د. نبيل فاروق يكتب: جيل ورا جيل
أدهشنى وأزعجنى بشدة، حديث تابعته فى أحد برامج "التوك شو"، على إحدى القنوات الفضائية، التى استضافت رجل أمن عتيق الطراز، خرج من الخدمة منذ أكثر من عشر سنوات، وسمعته يتحدَّث بكل ثقة، مؤكَّداً لمقدمَّة البرنامج، أننا قد تجاوزنا حروب الجيل الرابع، إلى حروب الجيل الخامس !!.. فعلى الرغم من أن الرجل لم يتابع التطوَّرات حتماً، فمنصبه السابق قد يمنح حديثه مصداقية، يمكن أن تنتقل إلى المشاهد، فتختل معلوماته، وترتبك مفاهيمه، خاصة وأنه لو قلب كل صفحات الإنترنت، وتابع كل مواقع التواصل الاجتماعى، أو حتى كان له قريب فى الخدمة، يمكن استشارته، لن يجد حرفاً واحداً عما يمكن تسميته بحروب الجيل الخامس !!
فكلمة جيل فى تصنيف الحروب تعنى سمة الحرب نفسها، والتى يمكن أن تتغيَّر فى تقنياتها، وفى نظم تسليحها، وفى استراتيجياتها وتكتيكاتها، ولكنها تظل تسير على النسق نفسه.. هذا يذكرنى بالارتباك الذى كان يصيب تلامذتى، عندما كنت أقوم بتدريس فن السيناريو، عندما أشرح لهم معنى المشهد، ومعنى ما نسميه «الديكوباج» فالمشهد جزء من العمل الدرامى، يبدأ فى مكان ما، تبعاً للأحداث، وينتهى عندما يتحتم الخروج من ذلك المكان؛ لأن هذا يستتبعه نقل الكاميرا، والإضاءة، وهندسة الصوت، والديكور، وكل شئ.. أما الديكوباج، فهو توزيع الزوايا والتركيز خلال المشهد نفسه، حيث يظل المكان كما هو، ولكنك تشاهد الحدث من زوايا مختلفة، ربما كل بضع ثوان..
ولو عقدنا مقارنة، فسنجد أن الجيل فى الحروب هو المشهد، أما الأنماط والأسلحة المختلفة، خلال الجيل الواحد، فهى الديكوباج فحسب.. دعنا نأخذ مثالاً مباشراً، من الجيل الأوَّل للحروب (1GW) فذلك الجيل كانت سمته المواجهات التصادمية، أو انقضاض جيش على آخر، وهى عبارة عن حروب تقليدية، بين جيشين نظاميين، فى مواجهة مباشرة، يمكن أن تتم باستخدام هراوات، أو سيوف ودروع، أو أسلحة خفيفة، مثل المسدسات والمدافع الرشاشة، أو حتى بين دبابات على الأرض، أو طائرات فى السماء.. تختلف الأسلحة والتكتيكات، ولكنها تظلَّ حرباً مباشرة تقليدية، يطلقون عليها اسم «Conventional War».. سمة التقليدية والمواجهة المباشرة، هى المشهد، أما اختلاف وتطوَّر نوع السلاح، فهو الديكوباج.. ومهما طال زمن تلك الحروب التقليدية، أو تطوَّرت أسلحتها، فهى تعتبر كلها جيلا واحدا من الحروب، ولا يعنى انتقالها من الهراوات إلى القنبلة الذرية، إنها قد صارت جيلاً آخر..
أما الجيل الثانى من الحروب «2GW» فهو حرب العصابات، أو «Gurilla War» وهى تشبه حروب الجيل الأوَّل، ولكنها لا تدور بين جيوش نظامية، بل بين عصابات، أو أطراف متنازعة، للسيطرة على تجارة المخدرات، أو سوق الرقيق الأسود، أو مصادر الثروات الطبيعية، أو حتى لفرض السطوة والسيطرة … ولقد اعتبرت جيلاً من أجيال الحروب، لأن أطرافها صار بإمكانهم استخدام المدافع الثقيلة، الدبابات والطائرات، من خلال تجار أسلحة، يسعدهم أن يشتعل العالم كله بالحروب؛ حتى تتضاعف ملياراتهم، حتى أنهم فى كثير أو معظم الأحيان، يبيعون السلاح والمعدات الحربية للطرفين المتنازعين، على حد سواء.. ثم جاء زمن الجيل الثالث من الحرب «3GW» وهو ما يطلق عليه اسم جيل الحروب الوقائية أو الاستباقية «Preventive war» كالحرب على (العراق)، والتى تمت بحجة أنه يمتلك أسلحة دمار شامل، وهو ما ثبت عدم صحته فيما بعد..
ويقول الخبير العسكرى الأمريكى ويليام ليند، إن ذلك النوع من الحروب طوَّره الألمان، فى الحرب العالمية الثانية، وأطلقوا عليه اسم حرب المناورات، والتى تتميَّز بالسرعة والمرونة فى الحركة، وتعتمد على عنصر المفاجأة، والقتال خلف خطوط العدو.. ثم نأتى إلى جيل الحروب الحالى، وهو الجيل الرابع للحروب «4GW» .. وحروب الجيل الرابع حروب أمريكية صرفة، تم تطويرها من قبل الجيش الأمريكى، عقب أحداث الحادى عشر من سبتمبر 2001، وأطلقوا عليها اسم «الحرب غير المتماثلة» «Asymmetric warfare» فعقب ضربة الحادى عشر من سبتمبر، وجد الجيش الأمريكى نفسه يحارب لا دولة بل عدة تنظيمات منتشرة حول العالم، وهى تنظيمات محترفة، وتمتلك إمكانيات كبيرة، ولها خلايا خفية، تنشط عشوائياً، لتضرب المصالح الحيوية للدول الأخرى، كالمرافق الاقتصادية، وخطوط المواصلات، وغيرها، فى محاولة منها لإضعاف الدول، أمام الرأى العام الداخلى، لإرغامها على الانسحاب، من مناطق نفوذها، مثل تنظيم القاعدة، وداعش وغيرهما.. وفى تلك الحرب، التى يمكن أن نطلق عليها مصطلح «الحرب بالوكالة» يتم استخدام وسائل الإعلام الجديدة والتقليدية، ومنظمات المجتمع المدنى، والمعارضة، والعمليات الاستخباراتية، وحتى النفوذ الأمريكى فى أى بلد، وكل هذا لخدمة مصالح الولايات المتحدة الأمريكية،وسياسات البنتاجون.. ولو راجعت الوثيقة الماسونية، التى يعود تاريخها إلى القرن السابع عشر، لوجدتها تتحدَّث عن سمات حروب الجيل الرابع؛ لإسقاط الدول، مع فارق أنها لم يطلق عليها الاسم فحسب، فأوَّل من أطلق مصطلح «حروب الجيل الرابع» أو «4GW» فى محاضرة علنية، هو البروفيسور ماكس مايوراينك، فى معهد الأمن القومى الإسرائيلى، عام 2004، وعرَّفها آنذاك فى اختصار بأنها : حرب بالإكراه، إفشال الدولة، وزعزعة الاستقرار فيها، وعندما توشك على الانهيار، يتم فرض واقع جديد عليها، تُراعَى المصالح الأمريكية وحدها.. وقد حدَّد مايوراينك فى محاضرته تلك، عناصر حروب الجيل الرابع، فى خمس نقاط أساسية.. «الإرهاب.. قاعدة إرهابية غير وطنية، أو متعددة الجنسيات.. حرب نفسية مدروسة ومتطوَّرة للغاية، من خلال الإعلام والتلاعب النفسى.. استخدام كل الضغوط المتاحة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية..استخدام تكتيكات حرب العصابات، وإشاعة روح التمرَّد».. وعلى الرغم من أنه هناك فئة من الشباب تستنكر وتنكر وجود الجيل الرابع للحروب، لأنها لا ترى مظاهر حروب الجيل الأول التقليدية من حولها، من جيوش متقاتلة، ودبّابات متواجهة، وطائرات تناور وتشتبك، إلا أن أى مراجع، لما واجهته مصر، عقب ثورة الثلاثين من يونيو 2013، سيرى فى وضوح، أن كل القواعد الخمس، أو العناصر الخمسة لحروب الجيل الرابع، قد استخدمت معنا، مع سقوط حكم نظام الإخوان.. الإرهاب متعدَّد الجنسيات ظهر فى سيناء، وقنوات فضائية بعينها، راحت تزيَّف الحقائق أو تتلاعب بها، وحرب الشائعات بلغت أوجها، عبر كل وسائل التواصل الاجتماعى، وكل الضغوط استخدمت ضدنا، من تقارير هيومان رايتس، إلى منع السلاح، وتجميد المعونات العسكرية، وانتشار ضربات حرب العصابات، من الهجوم على الأكمنة ومقرات الشرطة والجيش.. وعلى الرغم من كل هذا، مازال هناك
ولأن حروب الجيل الرابع تسعى لهدف أساسى، وهو هدم الدول، فهى تتشكَّل وتتلوَّن، فى كل صورة، يمكن أن تسقط دولة، والعجيب أن أهم سماتها وأقوى أسلحتها التشكيك فى وجودها أساساً، على الرغم من آلاف الدراسات العربية والأجنبية عنها، والتى يمكن متابعتها، عبر شبكة الإنترنت، ومن أن كونداليزا رايس، مستشارة الأمن القومى الأمريكية فى زمن كلينتون، قد أشارت إليها فى وضوح، فى حديث لها، نشرته واشنطن بوست، عام ٢٠٠٥، والأعجب أن هناك من هم أشبه بالعميان، العنيدين، الذين يرفضون الاعتراف بوجود القمر؛ لمجرَّد أنهم لا يرونه، ولا يشعرون له ببرودة أو حرارة، والتفسير الوحيد هو أنهم، إما جهلاء وعنيدون، لدرجة يصعب تصوَّرها، أو أنهم يمارسون دوراً، وربما عن جهل، من أدوار حروب الجيل الرابع.. خاصة وأنهم بإصرارهم، يقحمون فئة جديدة، من كسالى الثقافة، وتنابلة المعرفة، نحو بحيرة جهلهم أو تآمرهم، ليسقط فيها أكبر عدد من العامة، الذين عند إقناعهم بعدم وجود ما يسمى بحروب الجيل الرابع، يتصوَّرون أن الدولة تفتعل وتتصنَّع كل هذا، ويفقدون ثقتهم فيها، فيضعف انتماؤهم، وتسهل السيطرة عليهم وإعادة توجيههم، من كل صاحب مصلحة، فى إسقاط وانهيار الدولة.. ومما قد لا يدركه العديدون، حتى من غير المتخصصين، من رجال الأمن، أن وسائل حروب الجيل الرابع يمكن أن تتخذ صور الجرائم التقليدية، ولكن على نطاق أكبر، وانتشار أوسع، وإمكانيات غير محدودة.. فاليوتيوب مثلاً، قد يحوى عشرات الأفلام والمشاهد، التى يتم تزييفها، أو اجتزاؤها من سياقها؛ حتى تحمل معنى يخالف معناها الحقيقى، كأن تأخذ من الآية الكريمة عبارة (لا تقربوا الصلاة)، وتنشرها وحدها، دون بقيتها (وأنتم سكارى)، وتستطيع عندئذ أن تقسم، بأن هذا جاء فى القرآن الكريم، ولا تشير إلى أنك قد اجتزأته من معنى لم يكتمل.. أو أن ترى مشهداً تم تصويره، وأضيفت إليه أصوات مختلفة، توحى بأن المتحدَّث على الشاشة، يقول شيئاً مختلفاً، عما يقوله فعلياً.. التكنولوجيا والتمويل السخى، يجعلان هذا ليس ممكناً فحسب، بل شديد السهولة أيضاً.. وعدد الشائعات التى تطلق، فى الأشهر الأخيرة، تكاد توحى بوجود شائعة جديدة، تمس حياة المواطنين، كل دقيقة واحدة تقريباً.. ليس هذا فحسب، بل إن هناك أجهزة مخابرات معادية، قد تقوم بتزييف العملة الوطنية، وطرح ملايين منها فى الأسواق، حتى تنهار مع الوقت، وتفقد قيمتها، ويبلغ الغلاء حداً فاحشاً، ويثور الناس، أو تعمد إلى جمع العملات الأجنبية، وحجبها عن الأسواق، فيقل عددها، ويرتفع سعرها، أمام العملة الوطنية.
المخدرات أيضاً، صارت وسيلة من وسائل حروب الجيل الرابع، باعتبار أن كبار مهربيها يحتاجون إلى الملايين من العملة الأجنبية، مما يزيد من الطلب عليها، فترتفع قيمتها أمام العملة الوطنية، ويتضاعف الغلاء.. وهناك سعى مستمر، لتأليب الفئات المهمشة والفقيرة، على متوسطى الحال والأغنياء، حتى تنبت فى أعماقهم بذرة ثورة جياع، تنهار معها أركان الدولة.. وكتيبة التشكيك فى كل شيء وأى شيء تعمل لحساب حروب الجيل الرابع، حتى وإن كانت تجهل هذا، وتسبح مع التيار فقط.. حتى أفلام السينما يمكن أن تتحوَّل دون أن تدرى، إلى قطعة شطرنج، على رقعة حروب الجيل الرابع، بأن تظهر السكيرين ومدمنى المخدرات، فى صورة شخصيات لطيفة جذَّابة، خفيفة الظل، كثيرة العلاقات النسائية، إلى حد يجعل الكثير من ضعاف النفوس من الشباب، يحلمون باكتساب نفس الشخصية.. وكل هذا هدم للمجتمع، عن قصد أو بدون قصد.
أساليب ووسائل حروب الجيل الرابع عديدة ومتنوَّعة، وأشبه بحرباء موهوبة، تتبدَّل وتتلوَّن، فى كل مرة، وفقاً للبيئة المحيطة بها، ولكنها، وفى كل الأحوال، تظل حروب جيل رابع، وليست حروب جيل خامس.