رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


ننشر النص الأخير من كتاب «أجنحة لمزاج الذّئب الأبيض» لـ"عبدالرزاق بوكبة"

28-11-2020 | 13:48


تنشر "الهلال اليوم" نصًا جديدًا من كتاب "أجنحة لمزاج الذّئب الأبيض"، للشاعر الجزائري عبد الرزاق بوكبة، بعنوان "جناح لقبر الفاتحة":


وعيناه تجودان باللهب، ودبيبِ سؤالٍ نمّل كينونتَه، منذ سبعة عشر شهراً وسبعة أيام: من أين جاءت سكّة الذهب هذه يا ولد بنت النافوطي؟! أجبني بحقّ السّماء ربّة المعدن طيّبه وخبيثه، وحقّ الأرض ذات الزّروع والضّروع.

يا ربي إنها سكّة محراث من ذهب قديم، وثمنها مئةُ بغل وعشرون عطيلاً، قصدتُ الحانوت صباحاً للمرة العمر، فوجدتها عند العتبة.  قلتُ: واحد حطّها ليعود إليها وقد أصلحتُها، فركنتُها مع أخريات ونفختُ في النافوخ.

 

النفخة الأولى: لعنة الله عليك يا حانوت السوء والفحم الأسود، الداخل إليك داجٍ، والخارج منك ناجٍ، والرّاغب فيك مغبون. سكنتِ أبي أربعين عاماً، فلم يفعل فيك شيئاً مهمّا في حياته سوى أنه مات. ناداني عند خروج الرّوح فبكى واستبكى، ثم ختم: يا ولدي... الفحم شريكك تحتاجه وأنت سيّد/ تحتاجه وأنت حدّاد.

 

النفخة الثانية: لعنة الله عليك يا زوجة السّوء والفم الأسود، من أين تأتين بكلّ تلك الكلمات السوداء؟! لا شكّ في أنك على صلة بشيطان الكانون، لذلك تطعمينه بحطب سهرتين في سهرة واحدة، وتضعين القدْر ملأى، فتُرفع وقد أكل منها بطناً أو بطنين.

أقول لك: أشفقي على الحدّاد إنه فقير، فتقولين لي: "ستبقى حدّاداً في الفقر والغنى"، وكأنني لستُ حارثَك بسبعة ذكران وخمس إناث!

 

النفخة الثالثة: رحمة الله عليك يا أمي بنت النافوطي، أمسكتِني من ذراع، وأمسكني أبي من أخرى، وأنا أعوي بينكما لا أعرف ما تقولين: "لا تجعله حدّاداً، من شبّ على جمرة شاب عليها"، أو أعرف ما يقول أبي: "ينفخ لي في النافوخ، حتى إذا متُّ نفخ لنفسه."

 

النفخة الرّابعة: ما هذه يا ولد بنت النافوطي؟ سكة من ذهب؟ بل سكة من نحاس أصفر، من هذا الذي يصنع محراثاً من ذهب؟ هل نحن في الجنة؟! كانت أمي بنت النافوطي تقول لنا: في الجنة كل الأدوات من ذهب

غرّافها

مهراسها

حلاّبها

برّادها

جفانها

سروجها من ذهب. لكنها لم تذكر المحراث، وهذا يعني أن المحاريث غير ذهبية في الجنة، وتريد أن تكون كذلك في الدنيا؟!

النفخة الخامسة: لو تكون هذه السّكة من ذهب، لأشرينّ مئة بغل وعشرين عطيلاً، وأعيدنَّ الزواج على نديمة شيطان الكانون. أرأيت يا ولد بنت النافوطي؟ لا يُسمن الأحلامَ مثلُ الذهب؟! لكن أين هذه السكة من تلك؟ لو كانت ذهبية ما وجدتَها عند الباب، وقد كان قادراً أن يبول عليها طاروس. دعك منها وهات سكّة أخرى.

 

نصف النفخة السّادسة: دعك من النفخ وشف السّكة علّها تكون بداية لجنّة الدنيا، كان سيدي سي الشريف يقول لنا، قبل أن يختفي وتظهر أخباره في أرض زواوة: "في الدنيا جنة، من لم يدخلها لن يدخل جنة الآخرة. "

 

قال الولهي بن الجازية صاحب الريشة في كتابه الثاني: ونام نومة شكّت فيها زوجه أم البنين، قالت في نفسها ونفس الظلمات:

كانت عجوزي بنت النافوطي تقول: "لا يُؤرّق الرجالَ إلا الذهب أو النساء."، وإنها وحقِّ الكانون الثانيةُ، أما الأولى فحدّاد وأعرف كم يتقاضى.

أضاف الولهي بن الجازية: قرأت في مخطوطة مهملة بمسجد القرية [تحذير الأحفاد من أولياء الفساد، وما سيشوب الفطرة من دغل في البلاد]، لسيّدي الأدرع بن أبي شيبة الهلالي: ولم ينمْ تلك الليلة، ولم تنمْ، حتى أذّن الديك أخو الملاك، بين الخيط الأبيض والأسود من الفجر، فرأى فيما يرى النائم نقطةً بيضاءَ في الأفق من جهة زواوة تكبر كلما تقدمتْ، حتى كانت سي الشريف رضي الله عنه وأرضاه وجعل في علّيين مثواه، فصافحه وقال: "السكة من ذهب يا ولد بنت النافوطي، وهي التي تخرجك من الفحم، أو تعيدك إليه إن لم تعرف أيةَ نار تصهرها. حدّثني بعض شيوخي: لا تسأل عن الرّيح من أين جاءت، واسأل هل غيّرتْ وجهة الشّوق".

 

بعد سبعة عشر شهراً وسبعة أيام: دخل الحداد/ خرج الحداد

وعيناه تجودان باللهب ودبيب سؤال نمّل كينونته: من أين جاءت سكّة الذهب هذه يا ربي؟

 

بين الخيط الأبيض والأسود من الفجر: رأى فيما يرى النائم نقطة بيضاء من جهة زواوة، أخذت تكبر كلما تقدّمت حتى صافحه سي الشريف وقال له: "امض بالسّكة إلى مدينة جزائر بني مزغنة المحروسة، واصهرها نقوداً تكن ربَّ الحارث والمحروث".

 

أضاف الولهي بن الجازية صاحب الريشة: أضاف سيدي الأدرع بن أبي شيبة الهلالي: "ومضى الولهي ولد بنت النافوطي، يشق بلاد القبائل، وتشقّه أحلام الكبار، فكان يسمّي نفسَه بصفة من الصفات، كلما سُئل: من أنت؟ في بلدة من البلدات، حتى يضمن المقام والطعام.

في البلدة الأولى: تاجر حرير ينتظر بابوراً من جنوة.

في البلدة الثانية: تاجر ذهب ينتظر بابوراً من التّرك.

في البلدة الثالثة: تاجر زبيب ينتظر قافلة من الشّام.

في البلدة السابعة [أغلب الظن هي جزائر بني مزغنة]: أريد أن أصهر هذه السّكة نقوداً، وعليها صورة سي الشريف رضي الله عنه وأرضاه، من هو؟/ أعوذ بالله من غضب الله، هل هناك من لا يعرف سي الشريف؟/ آه أنت خزناجي نظيف، ولا شك في أنك نصراني، تطبع عليها صورة سيدنا الدّاي؟ من هو؟ لا تغضب يا سيدي، فأنا لا أعرفه، لكن ما دامت النقود لا تمشي إلا بصورته، فصُكَّ عليها صورتَه. يا إلهي إنها نفس الصورة التي في دراهم قريتي أولاد جحيش! هل هو معروف إلى هذا الحدِّ؟! سبحان الله، ولم تخبرنا يا سي الشريف! لكن لا يهمّ، يكفي أنك أخبرتني بطبيعة السّكة، وها أنا أقبضها الآن نقوداً يسيل لها لعاب الملائكة. كانت أمي بنت النافوطي تقول لنا: "إذا سمعت الملائكة رنين الذهب سال لعابها، فيقول لها سيدي ربي: ذاك روث الشياطين، فتصوم كفّارة عن ذلك ستين يوماً، ولأنّ لعابها لا ينقطع، فإن صيامها لا ينقطع".

الإضافة الثانية: وقفل طائراً إلى أولاد جحيش، يُنهك بغلته بالنغّاز، ويتحاشى القرى، وسؤال: "من أنت؟"، خوفاً على النقود، فينسى بائع الذهب، وبائع الحرير، وبائع الزبيب، ويذكر سي الشريف فيلبس روحَه، يبادر بالدعاء الصّالح للذرية والعرائس والزيتون ويسبغ البركات على كباش العيد، كلما شقّ قرية رفع عقيرته بالدعوات والبركات، فيجتمع عليه خلق الله شيّاباً وشباباً، في يد كل واحد منهم بغل أوكبش أو حمْلُ بغل من زيت أو زيتون أو عسل أو تين مجفف أو زبيب، طلباً للصّلاح والفلاح، ثم أخذ يجتمع عليه بين البلدة والبلدة قطاع الطرق، عارضين عليه الخدمة وحسن السّمع والطاعة، فقط لا يدعو عليهم سيدي ربي، بالوبال وفساد الحال، حتى دخل أولاد جحيش بقافلة شافوا أوّلها، وشاع أنّ آخرها يرعى في عطلان جزائر بني مزغنة، ثغاء وصهيل وتهليل يجرح السماوات: الله حي... سي الشريف عاد/ الله حي... سي الشريف عاد... الله حي... سي الشريف عاد. النساء تركن الحجبة، والرجال تركوا الخدمة، والذراري تماطروا على ساحة القرية، فيهم من ترك لوح القرآن تحت شجرة الخرّوب، ومن ترك القطيع وحده يسرح، وتعاجنوا في الساحة كحبّات السّبحة: الله حي... سي الشريف عاد... الله حي سي شريف عاد، مخلوطاً بأعراس الثغاء والصّهيل، وصيحات ولد بنت النافوطي الذي كان حدّاداً: ياه... ياه... ياه... ياه/ الرأس يميناً وشمالاً، واليد اليمنى أعلى وأسفلَ تضبط الإيقاعَ، وما خبَتْ جمارُ التهليل، وخفتت طاحونة التناكب، إلا بإشارة منه:

أيها الرّجال...

أيها الأهل...

سيدي ربي في السماء، وأولياؤه في الأرض، وكلما تخثّر شوقه لواحد منهم رفعه إليه، وقد تخثّر شوقه لسي الشريف أرضاه عنّا فرفعه.

 إضافة الإضافة: ورفع الغطاء عن رأسه، فإذا هو الولهي ولد بنت النافوطي الحدّاد!/ حطّتْ على رؤوس القوم الطيرُ، ولم يبق إلا ثغاء الكباش، وصهيل البغال، وزهيق الولدان، فتذكّر بعضهم صمت الجنازة/ تذكّر بعضهم صمت القيامة، ثمّ تذكروا سيدهم سي الشريف، ففاضوا بالعويل.

كتب الولهي بن الجازية صاحب الرّيشة: وعرض سيدي الأدرع بن أبي شيبة الهلالي، عيناتٍ من العويل في المخطوطة:

عويل أول: منذ تركتَنا واختفيتَ في زواوة، بدأت القرية تعرف الطلاق، وقد كان الواحد منا يأخذ أربعاً حتى يمتن في حجره.

عويل ثان: منذ تركتنا واختفيت في زواوة، بدأت القرية تعرف القتل، وقد كان الواحد منا يلقى أخاه فلا يرفع فيه عينيه.

عويل ثالث: منذ تركتنا واختفيت في زواوة، بدأت القرية تنسى القرآن/ يا شجرة الخرّوب... يا شجرة الخرّوب.

ثم أضاف: ففاض الولهي ولد بنت النافوطي الحدّاد:

يا إخواني...

يا إخواني...

هذا شوق الله إلى وليِّه، وإن كنتم باكين، فابكوا على رجل كان مشغولاً بفحمه وداره، فوجد نفسه مكلّفا بالقرية كلها

يا ويحه ما أثقل الصّخرة!

يا ويحه ما أثقل الصّخرة!

فسكت أولاد جحيش كأنهم فهموا الإشارة.

 

فاض الولهي ولد بنت النافوطي بالبكاء: كنت أحير في أمر فأجيء سي الشريف يفْريه لي بوحي من المولى سبحانه، وها قد دارت الدائرة، وإلى الله ترجع الأمور. جاءني في المنام مراتٍ، وكان في كل مرة يأمرني:" أن البِسْ البرنسَ"، فأصحو مفزوعاً أقرأ الفاتحة، ثم أنام، وفي الصباح، حدث العجب يا سادة يا بادة يا أحباب الله: تفقّدتُ بغلي مربوطاً تحت الزيتونة فلم أجده. قلت: أخذه قطّاع الطرق، فانطلقت راجلاً حتى بلغت شعبة لا يراني فيها إلا المولى سبحانه وملائكته الأطهار، رأيت شيخاً على بغل عرفتُه، ولم أعرف الشيخ! وكنت كلما اقترب أحسّ بالدوخة، حتى سقطتُ عند رجليه، فترجّل عن بغلي. بحثت عن القِبلة، فأخذني من قِبَلها حتى ظننتُ أنه ذابحُني، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وعندما نطق عرفت صوته. يا إخواني، هل فيكم من لا يعرف صوت سي الشريف؟! ففاض القوم بالبكاء، فاض الولهي: ثم رفعت رأسي فعرفت وجهه. يا إخواني، هل فيكم من لا يعرف وجه سي الشريف؟! ففاض القوم أكثر، فاض الولهي: ثم نهضت بمعونة من يمناه، عانقني فعرفت رائحته. يا إخواني، هل فيكم من لا يعرف ريحة سي الشريف؟! ففاض الحفظة من الشباب والشيّاب يرتّلون الفاتحة، وقد تبلّلت لحاهم بالدّموع. فاضت السّاحة: آمين، فاض الولهي ولد بنت النافوطي: هذا كلام الله، فماذا قال لي من علّمه لكم تحت شجرة الخروب؟

قال لي سي الشريف: يا الولهي... أزفَت الآزفة، وقد بلغ الشوق منتهاه، بالعبد ومولاه، ورأينا أن تكون الخليفةَ، فكن الخليفةَ.

قلت: أنا يا سيدي، وفي القرية فلان وفلان؟!

قال: "قضيتُ يا الولهي... قضيتُ يا الولهي"، وطار حتى فزع البغل المبارك، وعمّت الشعبةَ المباركةَ ريحٌ طيبة، ذات ريحة طيبة، فعمّت الفاتحةُ سماءَ الساحة وأرضها. فاض الولهي: آمين... آمين، وأعطاهم آياتِ الخلافة، فخرّوا على يمناه يقبّلونها واحداً... واحداً، وواحدة... واحدة، حتى لم تبق رأس أعلى من راسه.

، 

الآية الأولى: أعطاني مئة بغل بتينها وزيتونها وزبيبها وزيتها وعسلها، ما حرث بغل أرضاً، إلا فاض قمحها وشعيرها.

الآية الثانية: أعطاني مئة كبش فحل، بأصوافها وقرونها، ما أتى كبش نعجة إلا فاضت خرافها.

الآية الثالثة: أعطاني كيساً من النقود، ما وقع درهم في جيب واحد إلا فاضت جيوبه.

قال سيدي الأدرع بن أبي شيبة الهلالي: وعمد إلى بردعة بغله، فبعجها وأخرج منها ذهباً يسيل له لعاب الملائكة.

الآية الرابعة: وخفتُ في الطريق، فسخّر لي قطّاعَ الطرق، يقدّمون لي الطاعة والخدمة، فقط لا أدعو عليهم سيدي ربّي، بالوبال وفساد الحال، ما دخل رجل منهم قرية، إلا عمّها الخير وفرّش فيها الأمان، ففاض قطّاع الطرق بصوت واحد: بركاتك يا سيدي الولهي/ بركاتك يا سيدي الولهي.

قال سيدي الأدرع بن أبي شيبة الهلالي: وقد قالت محجوبة بنت الأخضر شعراً، بات يحفظه الذراري تحت شجرة الخروب.

ثم أضاف: ولم ينم الولهي ولد بنت النافوطي ليلتَها، تارة يبارك لنفسه هذا الشرف والترف وحسن المآل، وتارة يُمنّي نفسه بالثبور والكسور، وعقاب السي الشريف الذي كذب عليه بالغيب، ولم تنم زوجه أم البنين، تارة تبارك لنفسها هذا الشرف والترف وحسن المآل، وتارة تُمنّي نفسها بالحسرة والكَسرة: ثلاث ضرات ينافسنها في الفحل، وينافس أولادُهن أولادَها في الميراث العظيم.

يقول الولهي ولد بنت النافوطي: طيري يا نفس الحداد طيري/ أربعون عاماً وريحة الفحم ريحتك، ولونه لونك، وصهده حيرتك/ مبارك يا نفس الحداد مبارك، فاضت الزرائب والمطامير والمزاود وسقيفة الخمّاسين، وتقدّست العمامة على البرنس، ثراءً على وجاهة والحال أسعد حال.

تقول زوجه أم البنين: طيري يا نفس امرأة الحدّاد طيري، ستَرْفُلين في الحرير، وتنامين على الوثير، وتُزوّجين ذكورَك وإناثَك من زبدة القرى/ مبارك يا نفس امرأة الحدّاد مبارك/ فاضت الزرائب والمزاود والمطامير وسقيفة الخمّاسين، تقدّس اللحاف على الحزام ثراءً على وجاهة، والحال أسعد حال.

يقول الولهي الحدّاد: ويحك يا نفس الحدّاد ويحك، كنت فقيرة فأغناك سيدي ربي، بسكة محراث من ذهب قديم، وفي الوقت الذي وجب فيه الشكر، رحت تكذبين على أوليائه الصّالحين، وتأكلين لحمهم بالزور/ يا غدك الأسود كالفحم مع السي الشريف... يا غدك الأسود.

تقول زوجه أم البنين: ويحك يا نفس امرأة الحدّاد ويحك/ كنت وحيدة مع فقره، فتعدّدي مع غناه/ ينقص عليك الذكَرُ، ويتّشتت مال الذكور/ يا غدكم الأسود كالفحم... يا غدكم الأسود.

 

بين الخيط الأبيض و الأسود من الفجر: رأى الولهي ولد بنت النافوطي الحدّاد، فيما يرى النائم، نقطةً بيضاءَ من جهة زواوة، حتى لم يصافحه سي الشريف. خرطه بنظرة لو فُتحت له الأرض معها لدخل في جوفها، فرّع جناحي البرنس حتى باتا كجناحي نسر وتلقّفه من برنسه، طائراً به حيث السّحاب، حتى وقع به على سحابة كأنها الأرض، فيها أنهار وأشجار وأطيار، ونعَم لا يتصوّرها إنس ولا جان، فطرحه عليها، وإذا بالسّماء تتزاحم بأطفال صغار لهم أجنحة كأنهم عصافير، وهم يحلّقون فوق رأسه،ويتبرّزون عليه.

قال السي الشريف رضي عنه اللهُ، وقدّس مقامه وأعلاهُ: أتدري من هؤلاء يا حدّاد؟ أطفال القرية الذين سيولدون. ويحك منهم يا الولهي وويحهم منك. سقوط.

 

قال سيدي الأدرع بن أبي شيبة الهلالي، في مخطوطة [تحذير الأحفاد من أولياء الفساد، وما سيشوب الفطرة من دغل في البلاد]: وسقط ولد بنت النافوطي في الحيرة وفساد المزاج، شهراً وسبعة أيام، لا يأكل إلا كسرة الشعير بالبصل، ولا ينام إلا بعد الشروق، لا يكلّم الوفود والقعود، حتى خافت عليه الجماعة، وأوْرَقَت الإشاعة.

قال قائل: إنّ سي الشريف سيعود، لذلك لم يبدأ سي الولهي مهام الخلافة.

قال ثانٍ: تقرّحت أحشاء سي الولهي، حزناً على السي الشريف، لذلك فهو في انتظار أن يشفيه.

قال ثالث: ربما خاف سي الولهي من الخلافة، لذلك فهو سيستشير سي الشريف في الرؤيا، في أن يعطيها لفلان أو فلان.

قال سيدي الأدرع بن أبي شيبة الهلالي: حدّثني والدي شيبة رحمه الله حدثه شيخه طريف بن أبي ستة من بني عنان: ولم يخرج من حيرته وفساد مزاجه، حتى جاءه رسول الدّاي، يُقْرؤُه سلامَه وكلامَه: (أحمد الله تعالى إليك، وأبارك مقامك الذي صرت إليه، فامْضِ في الأمر، حتى يطول لنا الأمر).

 

محضر أول: أين وضعتَ المخطوطة قبل أن تضيع يا الولهي؟

ـ ربما فوق التلفزيون يا سيدي الضابط

محظر ثان: أين وضعت المخطوطة قبل أن تضيع يا الولهي؟

ـ ربما فوق الأورديناتور يا سيدي الضابط.

 

كتب الولهي ابن الجازية صاحب الريشة، في معرض حديثه عن هذه الواقعة في مذكراته: الواقع أنني لم أكن أراوغ، فعلاً نسيت أين وضعتها، وقد شعرت بخيبة كبيرة، ساعةَ تفقّدتُها في البيت، فلم أجدها. خطفني الضابط وقد فتح باب الشرفة:

ـ ما هذا يا الولهي؟!

ـ ماذا؟

ـ انظرْ.

وخارت قواي، وأنا أرى كومة ورق محروق، ما عدا الحواشيَ العليا، وقد تحلّل الحبر على البلاط.

خطفني الضابط ثانية: 

ـ ما هذه يا الولهي؟

ـ ماذا؟

ورقة مثبتة على الحائط: لستُ أدري هل أقول لك أخي أم الزنديق؟ ولست أدري هل أحرقك، مثلما أحرقتُ مخطوطة سيدك الأدرع بن أبي شيبة الهلالي، أم أزرع رصاصة في رأسك الضّاجّ بالبدع والخرافات؟

يا الولهي...

تُبْ إلى الله، والتحق بي في الجبل.

من كان أخاك: العيفة بن الجازية صاحب المحشوشة: 13 مايو 1993.