السيدة أحلام.. أهدت ابنها "شهيد كورونا" قُبلة الجنة ولحقت به بعد 10 أيام
رغم ما نسمعه كل يوم عن عقوق الأبناء لأمهاتهم، إلا أن هؤلاء الأمهات يبهروننا يومًا بعد يوم بعطائاتهم، وما يقدمونه من تضحيات في سبيل أبنائهم، ربما تصل هذه التضحيات إلى بذل النفس في سبيل فلذة الكبد، وليست السيدة أحلام، مدير انتدابات مديرة التربية والتعليم بمطروح عن هذه التضحيات ببعيد، هذه السيدة التي أسلمت الروح لبارئها اليوم الخميس جراء إصابتها بفيروس كورونا. ليست الحكمة في إصابتها، فكم من سيدة أصيبت خلال الفترة الماضية بهذا الفيروس اللعين لتلقى ربها بعد أيام قليلة من صراعها معه، ولكن الحكمة في سبب رحيلها، حينما أهدت أبنها قبلة الجنة التي أودت بحياتها.
فعل الأم في هذه القصة يتفطر له القلب، ويندى له الجبين، وتتوقف أمامه الفلسفات والدراسات الإنسانية، فهذه الأم أصرّت على تقبيل أبنها الذي رحل عن عالمنا منذ عشرة أيام، جراء الإصابة بالفيروس اللعين ذاته، ورغم علم الأم بخطورة ما تُقبل عليه، إلا أنها تحدت المخاطر وضحت بنفسها في سبيل قبلة أخيرة تضعها على جبين فلذت كبدها، قبّلته الأم، وهي تعلم أنها قد تصاب بما أودي بحياته، وأنها قد تلقاه بعد أيام قليلة، وهذا ما شاء الله به وأراد، ليست العبرة هنا في الموت، ولكن الحكمة كل الحكمة فيما أقدمت عليه الأم، وكم من أم ضحت بسعادتها وحياتها لأجل أبنائها، فمنهم بارٌ كريم، ومنهم جاحد لئيم، إلا أن البر أو الجحود لم يغيروا يومًا، ولن يغيروا في غريزة الأمومة شيئًا، ولم يثنوا هذه الشهيدة العظيمة عن ما اقدمت عليه، وإن كانت تعلم أن الموت في قبلتها لإبنها، إلا أنها فضلت الموت على فراقه دون وداع.
إنها الأم، ما يدريك ما معنى هذه الكلمة، كلمة لن يدرك دلالتها إلا من كان له أم، ومن منا بغير أم، ولكن الدلالة والمقصود هنا واضح ولا يحتاج إلى تأويل وتفسير، فالجميع لديه أم بشكل قاطع، ولكن هل الجميع ابن بحق، هل الجميع ابن بار بأمه، هل الجميع يعرف معنى هذه الكلمة، هل الجميع يدرى أن عطاء الأم يزيد على بره مئات بل ألاف المرات، لن يُدرك معنى كلمة أم، إلا من تربى يتيمًا أو فقد أمه في لحظة مباغتة من عمر طفولته، لن يدرك معنى الأم إلا من لم يرتوي بحنانها جراء هذا الفقد، فشب عوده على اليتم والألم والتيه في منعطفات هذه الحياة.
السيدة أحلام، التي فقدت أبنها أحمد كمال الوكيل، منذ 10 أيام داخل مستشفي النجيله متأثرًا بالفيروس اللعين، لم تعبأ بما قد يحدث لها، وإنما حركتها غريزتها، عاطفة الأمومة، هي تذكرت أنها حملته في بطنها تسعة أشهر، وربته صغيرًا، نبتتة خضراء، اشتد عودها أما ناظريها يومًا بعد يوم، إلى أن أصبح رجلًا في ريعان الشباب، نبتتها الخضراء التي روتها بدماء قلبها أصيبت أمام عينيها بكورونا، فما كان منها إلى أن حزنت وحزنت، حتى أصبحت مثل يعقوب النبي الذي فقد نور بصره حزنًا على فراق يوسف، إلا أن السيدة الشهيدة كانت عاطفتها أقوى من حزن يعقوب. هذه السيدة، قبّلت صغيرها وفقيدها ليجمعها الله به بعد 10 أيام فقط من رحيله، فأي عطاء مثل هذا العطاء، وأي حب يعادل هذا الحب، وأي عاطفة تعادل هذه العاطفة.
لم تشأ الأم السكلى أن تترك فقيدها وحيدًا في قبره، وأبت أن يكون غيرها جليسه وأنيسه في قبره، وأن تكون لجواره في رحاب ربه، لحقت به بعد 10 أيام من رحيله، لاقته لأنها قدمت حبها له على حياتها، لم يأت هذا الحب من فراغ، فالأبن البار بأمه، سكن شغاف قلبها وهو على سرير المرض، كما سكن لجوار قلبها في شهور الحمل، فكانت النتيجة أن الله لم يفرّق بينهما في الدارين..
طبت حيًا وميتًا أنت ووالدتك يا أحمد، وأسكنكما الله فيسح جناته، وأوردكما حوض نبيه، ولعل قصتكما تكون درسًا وعبرة وعظة لكل جاحد لأمه، وتكون أيضًا محفزًا لكل بار بأمه، كي يُقبل عليها بمزيد من الحب والمودة والعطاء، فالجنة في قلب وحب ورحاب الأمهات وتحت أقدام الأمهات.