إدوار الخراط.. تجاوز الواقع نحو عالم حر وإنساني
مسيرة طويلة غنية وثرية امتدت لخمسة عقود، كان فيها الكاتب الكبير "إداور الخراط " الذي تحل اليوم علينا ذكرى وفاته الخامسة في الأول ديسمبر 2015، إنه المتفرد بأسلوبه فكان يكتب ويرسم ويسرد في عوالم متخيلة، فكانت كتاباته تعيش زمنها ثم تعبره لتصل إلى زمن آخر، يتأمل أن تتجاوز العصر والمكان، ويقاطع فيها الماضي، ويعلن رفضه للواقعية الإجتماعية التى كان "نجيب محفوظ"، و"يوسف إدريس" و"يوسف السباعي" أهم روادها في فترة الستنيات، فهو أول من نظّر لـ"حساسية الجديدة" في مصر بعد 1967م، فقد كان صاحب موهبة روائية تتجلى في تلك الرؤية الموحدة التي يطل منها حضوره في نصوصه المعروفة، فلا يحاكي مذهباً ولا يقلد أحداً، فقد تمرس بفن الرواية مبتكرًا للأشكال منوعاً فيها، فجاءت بارعة متداخلة ما بين ظاهرها وباطنها، غنية بحياتها، معنية بروح العصر وبمشكلات المثقفين، وبكل ما يتيح للأدب أن يتجاور مع الواقع دون أن يتخلى عن سعيه إلى تجاوز هذا الواقع نحو عالم أكثر بهاء وحرية وإنسانية.
واعتبرت أول مجموعة قصصية له "الحيطان العالية" 1959، منعطفًا حاسمًا في القصة للغة العربية، حيث ركز عن وصف الحياة بواقعها المؤلم المرير، وعكف على وصف خبايا الأرواح المعرضة للخذلان والخيبة، فكان يضع يدية على الجُرح دون أن تطاطأ أقدامه أرض الواقع، ثم أكدت مجموعته الثانية "ساعات الكبرياء" هذه النزعة إلى رسم شخوص تتخبط في عالم مظلم يسوده الفساد والظلم والخذلان.
ولد "إدوار قتلة فلتس يوسف الخراط" في 16 مارس 1926 بمدينة الإسكندرية، حصل على ليسانس الحقوق في 1946 من جامعة الإسكندرية، كان موظفًا فى مخازن البحرية البريطانية في القباري بالإسكندرية، ثم عمل موظفًا في البنك الأهلي بالإسكندرية حتى عام 1948، ثم تفرغ للكتابة التى جعلت منه وجودًا خالدًا، بأعمال أًيلة تم ترجمتها للعديد من اللغات الأجنبية،كالإنجليزية والفرنسية، الإيطالية، الإسبانية وغيرها.
لم تمنعه الكتابة من أن يكون مناضلًا سياسيًا حيث شارك فى الحركة الوطنية الثورية فى الإسكندرية عام 1946، واعتقل وزج به فى معتقلي أبى قير والطور، انضم إلى "منظمة تضامن الشعوب الإفريقية والآسيوية" حيث كان يُشرف على إصدار المطبوعات الثقافية والسياسية ثم عمل فى "منظمة الكتاب الإفريقيين والآسيويين" من 1959 إلى 1983.
من أهم أعماله الأدبية روايته الأولى "رامة والتنين" التي تم إصدارها فى 1980، وكانت تحمل فى طياتها تليات الأسطورة، فقد كان "الخراط" من أكثر الروائيين الذين وظفوا الأساطير بكثرة في رواياته، وكانت من بينها تلك الرواية، وهي عبارة عن حوار بين رجل وامرأة تختلط فيه عناصر أسطورية ورمزية وفرعونية، ويمكن القول أنها عبارة عن استرجاعات واستذكارات أو أنها أحلام يقظة، لأن "الخراط" يبدأ بالسر من النهاية ثم يرتد إلى البداية فيصل إلى النهاية، كما تتخلل الرواية تأملت فلسفية، حول معنى الحب ومعنى العشق وديمومتهما، فنجد بطل الرواية "ميخائيل" يحاور نفسه ويعيد استحضارات الحوارات التى جرت بينه وبين البطلة "رامة"، إضافة إلى أن الرواية جاءت فى 14 فصلاً معنونًا، كل فصل ينهض بتصوير جانب من جوانب علاقتهما العاطفية بين البطلين.
ونجد "الخراط" جعل عنوان روايته مركب يتكون من طرفين ف "رامة" هي بطلة الرواية، وجاء اسمها مقدسًا، فاسم "رامة" يعنى أرض بنيت عليها الكعبة المشرفة، صحن الكعبة، النقش القرآني على كسوة الكعبة، أو الأرض المرتفعة، أما بالنسبة للطرف الثاني من العنوان "التنين" فهو حيوان أسطورى ولكنه جاء على هيئة وحش مكلل في أعماق "ميخائيل" بطل الرواية، ينهش قلبه ذاك التنين، ويشعل جسمه حيث يمنعه من التواصل الطبيعي مع راما حيث لا يستطيع الفكاك منه.
من أبرز أعماله أيضَا: "إختناقات العشق والصباح"، "الزمن الآخر"، "محطة السكة الحديد"، "ترابها زعفران: نصوص اسكندرانية"، "أضلاع الصحراء"، "يا بنات إسكندرية"، "تاريخ الوقائع والجنون"، "حجارة بوبيللو"، "مخلوقات الأشواق الطائرة"، "رقرقة الأحلام الملحية"، "الغجرية ويوسف المخزنجى".
كان له عدة مساهمات أدبية مترجمة منها: "الشوارع العارية"، "الغجرية والفارس"، "الحرب والسلام"، "الخطاب المفقود" مسرحية "أ.ل كارجيالي"، والمسرحيتان الإذاعتيان "سوء التفاهم"، "الحصار"، نالَ "الخراط" الكثير من الأوسمة والجوائز عن إبداعه الفكريّ وإنجازه الأدبي، ففي عام 1973 حصل على جائزة الدولة التشجيعية، فنال وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، وفي عام 1999م بالقاهرة نال جائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأمريكية، بالرغم من تصريحه بأن "نجيب محفوظ" لم يكن جديرًا بالفوز بجائزة نوبل، لأنه يقدم أدبًا متوسط القيمة، وكان هو أحق منه به، وكذلك الشاعر السورى "أدونيس"، وفي فبراير 2008 فاز بجائزة ملتقى الرواية العربية الرابع في القاهرة.
توفي إدوارد الخراط فى مثل هذا اليوم الأول من ديسمبر 2015 عن عمر يناهز 89 عامًا تاركًا ورائه إرثًا لا يفنى بمرور السنين.