رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


باروخ سبينوزا ..حياة قصيرة ومسيرة استثنائية حافلة

24-11-2020 | 14:47


تحتفي الأوساط الثقافية اليوم الثلاثاء 24 نوفمبر بميلاد فيلسوف القرن الـ 17 "باروخ سبينوزا"، الذي قدّم العديد من أعماله عن الأخلاق والدين، وكان له منحى خاص به عن الله والوجود الإنساني والكون.

عُرف "سبينوزا" بإستقامة أخلاقه وخط لنفسه منهجًا فلسفيًا يعتقد فيه أن الخير الأسمى يكمن في "فرح المعرفة" أي في "اتحاد الروح بالطبيعة الكاملة"، وقد تعرض في سنوات عمره القصيرة للعديد من الإنتقادات الواسعة جراء فلسفته التى حاول فيها الخروج عن إطار الصورة التقليدية لأفكار المجتمع وخاصة فيما يخص المعتقدات الدينية، التي كان تعتبر من ثوابت المجتمع وركائزة العصية دائمًا على النقد والتعديل، فتصوراته الجديدة كانت بمثابة النار في الهشيم التي تركت ورائها آثارًا لا تُمحى.

ولد"سبينوزا" في مثل هذا اليوم 24 نوفمبر من عام 1632م، في أمسترادم، هولندا لعائلة برتغالية، كان والده تاجرًا ناجحًا فى أمسترادم، ولكنه كان متعصبًا منحازًا لديانته اليهودية بشدة، لذا قد تولى عدة مناصب دينية في المجتمع اليهودي فى تلك الحقبة، وقد كان الإبن الثاني لأبيه، وقد توفت والدته وهو في سن السادسة، درس البرية والتلمود فى مدرسة يهودية "يشيفا"، ولكن طبيعته المتمردة والناقدة جعلته منبوذًا من أهله ومن الجالية اليهودية في هولندا، وذلك بسبب أفكاره بشأن أن "الله يكمن في الطبيعة والكون"، وأن النصوص الدينية ما هي إلا أقنعة ومجازات غايتها الجوهرية أن تعرف بطبيعة الله.

لم يُعد " سبينوزا" لأن يكون كاهنًا يهوديًا بالرغم من تلقيه تعليمه في مدارس الجالية اليهودية، وتعمقه فى دراسة التوارة والتلمود، فقد كان دائمًا تلميذًا ذكيًا ودؤوبًا ونشيطًا، بعد وفاة والده وأخيه الأكبر تولى تجارة أبيه الكبيرة، وأفلست شركاته وتراكمت عليه الديون، واعتمد على القليل منها ليكمل دراسته، بعد تخرجه انشغل في صنع العدسات الطبية وقد كان ذلك العمل نادرًا في تلك الفترة، ولكنه كان يكتسب منه قوت يومه ومتطلبات حياته، وبالرغم من ذلك كان شغوفًا بعمله لأن تلك المهنة كانت ذات جانب نظري متعلق بعلم البصريات والجانب العملي كان يتعلق بخبرته التي اكتسبها بمرور الأيام.

في عام 1653م، بدأ بدراسة اللغة اللاتينية إلى جانب المفكر "فرانسيس فان دين إيندن"، الذي قدم لـ"سبينوزا" النمط الجديد من التفكير حيث تطرق إلى أساليب الفلسفة الحديثة، وقد اعتمد اسمًا لاتينيًا له هو "بنيديكتوس دى سبينوزًا" وبدأ عمله كمدرس، مما فتح أمام أفاًقًا كثيرة اطلع من خلالها على الأفكار العقلانية والمنطقية التى تتبناها الجماهير المناهضة لسيطرة الكنيسة والكهنة والقساوسة على جميع مناحي الحياة، فقد كان المجتمع يدور في فلك معتقدات الكنيسة وأعرافها والقواعد التي تسنها لتكون إطارًا عامًا يشمل جميع فئات المجتمع بداخله، مما جعله في صدام دائم مع السلطة حيث كانت بمثابة حرب بين الأفكار التنويرية الجديدة التي تسعى إلى خروج المجتمع من بوتقة الكنيسة والتمرد على المنظومة القيمية.

يضع "سبينوزا" تصوره الخاص عن مفهوم الغايات الإنسانية فيستبعد الثروة والشهرة واللذة بإعتبارها ليست الهدف الحقيقي للإنسان النبيل الذي يسمو نحو السعادة، لأن تلك الأشياء ما هي إلا وسائل وليست هدفًا بحد ذاته، فيرى أن لابد أن يكون هناك إتساقًا بين تلك الوسائل والأهداف فكيف يستخدم وسائل مختلفة بطبيعتها عن هذه الأهداف، فالوسيلة يجب أن تكون من طبيعة الهدف، ولا يجد "سبينوزًا" طريقًا لتتحقق تلك المعادلة سوى العقل المستنير والتفكير القويم، فالعقلانية هي السبيل الوحيد لوصول الإنسان إلى السعادة والفضيلة.

وضع "سبينوزا" نظريته حول "العقل والجسد" في مقابل نظرية "ديكارت"، التي تُعد في حقيقتها إعادة صياغة لنظريات العصور الوسطى، حيث اعتقد "ديكارت" بأن الإنسان مكون من جوهرين منفصلين ومختلفين هما "جوهر مفكر وهو "العقل"، وجوهر ممتد وهو "الجسد".

يتصور"ديكارت" أن العقل والجسد منفصلان عن بعضها البعض ولكنها في نفس الوقت موجودين معًا، ووجودهما معًا ليس ضروريًا بل عارضًا، لأن الجسد يمكنه أن يوجد بدون عقل في حالة الأطفال والمجانين والحيوانات، بينما العقل يمكنه أن يوجود بدون الجسد في حالة النوم أوبعد موت الجسد، وفي مقابل تصورات "ديكارات" عن ثنائية "العقل والجسد" يعتقد "سبينوزا" فى منحى جديد لم يتطرق له أحد من قبل، فيرى أن العقل والجسد شيئًا واحدًا، وذلك من خلال منطلق وجود جوهر واحد يحمل صفتي الفكر والإمتداد في نفس الوقت، فالعقل والجسد لديه صفتان لجوهر واحد.

من أهم أعمال "سبينوزا" كتاب "مبادئ الفلسفة الديكارتية" وكان أولى أعماله الفكرية، وقد كان كتابه "الأخلاق" من أكثر أعماله التي تركت تأثيرًا واسعًا في الأوساط الثقافية، وكذلك كتابه "رسالة اللاهوت والسياسة"، فهو إشكالية نقدية تضع تصوراتها عن العلاقة بين الدين والسياسة، والمؤسسة الدينية المتمثلة في الكنيسة وبالدولة، وقد كان آخر عمل له "رسالة في السياسة" وتم نشره بعد وفاته.

وفي عام 1677م، توفي "سبينوزا" عن عمر يناهز 44 عامًا بعد معاناته مع مرض الرئة الذي أصابه جراء عمله بصقل العدسات الطبية وقد دفن في ساحة كنيسة "كريستى نيوكيرك" بلاهاي، تاركًا ورائه أفكارًا تنويرية سبقت عصره، وأسس للعديد من المناهج والنظريات الفسلفية الحديثة التي كانت بمثابة الركيزة الأولى لظهورها.