وكان الحل هو
إشعال النار في القاهرة وقد جاءت الفرصة عندما هجمت دبابات الانجليز على محافظة
الإسماعيلية ودکتها دکا . وتصدى لها الف جندى مصرى من جنود الشرطة بأسلحة قديمة
ووسائل بدائية . وكان النصر بالطبع لدبابات السنتريون ومدافع الهاوند . وسقط في
المعركة نحو مائة شهيد من عساكر الشرطة . ومثلهم من أفراد الشعب . وقتل عشرون
جنديا من عساكر الجيش البريطاني أحدهم ضابط برتبة عقيد ؛
وثارت الجماهير
في القاهرة احتجاجا على المجزرة . واشترك في المظاهرات الصاخبة مئات من جنود
الشرطة بقيادة ضابط برتبة نقيب هو عبد الهادی نجم الدين ، ولكن الأيدي القذرة
استغلت الفرصة واشعلت النار في القاهرة من خلف ظهر المتظاهرين ! واكلت النار فيما
أكلت فندق شیرد الشهير ملتقى حكام مصر من انجليز ووطنيين ، والتهمت شارع 36 يوليو
( فؤاد سابقا ) ودمرت قلب المدينة وامتدت النار الى الضواحي حتى وصلت الى حلوان .
وتمت المؤامرة
فصولا حين أمر الملك قوات الجيش باحتلال المدينة لحفظ النظام وعندما سيطرت القوات
الموالية للملك على العاصمة أصدر قرارا باقالة وزارة مصطفى النحاس باشا ، واستدعى
رجل المناسبات الجاهز والمستعد على ماهر باشا ، وبدا أن الأمور قد عادت الى وضعها
الطبيعي في نظر القصر والانجليز !
ولكن على ماهر
ارتكب غلطة العمر عندما وقف أمام مجلس النواب يقدم حکومته فأشاد بخير خلف مصطفى
النحاس . وكانت غلطة لأنه لم يدرك أن حريق القاهرة لم يستهدف أحدا الا مصطفى
النحاس ، ولم يكن يهدف الا لازاحة حكومة الوفد وطردها من الميدان ! ولذلك سرعان ما
أقيل على ماهر باشا وجاء أحمد نجيب الهلالي باشا لتبدو جمیع عورات النظام مكشوفة
وبلا شيء يسترها على الاطلاق ! فقد ألف الوزارة من بعض بطانة الملك السابق ، وبعض
الموتورين من حزب الوفد . وبدلا من التحرير رفع الهلالي شعار التطهير ولم يكن
المقصود به تطهير البلاد من عساکر الاحتلال ، ولكن تطهيرها من حزب الوفد أولا ،
ومن الشيوعيين والوطنيين والديمقراطيين ثانيا ، ومن المشاغبين عموما .. وفي كل حال !
واطبقت سجون
مصر على زهرة شباب الأمة وسيق الفدائيون الى المعتقلات بعد تجريدهم من السلاح ،
وفرضت الرقابة الصارمة على الصحف القومية ، واطبق الصمت الرهيب على مصر ، وغاص
العمل السياسي تحت الأرض ، وعادت مصر من جديد الى دوامة الارهاب ، وانتشر الهمس
بين الناس حتى أصبح الهمس لغطا ثم ضجيجا .. واصبح مطلب الجميع سقوط الملك !
ولكن وزارة
الهلالي لم تلبث أن ترنحت ثم عادت من جديد ، وبعضوين جدیدین آثارا لغطا شديدا بين
الجماهير ، کریم ثابت وزيرا للقصر الملكي ، وصهر الملك فاروق وزيرا للحربية ، وكان
شابا في مقتبل العمر ، وزوجا للأمبراطورة السابقة فوزية التي كانت يوما ما
امبراطورة وزوجة لشاه إيران !!
وهكذا أصبح
الحكم في مصر أضحوكة وباتت السلطة في معزل عن الجماهير ، ووقفت الجماهير بعيدا عن
السلطة في حذر ومترقبة في غيظ . ولكن لم تمض عدة أيام على قيام الوزارة الجديدة
التي كانت تستنشق هواء البحر على شاطىء الاسكندرية حتى فوجيء الناس بقيام أعظم
وأمجد حدث في تاريخ مصر الحديث وهو قيام ثورة ۲۳ يوليو .
وكانت هدية
السماء لشعب مصر .
محمود السعدني