رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


مائتا عام على إنشاء المهندسخانة فى مصر..

28-4-2017 | 13:21


لم يكن محمد على باشا مصرى المولد، وإنما كان ألبانى الأصل وبالتالى أحد رعايا الدولة العثمانية منذ اجتاح العثمانيون بلاد البلقان فى منتصف القرن الرابع عشر والتى تضم الألبان والرومان والبلغار والصرب (أوروبا الشرقية فيما بعد)، وذلك شأن المصريين منذ دخل العثمانيون مصر فى مارس ١٥١٧. وكان الرجل قد قدم إلى مصر على رأس فرقة من الألبان للمشاركة فى إخراج الفرنسيين من مصر فى منتصف عام ١٨٠١ امتثالا لدعوة السلطان العثماني، فلما أصبح واليا على مصر باختيار نقيب الأشراف السيد عمر مكرم فى مايو ١٨٠٥ كما هو معروف، بدأ يتضح تدريجيا للمصريين أنه شخص يختلف عن سائر الولاة الذين كانت ترسلهم السلطة العثمانية إلى مصر. وآية ذلك الاختلاف مشروعاته المتعددة من أجل بناء مصر اقتصاديا وعسكريا ومن ثم سياسيا حتى أصبحت مصر قوة إقليمية لفتت أنظار الغرب الأوربى وخاصة إنجلترا فعملت على القضاء عليه وتحطيم مشروعه على نحو ما رصدته وقائع التاريخ.

وكان التعليم فى مصر حتى ولاية محمد على تعليما دينيا فى المساجد (الكتاتيب) والكنائس والمعابد مع شيء من تعلم الحساب لزوم المعاملات التجارية. وكان الجامع الأزهر أشهر مؤسسة تعليمية فى مصر والعالم الإسلامى يستقبل طلابا من مختلف بلاد المسلمين، واقتصر التعليم فيه على العلوم الشرعية حفاظا على مبادئ الدين وتعاليمه فى نفوس المسلمين. لكن هذا التعليم لم يكن يلبى حاجة محمد على فى مجالات بناء الدولة اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، وهى نقطة لم تلفت نظر الولاة الذين سبقوه، لكنها لفتت نظره هو لسبب آخر يتمثل فى أنه لم يكن من رجال الدولة العثمانية التقليديين الذين يريدون إبقاء ولاية مصر على ما هى عليه حتى يسهل قيادة الشعب المصرى والسيطرة عليه، ذلك أن محمد على الذى نشأ فى ألبانيا كان قريبا من أوربا، ولأنه كان يعمل بالتجارة فكان على دراية بالتطورات القائمة فى بلدان أوربا وخاصة القوة العسكرية.

وعلى هذا أراد محاكاة بلاد أوربا فى القوة حماية لولايته وحتى لا تكون لقمة سائغة فى أعين الأعداء والمتربصين، وتكرار حملة نابوليون عليها (١٧٩٨-١٨٠١). ومن هنا وجد فى التعليم الوسيلة المناسبة لتحقيق غاياته فى الحكم والإدارة والقوة، ووجد فى علوم الهندسة ومعارفها الوسيلة الأساسية لبناء جيل جديد من المصريين يساهمون فى إعادة بناء بلدهم. ولكن كيف السبيل إلى ذلك والتعليم فى مصر مقتصر على العلوم الدينية. هنا واتته فكرة نقل معارف العلوم المدنية من الغرب الذى تعرف عليه وهو فى ألبانيا.

وفى هذا الخصوص اختار بعض طلاب الأزهر من «النابهين» وأرسلهم فى ١٨١٣ أى بعد ثمانى سنوات من ولايته إلى مدن إيطاليا: ليفورن وميلانو وفلورنسا وروما، لدراسة بناء السفن وتعلم الهندسة وذلك بمعونة قنصل النمسا فى مصر حيث لم تكن إيطاليا قد أصبحت دولة موحدة بعد (أعلنت الوحدة الإيطالية فى ١٨٦٠). وقبل أن يعود هؤلاء المبعوثون من بعثاتهم حدث أن أحد أبناء البلد واسمه حسين شلبى عجوة اخترع آلة لضرب الأرز وتبييضه وقدمها لمحمد على فأعجب بها وأنعم على مخترعها بمكافأة وفق رواية الجبرتى فى حوادث عام ١٨١٦ / ١٢٣١ هـ وطلب منه تركيب مثلها فى دمياط وأخرى فى رشيد.

وهنا أدرك محمد على نجابة المصريين وقابليتهم للمعارف كما يذكر الجبرتى أيضا، فأمر ببناء مدرسة بحوش السراية بالقلعة وألحق بها عددا من أولاد البلد النابهين وعددا آخر من مماليكه حوالى ٨٠ تلميذا إجمالا، وعيّن حسن أفندى المعروف بالدرويش الموصلى معلما لهم بمشاركة شخص تركى اسمه روح الدين أفندي، وعدد من الإفرنج، لتعليمهم قواعد الحساب والهندسة وعلم المقادير والقياسات والارتفاعات والمساحة. وأطلق على هذا المكتب اسم «المهنسخانة»، وكان أولئك «التلاميذ» يجتمعون كل يوم من الصباح إلى ما بعد الظهيرة لتلقى الدروس اللازمة ثم يعودون إلى بيوتهم، وفى بعض الأيام كانوا يخرجون إلى الخلاء (تدريب عملي) لتعلم مسح الأراضى وقياسها بالقصبة. وكانوا يتعلمون بالمجان ويحصلون على رواتب شهرية فضلا عن الكساوى لمن هم بحاجة إليها.

وعلى هذا كانت المهندسخانة أول مدرسة أنشأها محمد على فى سلسلة المدارس التى أنشأها وهذا يدل بوضوح على أولوياته فى تحقيق نهضة مصر. وأكثر من هذا أنه خصص فى أول بعثاته التعليمية الكبرى إلى باريس (عام ١٩٢٦) مبعوثين لدراسة علوم الهندسة وفنونها ففى تلك البعثة خصص كل من محمد مظهر وسليمان البحيرى وعلى افندى لدراسة الهندسة الحربية، وكل من مصطفى بهجت ومحمد بيومى لدراسة هندسة الرى والشيخ أحمد العطار للميكانيكا وأمين الكرجى وأحمد حسن حنفى لصناعة الأسلحة وصب المدافع، ثم كانت بعثة عام ١٨٢٨ إلى فرنسا من ٢٤ طالبا تخصص معظمهم فى الهندسة والرياضيات وهكذا الحال فى التسع بعثات التى أرسلها حتى عام ١٨٤٧ لم تخلُ من دارسين لعلوم الهندسة ومعارفها بكل فروعها.

ويبدو من ظاهر الأحداث أن مهندسخانة القلعة لم تكن تفى بأغراض مشروع محمد على فى البناء، فنراه فى عام ١٨٣٤ ينشئ مهندسخانة أخرى فى بولاق وعين أرتين افندى وكيلا لها، وكان أحد خريجى بعثاته، ثم تولى نظارتها يوسف حكيكيان من خريجى البعثات أيضا، ثم أسندت نظارتها إلى المسيو لامبير بك فى ١٨٣٨ حتى عام ١٨٤٩ حين تولاها مبارك بك. وفى هذه المدرسة تخرج عدد كبير من المهندسين الذين خدموا البلاد فى مختلف المجالات والمشروعات.

وفى مجال الهندسة وفى مستويات أخرى أنشأ محمد على مدرسة المعادن بمصر القديمة (عام ١٨٣٤)، ثم مدرسة الفنون والصنائع فى بولاق والتى عرفت بمدرسة العمليات فى عام ١٨٣٩. ومما يبين أن محمد على اهتم أساسا ببناء قوة مصر الاقتصادية صناعيا وزراعيا أن البعثات التى أرسلها إلى الغرب الأوروبي: فرنسا والنمسا وانجلترا كانت كلها فى فنون الصناعة والعسكرية فيما عدا بعثة واحدة لدراسة الإدارة والعلوم السياسية.

وكانت تلك بداية نقل المعارف التكنولوجية من الغرب والعمل على تطبيقها فى مصر، تحقيقا للقوة والاستقلال السياسي.