صاحب القلم الساخر والأسلوب اللاذع واحد من رواد الكتابة الساخرة في الصحافة العربية، هو الشقيق الأكبر للفنان صلاح السعدنى، وعُرف بدوره البارز فى تأسيس العديد من الصحف
والمجلات العربية، إنه الكاتب الصحفي الكبير "محمود السعدنى"، الذي تحل اليوم الجمعة 20 نوفمبر ذكرى ميلاد.
عاش "الولد الشقي" ميسرة طويلة من الإبداع قضاها متنقلاً بين بلاد الله الكثيرة، يختفى
ويظهر، يكتب ويسخر، حيث كان معروفًا بصراحته الشديدة وجرأته النافذة، فكانت الأوساط
الثقافية والفنية يهابون رأيه ويثقلون لنقده ميزانًا، كتب العبقري الراحل خلال
رحلاته وأسفاره مئات المقالات التى أثرى بها الحركة الأدبية، ومنها ما كان
تسيطرًا لسيرة كل من عاصرهم فى حياته من السياسين والصحفيين والأدباء والفنانيين وهذا
ما كان عليه فى كتابه "مسافر على الرصيف "، الذي نستعرض في السطور التالية من خلاله ذكرياته وحكاياته عن أدباء وفنانين مصر.
في كتاب "مسافر على الرصيف" يتناول
"السعدني" جانبًا من سيرة بعض أدباء مصر، وفنانينها الذين شاء القدر
والحظ بهم أن يعيشوا معًا في زمن واحد وأن يجتمعوا معًا طويلاً، ثم انفضوا بعد أن
شكلوا جزءًا من روح مصر وقطعة من عقلها فأشاعوا المرح والحب وشقوا طريقهم في الحياة
وكل منهم يحمل في يده شمعة حجبت عنا ظلمات الجهل وثوابته الراسخة.
أنور
المعداوى
يرى
" السعدنى" أن مأساة الناقد والكاتب الكبير "أنور
المعداوى" ستظل فريدة في تاريخ المآسي لأنه لم يكن ضد ثورة 1952، ولم يكن ضد
جمال عبدالناصر ولكنه كان ضد الأدباء والكتاب الرسميون لكل عهد، وهم بالأصل كان
البعض منهم ضباطًا فى القوات المسلحة، ثم اعتزلوا السلك العسكرى واحترفوا العمل
الأدبى وأصبح الكثير منهم مندوبى القادة فى الشعر والأدب والفن.
ما أثار حفيظة "المعاداوى"
كثيرًا أن واحدًا من هؤلاء أًصبح رئيسًا لتحرير مجلة "الرسالة" والتي كانت له علاقة وثيقة وتاريخية وعاطفية بتلك المجلة، وكان واحدًا من أبرز كُتابها، فكان أول من سلط الضوء فيها على أشعار "نزار القباني"، وأول من
بشر على صفحاتها بأدب "نجيب محفوظ"، وعندما عادت "الرسالة"
إلى الصدور فى بداية الخمسينيات كانت صورة مكررة من "مجلة آخر
ساعة"، ومجلة "الكواكب"، فقام "المعدواي" بمهاجمة رئيس
التحرير الذي كان في جعبته مجموعة من الكتاب الهواة، مما أثر على إنتاج "الرسالة"، إلى أن انتهى الأمر بعد سجال طويل بين الطرفين إلى تولى "المعداوي" رئاسة
تحريرها، وكان هذا بداية محاولة تضييق الخناق عليه فقد أطيح به من عمله وفُصل بطريقة
خبيثة، لينقطع صرف مرتبه، وضيقوا الخناق عليه فلم يعد يستطيع أن ينشر حرفًا من
إنتاجه، ولم تكن تلك المأساة الوحيدة التي جابهته فكانت قصة موت أفضل ناقد لم تنجب
مصر من طرازاه إلا عددًا قليلاً، يشرح "السعدني" كيف انتهت حياة مفكر
عظيم لو اتيحت له الظروف المناسبة لترك في مصر أثرًا ربما فاق به الأثر الذى تركه
"عباس محمود العقاد"، فقد عاش حياته على الكفاف لذلك مات مقهورًا
وانفجرت شرايينه دماغه من شدة الغيظ.
عباس
الأسواني
يعتبر
"الأسوانى"أعظم محدث ساخر عرفه تاريخ مصر، فكان حديثه يقطر سخرية وفكاهة
في نفس الوقت، فيروي قصصًا قصيرة وهو يحكى لو كتبها بنفس الطريقة التى يحكى بها
لكان أفضل بكثير من "مارك توين"، جرب كل ألوان الكتابة، كتب القصة القصيرة والرواية
والمسرح والمقال ولكن موهبته الحقيقة لم تظهر إلا فى "المقامات
الأسوانية"، ولو كان مهتمًا بها لكانت أفضل من مقامات الحريرى وبديع الزمان
الهمذاني، وذلك لأنه لم يكن يهتم فى مقاماته بمشاكل مصر الحقيقية، لم يهتم
بالمشاكل الحقيقية التى تواجه البشر العاديين واهتم بمشكلة واحدة وهي كيف أن يكون
بإستطاعته أن يكسب ويسهر ويعمل وينشر إنتاجه ويحصل على الأجر الذي يريده ولذلك ضحك
الناس على الصياغة ولم يتوقفوا عند المضمون.
ويرى
"السعدنى"أن المأساة الأسوانية هي جزء من مأساة مصر، ولكنها بالرغم من كل
شيء أٌل من مأساة رشدي صالح وغيره لأنه لم يطر إلى ركوب المنبر أو قيادة حزب ولكن
عاش رغم مأساته مجرد مواطن يريد أن يعيش، ولكن أسوأ ما في الأمر أنه قام بتبديد
إنتاجه الأدبي في نكات حارة وغمزات مريرة وقفشات لاذعة أطلقها في سهراته وقعداته، وسجل أقلها في سطور على ورق مطبوع، ولو أن الظروف كانت مواتية لكسب مصر فنانًا
عملاقًا ليس له نظير.
عدنان
الراوى
كان
"عدنان الراوي" شاعرًا يرى أن للشعر وظيفة واحدة هي القتال ضد أعداء
العروبة، ولذلك كان أول من اضطهده نظام عبدالكريم قاسم، لذلك كان يأتي إلى مصر
هاربًا من جحيم بغداد، كان يرى "الراوى" أن العراق هي أهم جزء في الوطن
العربي وأخطره أيضًا، حتى أخطر من فلسطين، لأن فلسطين تقع في قلب الأمة، والعرب
حولها من كل مكان، إنما العراق هي نتوء خارج من جسم الوطن العربي ويحيطه أغراب من
كل جانب، فالخطر عليه أكبر، فلو ضاعت منه قطعة وراء قطعة فمن المستحيل أن تعود.
وجد "السعدني"
الشاعر العراقي "عدنان الراوي" أنه لم يكن سعيدًا بإقامته بالقاهرة
بالرغم من أنه في مأمن عن الخطر يتغنى بشعره عن بغداد، إلا أن كان يشعر بالقلق
والضياع في مصر بسبب الإهانات التي كانت تلحق به من صغار الموظفين الذين يعملون فى
أجهزة الدولة، فكان يؤثر العودة إلى موطنه رغم كل شيئ.
أصبح "الراوى"
فى أيامه الأخيرة خائفًا من الموت والمرض خوفًا من أن يموت وهو بعيد عن مسقط رأسه، إلا أن يشاء القدر أن يُصاب بمرض السرطان وينتشر في جُل جسده، ليدخل المستشفى عدة
شهور ولكنه ظل متمسكًا بعادة قديمة له، فكان يكتب خطابات يومية لأصدقائه يشرح لهم
مرضه وتطوراته ويضمنها أبياتًا من شعره كتبها حديثًا، وكان شعره في ذاك الوقت في غاية العذوبة والصفاء.
نعمان
عاشور
يعتبر
"السعدنى "الكاتب المسرحى الكبير "نعمان عاشور" أفقر الأدباء
المصريين الكبار، فقد خرج نعمان من الدنيا بفيلا على حافة الصحراء الشرقية في المعادي، ويعيش وحيدًا بعد أن رحلت زوجته عنه، والسبب أن نعمان لم تسمح له ظروف
"كتابته" بالإسترزاق الواسع فهو كتب للمسرح أعظم إنتاجه عندما كانت أعظم
مسرحية تباع ب500 جنيه، وكتب بعض إنتاجه للإذاعة عندما كانت السلسة الشهرية يدفع
عنها 300 جنيه، فقد اهتم في بداية حياته بكتابة فصول عن تاريخ مصر، ثم حاول كتابة
القصة القصيرة، ولكنه لم يوفق فيها، فكان حوار الشخصيات في قصصه حوارًا مسرحيًا
بلاشك.
يعتقد "السعدني" أن نعمان
عاشور رغم ما قدّمه للمسرح العربي، إلا أنه تم تجاهله نقاد النظريات التي روجت كثيرًا لأعمال أقل
شأناً من أعماله، والتي ذهب بعضها بعيدًا، فرفع"ميخائيل
رومان" درجات فوق "نعمان عاشور"، حيث يرى "السعدني" أن هناك أقلام كثيرة هاجمت نعمان
عاشور وطاردته حتى في الفترات التي اعتكف فيها وكف عن الكتابة ولكن من المؤكد أن
تاريخ مصر الحديث سيذكر أنها أنجبت "نجيب محفوظ" في الرواية و"يوسف
إدريس" في القصة القصيرة و"نعمان عاشور" في المسرح و"صلاح
عبدالصبور" في الشعر.
يقول
"السعدني" أن "نعمان عاشور" كان صاحب الفضل الأول في بزوغ
نجم المسرح الحر، وهي التي كانت البداية الحقيقية للنهضة المسرحية التى بلغت
ذروتها في الخمسنيات والتي أنجبت فرقة الخميسي، فلو كان في مصر رغبة حقيقية في إعادة الروح إلى المسرح المصري في ذلك الوقت لكان لـ"نعمان عاشور" حجرة
المدير في المسرح القومي، ولكن بالرغم من كل شيء كان أحد أبناء مصر العظام الذين
أسهموا بجهد خلاق في إثراء روح مصر العظيمة.