رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


سيف المعز وذهبه

20-11-2020 | 18:07


 

اضطربت مصر بعد موت كافور. واختل الأمن، وازداد الغلاء، واصبح المرء لا يأمن على نفسه اذا سار في الطريق بعد العصر ؛ وقال الشيخ شمس الدين الذهبي في تاريخه : وطمع الفلاحون في الجند، وامتنعوا عن وزن الخراج، فعند ذلك كتب أعيان مصر إلى المعز الفاطمي - وكان في بلاد الغرب - بأن يحضر الى الديار المصرية، ويتسلم المدينة ويتولى عليها، فلما وقف المعز على تلك المكاتبات أرسل الى مصر الأمير جوهر القائد الصقلي ومعه مائة ألف من عساكر الغرب !

وهذا الذي ذكره الشيخ شمس الدين الذهبي. فعند ذلك كتب أعيان مصر الي المعز الفاطمی، ! أعيان مصر هم الذين استدعوه ليحكم مصر، اليجبر الفلاحين على دفع الخراج، ليحمي الأعيان من قطاع الطرق والصياع الذين بلا عمل، والفقراء الذين بلا مال ! وسنرى هذا السلوك يتكرر في تاريخ مصر الحديث، أعیان مصر هم الذي ذهبوا الى محمد على يركعون عند قدميه طالبين منه أن يتفضل ويحكم مصر اوأعيان مصر هم الذين استنجدوا بالجيش الانجليزي ليضرب ثورة عرابي وليعيد الأمن الى ربوع مصر ! وأعيان مصر هم الذين طالبوا من أنور السادات أن يرفع شعار سيادة القانون، لكي يستردوا أراضيهم المصادرة، وقصورهم التي انتزعتها منهم الثورة ا وكانت صرخة حمدي عاشور وزير الحكم المحلي واحد و الضباط الأحرار في وجه أنور السادات في أول يوم تولى فيه السلطة، هي اول استغاثة من جانب الأعيان للسلطة الجديدة : ياسيادة الرئيس احم العمل التنفيذي من العمل السياسي ! وبعدها قال أنور السادات قولته الشهيرة : الاتحاد الاشتراكي يخدم ولايحكم، ! وسار هذا دستور السلطة وقتئذ، الخدمة للاتحاد الاشتراكي والحكم للاعیان.

المهم، أن المعز لدين الله جاء بناء على طلب من أعيان مصر، وجاء المهمة محددة هي حماية الأمن وحكم البلاد، وعندما دخل جوهر الصقلى لم تعجبه عواصم مصر الثلاث التي اندمجت فصارت مدينة واحدة، فقرر بناء عاصمة جديدة واختار لها مكانا مناسبا عند سفح جبل المقطم في اقصی الشمال من الفسطاط عاصمة العرب الأولى , وقد اطلقوا على العاصمة الجديدة في البداية اسم المنصورية، ثم غيروا اسمها الى القاهرة واقاموا حولها سورا من الطوب اللبن، وجعلوا لها ستة أبواب، اربعة منها في الجهات الأصلية، وبابان، سريان كان يعرف أمرهما قائد الجيش والخليفة شخصيا، وعندما انتهى بناء السور جاء المعز لدين الله، ودخل المدينة ذات يوم من أيام شهر رمضان.. ولغط الناس باصله وفصله عند دخوله، فمنهم من نسبة الى النبي ومنهم من نسبة الى أصل مجوسي.. وكانت الأغلبية من انصار هذا الرأي ! وجاء المعز ومعه الفان وخمسمائة جمل موسوقة ذهبا خالصا، وكان معه من القماش والتحف مالم يسمع بمثله - !!

 

ولكن. وأيا كان الأمر في أصل المعز وفصله ومهما قيل عن ثروته وذهبه وسيفه، فالذي لاشك فيه أن كل العصور التي مرت في السابق كانت شيئا والعصر الفاطمي شيئا اخر. فهذه بالفعل دولة الانفتاح والكذب والرشوة. وهذا هو عصر الاقارب والمحاسيب والأنصار، وستعود الدولة المصرية الاسلامية الى عصر فرعون الذي ولى، دولة غنية وشعب من الفقراء. وأسرة حاكمة تملك كل شيء، وشعب لايملك الا صلاة النبي ! وسيصبح لمصر من الآن ولمدة أقل بقليل من ثلاثة قرون من الزمان. دولة بكل ما في كلمة دولة من معنی. جیش مقاتل كل أفراده اجانب ومرتزقة. وزارة بتولي أمرها القائد جوهر الصقلي، وجهاز اعلام هو اخطر جهاز اعلامی انشاه العرب في العصر الوسيط. وهو بلا شك كان اكثر تنظیما وأكثر تأثيرا من جهاز الدكتور حاتم، رغم أن حاتم كان يعيش في عصر الراديو والتليفزيون والسينما والقمر الصناعي واجهزة التسجيل ! وكان داعی الدعاة هو وزير الاعلام بلغة العصر الحديث.

وكانت مهمة الجهاز التقليدية هي نشر المذهب الفاطمي وتجنيد الأنصار، ولكن مهمته الرئيسية كانت هي الحفاظ على أمن الدولة والعمل على استمرارها وجمع المعلومات ايضا وشراء ذمم الناس، ولم يجد المعز الدين الله أية معارضة حين أبطال العمل بالمذهب السني في مصر. وتحول الناس جميعا في هدوء الى المذهب الفاطمي. وتم هدم مسجد عمروبن العام. أول مسجد اقيم في الإسلام على أرض مصر، وحل محله المسجد الأزهر، وهو اقيم في الأصل كجامعة لتدریس علوم المذهب الفاطمي على وجه الخصوص، وعندما احرقت السلطة كل كتب السنة لم يرتفع صوت واحد بالاحتجاج، انصرف الناس الى اعمالهم كالعادة واهتموا بشئونهم كما كانت الحال من قبل، شاعر واحد رفع صوته بالاحتجاج، لم يهتم التاريخ بذكر اسمه. واسرعت السلطة فضربت عنقه أمام باب الجامع الازهر بعد صلاة الجمعة. ثم هدا الجو تماما، وصفت الأحوال، وانتهى كل شيء، فلم تعد هناك معارضة، ونزع مشايخ الاسلام زيهم القديم الأسود شعار العباسيين وارتدوا الزي الأخضر شعار دولة الانفتاح ! وقد يسال : لماذا هذا السلوك من جانب المصريين في مواقف تاريخية خطيرة ؟

والجواب أن هذا ليس سلوك المصريين، ولكنه سلوك مصر الرسمية قشرة رقيقة من شعب مصر في طبقة الأرزقية والاذناب، وستجدهم بكثرة في العصر الوسيط وفي العصر الحديث أيضا.

ولكن هؤلاء يذهبون دائما في مجرى التاريخ، وتبقى روائحهم تزکم الأنوف الي ما لا نهاية !

وهكذا، أصيح لمصر أيضا ولأول مرة في العصر الإسلامي، سيدة اولى، وهي السيدة ست الملك. وكانت امرأة ذات شخصية طموح، وكان المعز الدين الله يهابها، وبلغ من سطوتها أنها كانت تتصل مباشرة برئيس

الوزراء والوزراء قواد الجند وتأمرهم فيطيعون، ولم تكن ست الملك زوجة اللمعز لدين الله.. ولكنها كانت أخته. وقد حازت من أراضي مصر مليفوق الحصر. واشتغلت بالتجارة، وكانت تقبل الهدايا من حكام الأقاليم والولاة، وعندما ماتت حصروا تركتها فوجدوا عندها من الذهب العینی ثلاثمائة صندوق، ومن الفصوص الياقوت الملونة خمسة صناديق، اللؤلؤ خمسة صناديق، ووجد لهل مدهن من الياقوت الأحمر وزنه سبعة وعشرون مثقالا لم يحص له ثمن، ووجد لها من الأثواب الحزير ثلاثون الف ثوب !!

وإذا كانت مصر من اوائل دول الأرض التي حكمتها النساء أحيانا مباشرة واحيانا عن طريق غير مباشر، فإن التاريخ سيذكر لست الملك انها كانت المراة الأولى التي حكمت مصر في ظل الاسلام، وان الأمر الآن قد أصيح عاديا في دولة الانفتاح الجديدة، كانت هناك أم الأبطال التي تحكم

بصراحة، وستجد الى جانبها أم البطل صاحبة كازينو الليل في شارع الهرم، ام بادرة الشهيرة بالمبادرة التاريخية التي فاقت أول رحلة للانسان على سطح القمر !

ولقد مات المعز بعد سنوات اريع من ولايته، وخلفه ابنه العزيز بالله، وكان عادلا ورحيما ومحبا لخلق الله، وهو الذي استوزر بعقوب بن کلس من اقباط مصر، وجعل قبطيا اخر اسمه فسطورس عاملا على سائر جهات مصر، واستخدم يهوديا عاملا على دمشق. وتزوج من قبطية، وعاشت مصر في عهده في بحبوحة ورغد، وذاقت طعم الأمن بعد سنوات طويلة من الرعب والضياع. وامتدت ولايته واحدا وعشرين عاما، وعندما مات خلفه ابنه الحاكم بأمر الله، وهو واحد من أغرب شخصيات مصر على الإطلاق، فهذا الصبي الذي تولى السلطة وهو في الحادية عشرة، والذي كان والده شيخ المذهب الفاطمي وامه شقيقة بطريرك أقباط مصر، جن جنونه فجاة وهو بقيع وحيدا في مغارة على قمة جبل المقطم، وشعر بان صوتا بناديه ويدعوه إلى التوفيق بين دين النصارى ودين المسلمين. واستخراج دین جدید. ولقد بدا الصبي الصغير في البحث عن هذا الدين الجديد على الفور، وهداه تفكيره الى انه مادام الله واحدا أحدا , فلماذا الأيتوحد جميع الأنبياء في واحد فقط ؟ ولماذا لا يكون الحاكم بأمر الله هو هذا النبي الواحد ؟ ولكن عين الدولة كانت تراقب كل شيء عن كثب وكان القلق ينهش قلوب كل أفراد الأسرة الحاكمة خوفا من هذا الانقلاب الذي پوشك الحاكم بأمر الله أن يقوده ! وكان اکثر افراد الاسرة قلقا ست الملك عمته. وقال بعض المؤرخين : انها ليست ست الملك، ولكنها بيت النصر اخته، وان ست الملك ماتت في عهد ولاية المعز، وأيا كانت السيدة التي تامرت ضمد الحاكم بأمر الله، وهل هي ست الملك أو ست النصر، فهي على كل حال ست والسلام ! وقد انضم إلى المؤامرة فوق افراد الأسرة الحاكمة قائد الجيش سيف الدين ابن رواش.

وذات مساء خرج الحاكم بأمر الله من قصره كالعادة يركب حماره الاشهب، ويضع بردته على كتفيه، وبينما كان صاعدا الى جبل المقطم هجم عليه عدد من العبيد السود الاشداء فقتلوه , ولم يعرف احد بقتله حتى عاد حماره الأشهب ذات صباح الى القصر وعليه بردة الحاكم بأمر الله وقد تلطخت بالدم، عندئذ تأكد الناس في القاهرة من قتله، ولكن البحث الطويل لم يسفر عن العثور على الجثة. وقد انتصرت السلطة على أعوان الحاكم وأفراد التنظيم الذي كان يعمل لنشر الدين الجديد في الخفاء، وكان اعضاؤه جميعا من الشباب صغيرى السن، وقد تم القضاء عليهم بضربة واحدة والى الأبد، كما اعلن داعی الدعاة بعد ذلك ؛ ولكن ولدا واحدا استطاع الإفلات من قبضة المباحث الفاطمية، وتسلل من مصر هربا تحت جنح الظلام واجتاز صحراء سيناء الى بر الشام، وراح بیشر في بداية الشام و في وادي اليتم بالدين الجديد، وأعلن أن الحاكم بأمر الله قد رفع الى السماء، وانه المهدي المنتظر الذي سيعود أخر الزمان ليصلح الأرض من الشرور ويقيم العدل قبل يوم الموقف العظيم، ولد واحد اسمه عبد الرحمن الدرزي، والي اسمه انتسب معتنقو الدين الجديد : الدروز !

ولكن الدولة الفاطمية التي نجت من السقوط بموته راحت تكيل التهم له، ورمته بالجنون، وبأنه حرم أكل الملوخية ومنع النساء من ارتداء الكعب العالى.. الى اخر هذه التهم الساذجة التي صدقها العامة واصبحت بعد ذلك جزءا من التاريخ ! وتولى ابنه على وجلس على سرير الملك باسم الظاهر لدين الله. وماتت اخته ست النصر، وكان بين تركتها اربعة الاف جارية وثلاثون زیرا صينيا مملوءا من المسك السحيق وذهب الحاكم بأمر الله بسره الى قبره، ولم يعرف أحد هل كان إلها أم رسولا ام مظلوما ؟ ظلمته الأسرة الحاكمة فقتلته وظلمه عبد الرحمن الدرزی فنسب اليه مالم بكن فيه ! *

ولكنه على أية حال ذهب. أعجوبة مصرية أخرى، وما أكثر ما انجبت مصر من اعاجيب !

محمود السعدني