رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


كتابات «الكفراوي».. من مصدر الصوت إلى لحظة انهمار اللبن

14-11-2020 | 16:32


كان سعيد الكفراوي يُحب القراءة أكثر من الكتابة، لدرجة أنه حتى لو كان يقرأ، وجاؤه إلهام الكتابة، لا يترك القراءة. شهد على ذلك الكاتب صنع الله إبراهيم الذي كان كلما دخل عليه يراه يقرأ، وهو ما جعله يعلق: "هو أنت هتشتغل قارئًا"، ومن هنا كان إنتاجه قليلًا.

 القرية هي الحاضر الأول في تجربة وأعمال الكفراوي، يفخر، ابن القرية، أن معظم كتاب مصر، وكل من ترك علامة في أدبها، باستثناء نجيب محفوظ، جاء من القرى؛ ومن أبرز ما قاله راهب القصة القصيرة في إخلاصه للقرية، إن الرواية أيضًا ليست بنت المدينة، لأنها خرجت من الأقاليم في أوروبا.

 كانت القرية بالنسبة للكفراوي مكانًا غنيًا لطرح السؤال، والاتجاه نحو المعرفة عن العالم الذي يكتبه، ومنحته الكثير الذي خرج في كتاباته وطريقته في الحياة. كانت أول عطايا القرية هبة لا مثيل لها وهي الصبر، الذي لازمه خلال رحلته مع الأصدقاء والمنافسين على حد سواء؛ وعلمته أنه لا شيء يضيع ولا يفنى، والإنسان وما يقدمه، وكيف يتصدى لأية مظالم. والأهم أنها علمته الكتابة الجيدة، والتأمل والسؤال؛ كان يقول عن القرية: "الوجود والعدم موجودان في هذا المكان، وفيه اكتشفت سؤالي الأول، هي قهر للسعادة وصبر للمجموع، والبيوت القديمة مأوى لأحزان الناس وتطلعاتهم، وإحساسهم تجاه الواقع، فالحياة رحلة تقضيها، ثم تقابل وجه رب كريم".

من القرية تجلت بوضوح العلاقة بين كتابات سعيد الكفراوي والأسطورة. بدأت عبر جدته التي كانت لها علاقة أسطورية مع بقرة لا تُحلب إلا على يدها. حين كان في مؤتمر في العاصمة الفرنسية باريس وروى هذه الحكاية. قال: "ذات مرة ذهبت جدتي إلى المدينة وبقيت هناك ثلاثة أيام، وأبت البقرة أن يحلبها أحد آخر، وكما هو معروف أن الحليب إذا بقي في البقرة يوصلها إلى الموت، وعندما عادت جدتي، وفي وسط الزحمة والضجة، سمعت البقرة صوت جدتي، فنزل الحليب على صوتها، ولهذا أقول: الكتابة بالنسبة لي من مصدر الصوت إلى لحظة انهمار اللبن".

هذه الأسطورة التي جاءت من قلب الواقع، جعلته يؤمن بأنه لا يوجد تعبير خير من الكتابة من الواقع، ولا اصطناع مصطلح أفضل منه. تعمقت علاقة الكفراوي بالأسطورة عندما طالع كتابات بورخيس وإيزابيل الليندي وماركيز، الذين وجد الأسطورة في متن كتاباتهم، ثم تعمق أكثر فوجد أن مصدرها الثقافة الإسلامية، حيث خرج الجميع من معطف ألف ليلة وليلة، ومن ابن عربي والنفري، وحكايات السيد البدوي. منها، استفاد من التاريخ في خلق البديل لما كتبه عن الحداثة، مثلما فعل في قصة "ستر العورة" التي تتحدث عن فلاح مصري ذهب إلى السوق ليبيع بهيمة، لكن سرقها اللصوص قبل ذلك، وظل يبحث عنها باعتبارها كبرياءه الذي ضاع، إلى أن مات، وفي ليلة وقعت البهيمة في ساحة الدار، فخاطبته زوجته وهو بالعالم الآخر: "لو لم تمت، كنا سنربي العيال سوية". قد تكون هذه القصة حلماً استخدمه لفكرة.

 هكذا نرى أن كثيرًا ما ركّز "عم سعيد" في قصصه على الموت. رآه محورًا في مواجهة الحياة، فانشغل في العديد من الجدليات، منها الموت والحياة، الطفولة والكهولة، الأسطورة والواقع؛ لنرى جدليات في الـ 14 مجموعة قصصية التي أنجزها، تعكس سؤاله عن مصير الإنسان.

الموت في خلفية الكفراوي له خصوصية مصرية، تجلت في الحضارات الفرعونية القديمة، مثل اكتشاف البعث والحساب، والصراط المستقيم، ثم القيامة، وفكرة فكرة التحنيط من أجل أن تعرف الروح صاحبها عندما ترتد إليه، وهو ما يعطي فكرة عدم وجود نهاية للحياة. يربط ذلك أيضًا بنشأته في القرية والفلاح الذي يوجد بداخله ذلك الإحساس بالأبدية، وهو يتنحنح عندما يضحك، ويقول: "اللهم اجعله خيراً"، وفي شكل العزاء وشكل الجنازة، علامات على الفناء، لا دلالة لها، بل هي استمرارية للحياة والخصوبة. لذلك، عندما كتب الكفراوي "دوائر من حنين" نقرأ قصة "عميل سرادقات العزاء"، الذي يبحث في المدينة عن سرادقات العزاء، وعلى صوت القرآن والخطب، وحين انتهى، وجد طفلًا يبكي في الحديقة، فكان هذا تلازمًا ما بين الفناء والطفل.

 لم يُفكّر الكفراوي في خطة مسبقة لاختيار عناوينه، بل لم يعتمد على بناء قصصي، كان يصف الأمر بأنه يدخل إلى البذرة كي يبحث في داخلها عن الشجرة الوارفة الظليلة، ويأتي العنوان في منتصف العمل. هذا ما حدث مع "سدرة المنتهى"، وهي الشجرة القريبة من عرش الله. وفي أحيان أخرى لا يأتي العنوان من روح العمل ودلالته، فالمهم في الجو العابر الاستثنائي، تحويل الواقع أو العابر أو العادي إلى استثناء. كان يقول "نحن نكتب لأن الحياة تعيننا على الكتابة، ونفعل هذا بالخبرة".كما أن الكاتب لا ينقل الواقع، بل يمر من خلال مخيلته ليصير فناً. برز ذلك في قصته "قصاص الأثر" التي تحكي عن رجل يحضر المزادات ويرحل، وذات مرة حين زايد على تحفة غالية، ولم يكن معه ثمنها، سجنوه في غرفة تحتوي المعروضات.

هناك وجد مشكاة إسلامية، وراقصة، وعبدا أسود، وفي تلك الغرفة انتبه بلحظة أن الحياة دبت من جديد، وبدأ يرى المشكاة تدور من حوله مضيئة، والراقصة ترقص، وشعر أنه يعيش في زمن من لؤلؤ. في بنائية هذه القصة جعل الكفراوي بطله وكأنه السندباد، تجول في بخارى ومكة والقاهرة.

 ظل الكفراوي إلى صباح يومنا الذي رحل فيه عن عالمنا مُلخصًا لكتابة القصة دون الرواية، لم ينته أبدًا غرضه مع القصة القصيرة، التي كان عبرها يحاول أن يفهم أرواح الناس، من خلال كتابة تشبهه. لكن الرواية، كان يراها تحتاج إلى جهد روحي. لفترات تراكمت لديه العديد من مشاريع لروايات لم تكتب، ومنها "حافة الخليج"، وهي عن تجربة مدرس مصري في السعودية، وتركز في مجملها على القصاص وقسوة الواقع، وقبلها فكرة رواية أخرى عن شخص اسمه "بطرس الصياد"، وهو مسيحي أنتج فليما عن تجلي العذراء، ما أثار العديد من الإشكاليات مع من حوله؛ لكن، لم يكتب منها شيئًا.