رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


سعيد الكفراوي.. نجم سطع في سماء «القصة القصيرة»

14-11-2020 | 15:19


لا يُمكن لمن خالط سعيد الكفراوي إلا أن يراه رجلًا ملأته المحبة. عاش مُفعمًا بالود والطيبة بجوار حكايات لا تنتهي، كان يسردها فيجد من أمامه نفسه في رحاب عالم واسع صنعته مخيلة ذلك الرجل السعيد الذي جعل قراءه ومتابعيه يتعلقون بالحكاية.

 كان يكتب القصة -ذلك الفن المُكثّف شديد التعقيد- فيجعلنا ندور في فلك حياة أخرى. حافظ الكفراوي على القصة، ودافع عنها باستماتة في مواجهة تحوّل الآخرين للرواية، وأنتج منها العديد من المجموعات القصصية التي تجمع بين دفتيها حكايات عدة؛ فعل هذا دون أن ينسلخ جلده عن الريف الذي جاء منه، فابتعد عن انبهار المدينة، ليظل حتى لحظاته الأخيرة التي شهدها صباح اليوم السبت، ابن قرية كفر حجازي بالمحلة الكبرى.

 في تلك البقعة التي تُمثّل القرية بكافة مفرداتها، ظهر اهتمام "عم سعيد" بالحكاية. كانت أمامه الكثير من الحكايات التي رغب في أن يصيغ مثلها، هناك حكايات الجدات، وأخرى كانت نساء القرية يتداولنها بينما حولهم الطفل سعيد وأقرانه يلعبون، ثم حكايات مجالس الرجال التي يراها ذلك المراهق. وعندها أدرك أنه لابد وأن هناك المزيد خارج عالمه.

 هكذا نراه انطلق إلى عالم القراءة، فصار شغوفًا أكثر؛ عندها بدأ يتساءل: لماذا لا أُجرّب؟ هكذا بدأت تجربته في بداية الستينيات، عندما كوّن ناديًا أدبيًا في قصر ثقافة المحلة الكبرى بالاشتراك مع رفاق الحلم والتجربة، والذين صاروا فيما بعد أسماء لامعة، نعرفهم جميعًا الآن، فهم الدكتور جابر عصفور، محمد المنسى قنديل، صنع الله إبراهيم، نصر حامد أبو زيد، محمد صالح وفريد أبو سعدة.

وسريعًا، عرف الكفراوي طريقه إلى مجلس نجيب محفوظ الشهير على مقهى ريش بالقاهرة، حيث أدباء "جيل الستينات" -كما أطلق عليهم إدوارد الخراط- الذين انتقل إليهم حلم تغيير العالم عبر ثورة يوليو، وهو نفسه الجيل الذي عاش هزيمة تلك الآمال وقد افتقد الثقة في الأجيال السابقة. هناك رأى الكفراوي الأستاذ نجيب يراقبهم بدهشة، يراقب اختلافاتهم، وعداواتهم، وأنانيتهم، وكان يثق في مواهب البعض من هذا الجيل، حتى أنه عندما كتب مجموعة "تحت المظلة" كتبها بخيال هؤلاء الأدباء الشبان في ذلك الحين. في تلك الفترة عاش الكفراوي واحدًا من أسوأ أوقاته، عندما اعتقله نظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لستة أشهر بسبب واحدة من حكاياته.

أيام سوداء طويلة قضاها ذلك الشاب، الذي لم يكن يملك سوى الحكاية، في مواجهة عُتاة سجن الواحات "كان اعتقالا فكاهيا"، من تلك الكوميديات السوداء حسبما وصف هو نفسه. انتهى الأمر بأن خرج من المعتقل حاملاً حقيبة فيها متاعه، وبداخلها يتكوم أسى مؤلم.

 توجه من هناك إلى مقهى ريش، حيث ندوة نجيب محفوظ. يحكي: "حين حضر كان يعرف حكايتي وطلب مني سردها بالتفصيل الممل. قلت له كاتب معتقل يحقق معه في الصباح إثنان باعتباره شيوعيا، وفي المساء يحقق معه اثنان باعتباره إخوانيا، وهكذا على مدار ستة شهور، وأنا لم أكن هذا ولا ذاك.يومها لاحظت الألم على وجه الكاتب الكبير المقام. يومها قال لي بانفعال: "اقطع هذا الشوط الرديء من حياتك". ثم بعد شهور صدرت "الكرنك" فوضع يده على كتفي وقال لي: "يا كفراوي أنت إسماعيل الشيخ اللي في الرواية".

أخلص الكفراوي للقصة القصيرة. أحب كتابتها واعتبرها الشكل الأمثل للتعبير عن تجربته، تمنى أن يكتب رواية ببنية مسبقة أراد لها الكمال، لذلك لم يكتبها أبداً. رغم أن بعضًا من أعماله اعتبرها بعض النقاد روايات قصيرة، مثل "ستر العورة"، و "يا قلب مين يشتريك" و "البغدادية"؛ لكنه في الواقع لم تشغله هوية النوع. كان فقط يكتب قصة تشبهه، لا ينفصل شكلها عن مضمونها، وتسعى للتعبير عن جماعتها المغمورة. كان يضع نصب عينيه أن كتابة قصة قصيرة جيدة تساهم في اكتشاف الحقائق القديمة التي لا تزال صالحة لإثارة الدهشة، مثلما كان يقول صديقه يحيى الطاهر عبدالله: "كان الكفراوي يرى أن أي كتابة جيدة، فاعلة، ومؤثرة، في كل الأزمنة والفنون الجيدة والتي أنتجت في الماضي هي بنت المستقبل أيضاً بلا شك، وأن الرواية راجت بسبب قدرتها على تناول متغيرات الحياة؛ لكن دون إغفال أنه كما هناك روايات جيدة، فهناك أيضاً قصص جيدة"، وبعباراته: "احتكار زمن ما لفن مغالطة تناقض القيمة. الأزمة تكمن في أن بعض فرسان القصة القصيرة هجروها إلى كتابة الرواية".

لم يرحل الكفراوي عن عالمنا آسفًا، فقد ترك لنا أثرًا من الحكايات، ولمن عرفهم، فقد ترك ما هو أكثر، رصيد من الذكريات يصلح لكتابات جديدة.