة أمريكا
لسياستها الخارجية سوف يتغير أيضًا.. لن يعود الباب الواحد المفتوح أمامنا هو باب
البيت الأبيض وحده فقط، إنما ستكون هناك أبواب أخرى عديدة.. عسكرية ومخابراتية
ودبلوماسية، لأن بايدن سوف يعيد للمؤسسات الأمريكية هيبتها ودورها، كما كان الأمر
قبل دخول ترامب البيت الأبيض الذى استأثر وحده بكل شىء فيه وقلل من شان المؤسسات
الأمريكية المختلفة، لأنه لم يكن من الطبقة السياسية الأمريكية.
خامسًا: أن ثمة اختلاف آخر سوف تشهده عملية
إدارة السياسة الخارجية الأمريكية يتمثل فى الاختلاف ما بين بايدن وترامب فى الرؤى
والأفكار وأيضًا فى اهتمامات كل منهما.. فإن ترامب أدار السياسة الخارجية
الأمريكية بمنطق رجل الأعمال المهتم بعقد الصفقات الرابحةً والبارع فيها كما يرى
فى نفسه، بينما بايدن سوف يدير السياسة الخارجية الأمريكية بمنطق وأسلوب رجل
الدولة الذى ينصت قبل اتخاذ القرار لمساعديه ومستشاريه ويراعى مواقف المؤسسات
المختلفة.. وبالتالى سوف تختلف اهتمامات بايدن عن اهتمامات ترامب فيما بتعلق
بالعلاقة مع مصر.. وإذا كان ترامب لا يمنح اهتمامًا بقضايا حقوق الإنسان السياسية
فإن بايدن سيكون مختلفًا وسيمنح هذه القضايا قدرًا من اهتمامه على غرار ما فعله
رؤساء أمريكيون سابقون معنا، منهم الديمقراطى ومنهم الجمهورى، خاصة أن أمريكا تمنح
نفسها قصرًا منذ سنوات حق تقييم تطبيق حقوق الإنسان فى دول العالم.
كل ذلك يجعلنا نخلص إلى أننا نحتاج لأسلوب جديد
وأدوات مختلفة فى إدارة علاقتنا مع أمريكا فى ظل إدارة بايدن، ونحتاج أن تكون
مواقفنا واضحة ومعلنة مسبقًا ومعروفة بشكل حازم لهذه الإدارة الأمريكية الجديدة،
خاصة تلك القضايا الاستراتيجية المهمة وفى مقدمتها موقفنا الحاسم من اعتبار
الإخوان جماعة إرهابية ورفض اعتبارهم فصيلًا وطنيًا، وبالتالى يستحيل إعادة
إدماجهم فى العملية السياسية، وذلك لغلق الباب أمام أى نقاش حول هذا الموضوع.