رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


نهاد أبو القمصان تواصل رثاء «أبو سعدة»: أشكرك يا من تركت لنا الحب

10-12-2020 | 12:27


نشرت نهاد أبو القمصان رئيس المركز المصري لحقوق المرأة، على صفحتها الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، لحظات الوجع الأخيرة لرفيق عمرها الراحل الدكتور حافظ أبو سعدة عضو المجلس القومى لحقوق الإنسان.

 

وكنا قد نشرنا الجزء الأول منها، وننشر الجزء الثاني والذي تعبّر فيه نهاد عن حزنها وفي الوقت نفسه عن شكرها لكل من ساندوها ووقفوا جوارها بعد فقد الحبيب والصديق والزوج د. حافظ أبو سعدة.

وجاء في منشور نهاد أبو القمصان:

"إنه الحب وفقط دواء القلب"

عندما علمت بخبر رحيلك يا حافظ ، نزل على رأسى وقلبى مثل مطرقة ضخمة هشمت عقلى وروحى، حولتهما لشظايا متناثرة، مصيبة جعلتنى أحاول أن الملم ما تبقى منى لكي أقف بجوار رفقاء المصيبة، "أولادى".

أمام عينى حافظ بوجهه الهادئ الوديع  كما عهدته وقلبى منفطر على أولادى، لكن لا وقت لدىّ للحزن ولا رفاهية أملكها للانهيار، لأن هناك من هم أهم من روحك وروحى ومن حزننا معا.

شعرت أننى فى العراء، لكن غطاء حب هائل من كل من حولى دفانى ولملم أجزائى..  فى يوم الرحيل وقبل الدفن وجدت الأهل والأصدقاء فى انتظارنا فى المنزل.

كل أضواء المنزل أشعلت حتى أنوار الجنينة والسور التى لا تضاء إلا فى الأفراح، وكأن الله جعل انتقالك إليه فرحاً عظيما، عشرات من الأحباء أهلنا وأصدقائنا وأصدقاء إياد وسهيلة وجميلة.

 

فوجئت بالسؤال الأول فى اختبار الغياب؛ أين يرقد الحبيب؟ والإجابة حائرة ما بين رغبة أخيك وربيبك الذى ربيته بعد رحيل والدك، واعتبرته أنا ابنى البكرى الذى لم ألده، يصر بأنك لابد أن ترقد فى دفء العائلة الممتدة فى الغربية، ورغبة إياد وسهيلة وجميلة أن ترقد فى التجمع بجوار قلبهم لتدفئ حياتهم.

 

وقفت كالأم الحائرة بين أولادها ولكل منهم اعتباراته القوية وأهمها حبه العميق لك، واشتد النقاش لينتصر الحب، الحب للغائب والحب لأولاده ، لترقد فى قلبى وعلى بعد 30 دقيقة من بيتى، بين دعوات وحب ملايين فى التجمع وفى الغربية وفى كل بقاع الأرض "حب نزل برداً وسلاماً على قلب أولادنا".

 

فى عز احتياطات التحرك وقلة الزيارات لم نجد موطأ قدم نقف عنده فى الصلاة أو الدفن، وسرادق عزاء ضم حتى من لم أرهم لأكثر من 20 عاماً.

بيتنا إلى الآن وقد مرت 15 يوما لم تطفأ أنواره، 15 يوماً لم يوقد فى بيتنا نار لطعام والموائد تمتد للأحبة والأصدقاء ليل نهار، موائد يحضرها الجيران والأهل والأصدقاء، 15 يوما وبيتنا عامر، وكأن  الله جعل بيتنا عرسا لانتقالك إلى الجنة.

لا أعرف من أشكر .

أشكر جيران فيلات التجمع المتهمة بالتعالى، الذين حاورونا ودعمونا وأحضروا لنا الطعام، وكأننا بين أهلنا فى أعماق ريف مصر الأصيل.

أشكر أهلى الذي وجودهم بيننا أكبر لطف من الله وأعظم نعمه، رغم رغبتنا فى المقاومة للفرح والهرب للعزلة، لكن حضورهم وأيديهم القوية تنتشلنا كمن ينتشل غريق ويعيده للحياة.

أشكر أصدقائى وأصدقاءك الذين حضروا هرعا، واللذين لم يستطيعوا الحضور إلا بعد أسبوع، لأنهم لم يقدروا على التصديق واحتاجوا وقتا أطول للتماسك.

أشكر أصدقاء وزملاء لم يجمعنا سوى العمل، كان حبهم وحضورهم واتصالهم بحب أعمق من مجرد علاقة عمل، وكانت كلماتهم تهدهد القلب.

أشكر وزراء ومسئولين ومؤسسات دولية، جاءوا واتصلوا من مصر والمنطقة العربية والعالم من أقصى الارض إلى أقصاها.

أشكر أصدقاء أولادنا إياد وسهيلة وجميلة، اللذين تجمعوا ليضيئوا فى حياتهم 15 يوما حالكة السواد.

أشكر من نعاك فى التلفزيون قائلا "الوطنى المخلص لقضايا حقوق الانسان والصادق المحب لبلده".

أشكر من كتب عنك واصفا أيام بحب وصدق.

أشكر من حضر جنازتك ولا يعرفك أو يعرفنى شخصيا، لكنه حزين لفقد إنسان كان له أو لها قدوة.

أشكر أصدقاء العالم الافتراضى، وما غمرونا به من دعوات وكلمات دافئة تقطر حب واحترام .

أشكر من على فيض الحب الذى غمرنا وطبطب على قلوبنا .

إياد قال لي: "هو بابا كان بيشتغل ايه بالظبط، أنا عارف إنه إنسان عظيم، لكن مكنتش عارف كم الحب جوا مصر وبرا مصر).

سهيلة تقول:(أنا عارفة أن بابا عظيم، لكن مكنتش فاكرة إن حتى المختلفين معاه بيحبوه كدا ).

أما جميلة تقول: (أنا عارفه إن بابا مشى ومش راجع تانى، بس هو عايش معانا، بسمع بقلبى صوته ودقة رجله على السلم، بابا عايش معايا).

قلت لهم بابا كان بيشتغل للناس فأحبه الناس.

كان يعمل لبلده دفع ثمنًا كان راضيًا به، ولم يطلب مقابل فاحترمه القاصى والدانى، وأحبه كل من عمل معه.

ترك لنا الحب وكفى به ميراث، سيرة عطرة نتدثر بها العمر كله، حيث لا يبقى إلا السيرة .

15 يوما ينفطر القلب كل يوم وتمتد أيادى وكلمات الحب تغمرنا، تطبطب على قلوبنا.

لا أعرف من أشكر على كل هذا الحب .

أشكرك أنت يا حافظ .

أنت يا حبيبى من تركت لنا كل هذا الحب.

أنت من تركت لأولادك سيرة أبهرتهم وجعلتهم يزدادن فخرًا بك، فى الغياب على فخرهم بك فى الحياة.

أشكرك أنت يا حبيب عمرى يا من عشت معك ألف عمر على عمرى، مررنا معا بأزمات وسجون ومعتقلات زال منها الألم، وبقى منها حكايات ممتعة كنت تحكيها بكثير من الضحك

يا من سافرت العالم معك وتعلمت الدنيا على يديك.

أشكرك يا من كنت راقيًا حتى فى خصامك، يا من علمتنى أن الصمت أحيانا أقوى من الكلام .

يا من علمتنى أن أحلك الظروف اختبار سوف نخرج منه أقوى بكثير من الحكايات المضحكة .

لقد تدربت على التعامل مع الأزمات كثيرًا والخروج منها بإيجابية والضحك عليها .

لكن لم أتدرب على غيابك، فهذه الأزمة لم تأت فى المنهج، ولم تدرب قلبى على التعامل معها.

ولكن أعدك أنى سأستمر فى المحاولة لحين أن نلتقى

شكرًا

آه.. أريد أن حكى لك عن حب من نوع آخر؛ حب حتى ممن لم أتوقع منهم أي شيء سوى كونهم موظفين ينهون أعمالهم، يتعاملون مع حالات الوفاة كل يوم .

لكن كان تضامنهم ورفقهم وحبهم عجيب .

موظف المستشفى المسئول عن الغسل معتاده، يرتبه كل يوم، لم يبد تعودًا أو عدم اكتراث، وإنما كان هينًا لينًا عطوفًا، وكأنه يطبطب على قلوب مكلومة .

رجل الغسل كان متوقع أن يكون رجلا متجهما غليظ القلب، مثلما رأيت فى مواقف أخرى، لكن هذا الرجل العظيم لطيف الطبع، بشوش الوجه، وضع فى قلوبنا سكينه، وكان مرحًا مطمئنا لابنى على أبوه.

أثر فى هدوءه وساعده فى تماسكه

سائق سيارة الإسعاف التى نقلت الجثمان ويحمل كل يوم جثامين كفيلة بجعله جاف الملامح والتصرفات، لكنه كان مثل أخ صغير

نظراته حنونه، مليئة بالعطف والتعاطف، جلست بجوارك حبيبى فى السيارة، لم أتركك حتى عندما وصلنا لصلاة الجنازة التى وصلنا لها مبكرًا. 

فإذا بهذا السائق الجميل يعطينى المصحف وزجاجة ماء ومناديل، تركنا أنا وابنتى فى السيارة، وأغلق الباب تاركا السيارة دائرة حتى لا تفصل التكييف، ووقف بجوار بابها  فى هدوء وخشوع وكلما فتح أحد باب السيارة جاء بلطف ليغلقه.

كان كالحارس الأمين على لحظات هى الأغلى فى عمرنا

هى المتبقية معك حبيبى

لم يسمح لأحد باختراق قدسية اللحظة

أهدانا هدوء القلب

لم يتسن لى أن اشكرهم، وربما لا يعلمون أثر ما فعلوه، لكنهم بالتأكيد هم من قال عنهم الرسول "حرمت النار على كل هين لين".. ربنا يسعدهم دنيا وآخرة.