«من مقام راحة الأرواح».. قصة قصيرة لـ مريم عبدالعزيز
تنشر «الهلال اليوم» القصة القصيرة «من مقام راحة الأرواح»، والتي تحمل عنوان المجموعة القصصية الصادرة عن دار «روافد» للنشر والتوزيع للكاتبة مريم عبد العزيز.
من مقام راحة الأرواح
تقسم بشرى أن صوت الموسيقى لا يفارق أذنيها وهي تنظف سلم الطابق الثالث من العمارة, وأن عفريت الأستاذ شكري يقيم في الشقة المغلقة منذ العثور عليه ميتًا بالداخل.
كانت هي أول من انتابه الشك حول غياب الأستاذ شكري، فقد مضى أكثر من ثلاثة أسابيع لم يظهر خلالها ولم يترك لها الثلاثة جنيهات أجرة تنظيف السلم تحت الدواسة كما هو متفق عليه بينهما حال غيابه, ثم بدأت رائحة نتنة تفوح من شقته, أبلغت بشرى صاحبة العمارة بالأمر، والتي بدورها استشارت ابنها المحامي المتحذلق، فأفتى بضرورة إبلاغ الشرطة وعدم التصرُّف بفتح الباب إلا من خلال أمر النيابة, هكذا وقفت عصا القانون الغليظة أمام رغبتها في سرعة الاطمئنان على الرجل.
وقف رجال الشرطة بالباب ومعهم مندوب عن عائلة الأستاذ شكري، وصحبة لا بأس بها من السكان، تتقدمهم بشرى بوجه ملهوف يبدو عليه التوتر أكثر من الجميع.
بينما وقف الجميع يتأملون المشهد في دهشة، إذ كانت الشقة عبارة عن صالة كبيرة تتوسَّطها بعض الأعمدة، وتتراص حول محيطها الآلات الموسيقية بجميع أنواعها، ومعلقة على الحائط لوحات لآلة فرعونية, حيث قام الأستاذ شكري بهدم الحوائط الفاصلة بين الغرف ليصنع منها هذه الصالة الكبيرة, وحدها بشرى كانت تعرف جغرافيا الشقة جيدًا، لذلك لم تشاركهم الدهشة، وتوجهت فورًا نحو الغرفة الداخلية الوحيدة الباقية على حالها, وأطلقت صرخة ألهت الجمع المندهش عن أمر الشقة واتجهوا ناحية صوت الصرخة، فوجدوا ما كانوا يتوقعونه فلم يندهش أحد.
منذ أن تقاعد الأستاذ شكري عن عمله كمدرس للموسيقى بمدرسة الخديوية وهو منعزل عن الناس، لا يزور أحدًا ولا يزوره أحد, فقط يذهب في بعض المشاوير عصرًا ليعود منها بعد العشاء, عرفت بعد ذلك أنها زيارات لشارع محمد علي، حيث يوصي بعض معارفه هناك بشراء آلات موسيقية مستعملة, كان قد قرر دون إعلام أحدٍ أن ينشئ مركزًا لتعليم الموسيقى في شقته، وكان ينفق مكافأة التقاعد والمعاش في سبيل إنجاز مشروعه, لم يكن يدخل الشقة أحدٌ باستثناء بشرى، حيث كان يطلب منها تنظيفها مرة في الشهر بعد انتهائها من مهمتها الأساسية في مسح سلم العمارة.
يحمل حقيبته «الهاند باج» حتى مدخل العمارة, ثم يلقي بها لبضع درجات من السلم ويصعد، ثم يعاود إلقاءها مرات حتى يصل إلى باب شقته في الدور الثالث, إذا صادف صعوده يوم مسح السلم كانت بشرى تحمل عنه الحقيبة حتى لا يبلها الماء المتسرب من مسح الأدوار العليا, يسمع خرير الماء على درجات السلم فيناديها لتحمل عنه الحقيبة, يستقبلها بابتسامة ويقول: «عارفة يا بت إنك شبه حتحور»!
وجه دائري ووجنتان بارزتان وعينان واسعتان مع خط الكحل فوقهما، وضفيرتان تشبهان قرنا حتحور.
تضحك هي وترد: «الله يجبر بخاطرك.. ودي حلوة بقى على كده يا أستاذ؟!»
فيقول: «هابقى أوريكي صورتها».
ويظل يغازلها بدور الشيخ سيد درويش «خفيف الروح بيتعاجب برمش العين والحاجب»، حتى يصل للدور الثالث، فيدخل شقته ويبدأ في عزف نفس الدور الذي كان يغازلها به إلى أن تنتهي من مسح باقي الأدوار, كان يعتبر هذه الموسيقى مكافأة لها على مهمتها الشاقة هزيلة الأجر، والتي كانت بعض الجارات يفاصلنها في دفعه, تشتكي بشرى له كثيرًا من مضايقات الجارات، فيقول لها: «يا بت سيبك دي غيرة حريم»، ثم «تعالي اسمعي الحتة دي» ويستكمل العزف.
بعد موت الأستاذ شكري وانتشار الحكايات في الحي عن مشروعه، انتاب الفضول ذلك الصغير المولع بالموسيقى, فأصبح يتسلل إلى شقة الأستاذ، يحرك لسان الباب بمسطرته المدرسية ويفتح الباب ليدخل إلى عالم الموسيقى ويجرب جميع الآلات, بينما ظلت بشرى تظن أن روح الأستاذ تغازلها من خلف الباب.