قبل إقالة المشير أبو غزالة من منصبه بعدة شهور كان وزير الدفاع الأشهر جالساً إلى يسار الرئيس مبارك يشاهدان مباراة المنتخب القومي المصري في نهائي كأس الأمم الأفريقية.. وعندما أحرز المنتخب أول أهدافه قفز المشير أبو غزالة عالياً من مقعده فرحاً بالهدف الذي منح مصر كأس الأمم الأفريقية.
شاهد الملايين هذه الصورة الرائعة التي التقطها بذكاء ومهارة وحسن توقع مصور جريدة أخبار اليوم وقرر الأستاذ إبراهيم سعده رئيس تحرير الجريدة الجرئ نشرها في الصفحة الأولي على 6 عامود.. شاهد الملايين ، الذين كانوا يشاهدون تلك المباراة النهائية، المشير طاير من الفرح.. بينما الرئيس مبارك جالساً يصفق فرحاً..وشتان طبعاً بين الصورتين.
كانت أخبار اليوم هي الجريدة الوحيدة في بر مصر التي نشرت تلك اللقطة غير المسبوقة التي جعلت رئيس التحرير يقرر زيادة النسخ المطبوعة 100 ألف نسخة بعد أن أدرك بحرفيته فضلاً عن جرأته أن في يديه كنز يجب إﻻ يفرط فيه !
صباح يوم السبت ، اليوم الذي تلي يوم فوز مصر بكأس الأمم الأفريقية ، كان يوماً سعيداً بالطبع على كل المصريين.. لكنه على جانب أخر كان يوماً زادت فيه دسائس بعض المسؤلين غير المسؤلين الذين صوروا للرئيس مبارك أن المشير يسعى بكل قوته بتلك اللقطة لتكريس شعبيته أكثر لدي كل المصريين.
عدت الحكاية ومرت بسلام لكن بعدها أدرك المشير أنه يجب أن يكون في الـ ( سيف سايد ).. في الأمان يعني
في مقصورة استاد القاهرة كان الرئيس والمشير يشاهدان مباراة أخرى للمنتخب القومي ﻻ تقل أهمية.. فجأة..استدعي المشير صديقي الإذاعي الكبير حمدي الكنيسي الذي كان يشاهد المباراة في المقصورة وهمس له : قول للمصور زميلك بتاع التليفزيون أنا مش هنا !.. بعفوية قال الكنيسي: ياه. ياه .. بمعني : للدرجة دي .. فرد عليه المشير : ايوه..ياه ياه !
ياه ياه..للدرجة دي يا حمدي.. هكذا علق المشير الجمسي بمجرد أن روى لنا الكنيسي تلك الحكاية الغير معروفة.. كنا وقتها عام 1992 نجلس مع المشير الجمسي عقب انتهاء اجتماع مهم عندما كان رئيساً لمجلس إدارة دار الحرية للصحافة التي لم تسمح السلطات بأن تصدر جريدة الحرية كأول جريدة مستقلة بعد ثورة 23 يوليو 1952.. كان حديثأ عاماً قد جري بيننا المشير الجمسي رئيس دار الحرية ونائبه د.عادل صادق ومحمد جبر عضو مجلس الإدارة المنتدب والعبد لله أعضاء مجلس الإدارة.. ساعة كاملة قضيناها بعد قنبلة الكنيسي حيث راح المشير الجمسي يستمع لمناقشاتنا وتعليقاتنا دون أن يتكلم أو يدلي برأي حول ما كشفه لنا الكنيسي..
عندما سألت صديقي وابن حتتي محمود صلاح عن ظروف نشر صور أبو غزالة ناططأ من الفرحة قال..الأستاذ إبراهيم حجز مساحة الصور التي اختارها بنفسه ولم تنزل المطبعة إلا الساعة 3 فجراً..
احتاط الأستاذ سعدة لأنه يعلم تماما أنه لو تسرب خبر تلك الصور سوف يتصل مسوؤل من الرئاسة ويأمر بعدم نشرها بل ويأمر باعدامها !
لقد كانت العلاقة بين الرئيس مبارك والمشير أبو غزالة سمن على عسل منذ أن تولى مبارك الحكم عام 1981 .. واستمرت هذه العلاقة الطيبة قائمة ومستمرة بين الرجلين سنوات وسنوات .. ولكن.. واه وألف اه من لكن تلك.. فوجئ الناس جميعاً في عام 1987 بالمشير أبو غزالة يشخط بصوت حاد وغاضب في المهندس محمد عبد الوهاب وزير الصناعة عندما قال للرئيس مبارك في افتتاح مصنع كاوتش جديد بأن مصانع الوزارة تسد احتياجات القطاع المدني بل والعسكري بكل أنواع إطارات الكاوتش المطلوبة.
كانت ( ايه اللي بتقوله ده احنا طلبنا إطارات كاوتش قلتوا معندناش..انت بتهرج ) عبارة قاسية و مفاجئة لكل من كانوا موجودين في حفل الإفتتاح .
سكت الوزير عبد الوهاب.. لم يجرؤ بالطبع أن يرد علي المشير..بل وتلك هي الماسأة سكت الرئيس نفسه ولم يعلق أو حتى يجبر بخاطر الوزير الذي شخط فيه أيو غزالة.
كلنا شاهدنا هذا المنظر في أول نشرة الأخبار ..ولكننا لم نشاهده في النشرات التالية..منظر غير طبيعي كان..ولذا اختفي و أصبح هذا المنظر في خبر كان!
سكوت الرئيس على ما حدث من جانب أبو غزالة لم يطل.. (رقد له مبارك ) حتي عام 1989 عندما شاهدنا الرئيس يشخط و ينطر في وجه المشير الذي ذهب للمطار يستقبل مع وزراء كثيرون عودة مبارك من زيارته لواشنطن.
كان اتفاقا قد جري بين أبو غزالة وأحد علماء الصواريخ المصريين كان يعمل في أمريكا على أن ينقل إلى مصر أسرار الصواريخ كوندور الباليستية في القضية الشهيرة التي أسماها الإعلام قضية الكربون الأسود!
لم يكتم المشير هذا السر الخطير عن مبارك.. ولكن يبدو أن مدير المخابرات المركزية الأمريكية عندما كلفه الرئيس اﻻمريكي بأن يكشف بنفسه للرئيس مبارك أسرار ضلوع المشير في هذه القضية زعم له مبارك بالطبع أنه ﻻ يعرف أي شئ عن هذا الأمر !
وبعد هذا اللقاء الفاتر للغاية في المطار قرر الرئيس أن أوان إعفاء أبو غزالة من منصبه كوزير للدفاع قد حان.. لقد اعتقد كثيرون أن إقالة المشير جاءت بقرار من البيت الأبيض ، ربما كان الأمر كذلك..ولكن ما زال كثيرون وكثيرون يرون رغم مرور 31 عاما على هذه الإقالة المثيرة أن مبارك أراد بهذا القرار المفاجئ إنهاء أسطورة أبو غزالة الذي كانت شعبيته وجماهيريته تزعج الرئيس مبارك كثيراً .
أنك حين تنظر إلى الرجل الذي خلف أبو غزالة واختاره مبارك وزيراً للدفاع ستكتشف كم كان مبارك منزعجاً ويعمل ألف حساب وحساب لشخصية المشير أبو غزالة وطغيان شهرته وحب المدنيين له قبل العسكريين،
أراد مبارك تهميش وأضعاف منصب وزير الدفاع بعد إقالة إبو غزالة.. فاستدعي اللواء متقاعد يوسف صبري أبو طالب الذي كان محافظاً لشمال سيناء وبعدها محافظ للقاهرة وعينه وزيراً للدفاع ..
تعلم مبارك الدرس من أستاذه.. فعندما وجد الرئيس السادات أن الفريق أول محمد أحمد صادق يتدخل في أمور سياسية وأصبح رجل أزمات أقاله.. وأتي باللواء أحمد إسماعيل ليتولى مسؤلية وزارة الحربية ( الدفاع).
أى نعم عين مبارك ابو غزالة مساعداً لرئيس الجمهورية..أي نعم ظل أبو غزالة يذهب إلى مكتبه في القصر الجمهوري..التزام تام بالعسكرية المصرية.. تؤكده إشارته وهمسه لحمدي الكنيسي.." قول لزميلك بتاع التليفزيون أنا وﻻ هنا..أنا وﻻ هنا " !!