د. نبيل فاروق يكتب: السلاح الجبار
تغيَّر العالم كثيراً، مع نهاية النصف الأوَّل، من القرن العشرين، وبداية النصف الثانى منه، فالنصف الأوَّل من القرن العشرين، كان حقبة شديدة العنف، كثيرة الدمار، شهدت الحرب العالمية الأولى، أو ما أطلق عليها أيامها الحرب العظمى، التى استغرقت أربع سنوات وثلاثة أشهر، وأسبوعا واحدا "28 يوليو 1914- 11 نوفمبر 1918م"، بسبب اغتيال الأرشيدوق النمساوى فرانز فريناندو.
بلغ مجموع القتلى والمفقودين فيها ما يقرب من العشرين مليوناً، وقيل أيامها إنها الحرب التى ستنهى كل الحروب، وكانت أحد أسباب اندلاع الثورة الروسية 1917م، والتى غيرَّت مجرى التاريخ، وأدت الحرب العالمية الأولى إلى سقوط الإمبراطورية الألمانية، والروسية، والنمسا والمجر، والأهم انهيار الإمبراطورية العثمانية، وتقسيم مناطقها على الدول المنتصرة، كما أدَّت أيضاً إلى إنشاء عصبة الأمم.. ولكن الحرب العالمية الأولى، لم تكن تلك التى أنهت كل الحروب، كما تصوَّر الكل.
ففى عام 1933م، تم تعيين أدولف هتلر مستشاراً لألمانيا، حيث عمل على وأد الديمقراطية، التى أتت به، وإرساء دعائم نظام، تحكمه نزعة الشمولية، والدكتاتورية الفاشية،وتحدٍ لمعاهدة فرساى، التى تم توقيعها فى 28 يونيو 1919م، وتعديلها فى 10 يناير 1920م، والتى حمَّلت ألمانيا مسئولية الحرب العالمية الأولى، وأغرقتها بتعويضات لكل الأطراف المتحاربة، ومنعتها من تكوين جيش وطنى، وأعلن هتلر التمرَّد، وامتنع عن دفع التعويضات، وعمل على بناء جيشه، وطالب باسترداد كل ما تم اقتطاعه من ألمانيا، لصالح الدول المنتصرة، وسرعان ما تطوَّرت الأمور، لتندلع الحرب العالمية الثانية، التى امتدَّت لست سنوات ويوم واحد " 1 سبتمبر 1939- 2 سبتمبر 1945م" والتى راح ضحيتها ما يقرب من العشرين مليوناً، من العسكريين فقط، وما يقرب من الخمسين مليوناً من المدنيين، وانتهت بهزيمة ألمانيا واليابان وحلفائهما، وانتحار أدولف هتلر (كما أعلن أيامها)، والأخطر أنها انتهت بمولد سلاح جبار، لم يكن من السهل استيعابه، فى ذلك الحين.. القنبلة الذرية..
فخلال السنوات الأخيرة من الحرب، كان الأمريكيون يعملون جاهدين، على ما أطلقوا عليه اسم "مشروع مانهاتن"، والذى كان يسعى لإنتاج سلاح جبار، يعتمد على انشطار أو اندماج الذرة، مع ما يوَّلده هذا من طاقة هائلة، مسببة دماراً شاملاً، فى مساحة كيلو مترات، من مركز تفجيرها.. ورغم سقوط برلين فى 2 مايو 1945م، وانهيار الرايخ الثالث، واستسلام ألمانيا رسميًاً، بقيت اليابان تواصل القتال، وكان جنرالات أمريكا يرغبون بشدة فى تجربة سلاحهم الجبار، ومعرفة مدى تأثيره فى أرض المعركة، وعندما عرضوا الأمر على الرئيس الأمريكى، آنذاك هارى ترومان، تردَّد ورفض فى البداية، باعتبار أن ألمانيا قد سقطت، وسقوط اليابان صار مسألة وقت فحسب، ولكن جنرالاته أقنعوه بأنه لا قيمة لامتلاك سلاح جبار، ما لم يدرك الكل قوته، ويعلمون أنهم يمتلكونه.. وهكذا وقّع ترومان الأمر التنفيذى، وخرجت طائرة أمريكية، فى السادس من أغسطس 1945م، حاملة القنبلة النووية الانشطارية المسماه بالولد الصغير "Little Boy " لتلقيها على مدينة هيروشيما اليابانية، وتمحو المدينة من الوجود تقريباً، وتقتل منها مائة وأربعين ألفاً من اليابانيين، مات نصفهم فوراً، ولحق بهم النصف الآخر، متأثراً بالحروق الإشعاعية والعادية، والجروح، والصدمات، ومات ما يقرب من ألف شخص فيما بعد، من التأثيرات المتأخرة للإشعاع..
وبقدر صدمة اليابانيين، إلا أنهم عجزوا عن استيعاب ما حدث، وراحوا يحاولون التكَّهن، بكيفية محو مدينة بأكملها من الوجود، فى غمضة عين، وتصوَّر بعضهم أن أمريكا وحلفاءها أرسلوا عشرة آلاف طائرة، ألقت كلها حمولتها المتفجَّرة فى آن واحد، وتمادى بعضهم، فقال إن الأمريكيين قد أسقطوا أطناناً من الفوسفور على المدينة، ثم أشعلوها بقنبلة حارقة واحدة، ولم يصدقوا حتى ما أعلنته أمريكا، من أنها قد محت هيروشيما بقنبلة جبارة واحدة، ورفضوا الاستسلام، وفوجئ ترومان بجنرالاته، يطالبونه بأمر تنفيذى جديد، لإلقاء القنبلة الثانية، التى أسموها الرجل البدين "Fat Man" على مدينة ناجازاكى، وثار ترومان، وأخبرهم أن التاريخ سيصنفه كأكبر سفاح، خاصة وأن اليابانيين سيستسلمون حتماً، عندما يدركون أن الأمر حقيقيا.. ومرة أخرى نجح الجنرالات فى إقناعه، بأنهم قد أنتجوا طرازين من القنابل النووية، طرازا انشطاريا، وآخر اندماجيا، وهم بحاجة لمعرفة أى نوع أكثر قوة، ولهذا اختاروا ناجازاكى، المساوية لهيروشيما فى المساحة، وفى تعداد السكان.. وأصدر ترومان الأمر بالفعل.
وفى التاسع من أغسطس 1945م، تم تكليف الطيار تشارلى سويينى بقيادة طائرته، وإلقاء القنبلة، التى لم يكن يدرك ماهيتها، على ناجازاكى.. الانفجار دمَّر تسعين فى المائة، من منشأت المدينة، وقتل أكثر من خمسة وسبعين ألفاً، خمسة وتسعون فى المائة منهم من المدنيين.. وفى الخامس عشر من أغسطس 1945م، أعلنت اليابان استسلامها، دون قيد أو شرط.. وانتهت الحرب العالمية الثانية.. وتم استبدال عصبة الأمم، بمنظمة الأمم المتحدة "United Nation" فى الرابع والعشرين من أكتوبر 1945م، وضمَّت إلى عضويتها كل دول العالم المستقلة تقريباً..
الأهم من هذا، أن السلاح النووى لم يستخدم بعدها قط، وخاصة بعد أن أدرك الكل عمليا وعلمياً، أن تأثيره لا يقتصر على الانفجار وحده، ولكنه يمتد إلى تلوث إشعاعى، قد تنقله الرياح والأمطار، إلى العالم كله تقريباً.. وهكذا تحوَّل السلاح النووى من سلاح جبار، إلى سلاح ردع فحسب، لا يمكن استخدامه، إلا إذا ما وصلت الأمور إلى حافة الهاوية، بحيث يعلو مبدأ شمشون (علىَّ وعلى أعدائى)، فتنطلق الأسلحة النووية؛ لتفنى الكل بلا استثناء.. وكان من الضرورى إيجاد سلاح جبار آخر، يضاهى القنبلة النووية تأثيراً، وليست لديه الآثار الجانبية المدمَّرة مثلها.. حاولوا لعقود، إنتاج ما أسموه بالقنبلة النووية النظيفة، ذات التأثير الإشعاعى المحدود، ولكن كل المحاولات باءت بالفشل، وهنا قرروا الرجوع إلى تكنيكات الحرب العالمية الثانية، وإلى أحد أكثر لاعبيها شهرة، بعد قادة الدول والجيوش.. إلى باول جوزيف جوبلز "29 أكتوبر 1897- 1 مايو 1945م" وزير الدعاية أو البروباجندا، فى زمن ألمانيا النازية من 14 مارس 1933 إلى 30 ابريل 1945م.
فاعتمد جوبلز على فن الكذب، أو ما تحوَّل فيما بعد إلى فن الشائعات، وكان يدرك أن الشائعات سلاحا جبارا، يمكنه هدم دولة بكاملها، لو أحسن اللعب به واستغلاله، حتى أنه وضع بعض القواعد الأساسية له، وكانت له عبارة شهيرة " اكذب اكذب اكذب، فحتماً سيبقى من كذبك شيئاً"، ولقد اعتمد جوبلز على الشائعات، لتثبيت أركان الحكم النازي، وتعلية صورة هتلر، وتحطيم الروح المعنوية للشعوب المتحاربة.. وبعد إثبات عدم جدوى القنبلة النووية، كسلاح حربى جبار، بدأت كل مخابرات العالم، فى دراسة وتطوير فن الشائعات والكذب، الذى أنشأه جوزيف جوبلز، وأحسن استخدامه.
فالشائعة خبر أو مجموعة أخبار زائفة، تنتشر فى المجتمع على نحو سريع، ويتم تداولها بين العامة، ظناً منهم أنها حقيقة، وخاصة لو امتزجت الشائعة بالتشويق، وكانت مثيرة للفضول، رغم أنها تفتقر دوماً إلى المصدر الموثوق، أو أى أدلة تدل على صحة الخبر.. ومن الإحصائيات المثيرة للاهتمام، أن سبعين فى المائة من المعلومات المتداولة لدى العامة مجردَّ شائعات.. والكذبة لكى تكون متقنة؛ لإنجاب شائعة، لابد وأن تعتمد على لمحة من حقيقة، يمكن التأكَّد منها، من مصادر موثوقة، وتضاف الأكاذيب الكبيرة لتلك اللمحة، بحيث تصنع شائعة زائفة قوية..
والشائعات يتم تقسيمها بأكثر من طريقة، وفقاً للغرض منها، ونطاق ومدى تأثيرها، والسرعة المطلوبة لانتشارها.. وليست الشائعات كلها حربية، بل يمكن أن تكون هناك شائعات صناعية أو تجارية تنافسية، كما عاصرنا ذات مرة أن أحد المطاعم، التى تموَّلها جماعات إسلامية قد أشاع أن المطاعم الأخرى، التى تحمل علامات تجارية أجنبية تستخدم لحوماً غير صالحة للاستهلاك الآدمى، أو لحوم خنازير، أو حمير، أو أن يشيع منافس ما أن منتجات منافسة بها مقدار من الإشعاع الضار مثلاً؛ ففى عام 2009م، فى المملكة العربية السعودية، سرت شائعة تقول: إن ماكينات الخياطة سنجر القديمة تحتوى فى داخلها على الزئبق الأحمر، فارتفعت مبيعات ذلك النوع الراكد، من المخزون القديم لتلك الماكينات، وبلغت سعراً خرافياً، قبل أن يتبيَّن خطأ وغرض الشائعة.
وبعض الشائعات قد تتنافى مع العقل السليم، ورغم هذا، فهى تجد من يؤيَّدها ويسعى لترويجها، كتلك الشائعة،التى انتشرت فى تسعينيات القرن العشرين، بأن النجم محمد صبحى مسيحى الديانة، والشائعات التى انتشرت مؤخراً، عن وجود بيض وأرز وسمك صينى، مصنوعة من البلاستيك.. الشائعة كانت مضحكة وبعيدة عن المنطق السليم تماماً، ولكنها وجدت من يسعى لترويجها، إما بحسن نية، أو لغرض فى نفسه، فمنذ فترة، ومصر تواجه هجمة شرسة، من كل أعدائها، عن طريق شائعات، بلغ عددها، خلال ثلاثة أشهر فقط، ما يقرب من واحد وعشرين ألف شائعة، وفى الشهر الأخير، أثبتت دراسة علمية جادة انطلاق ثلاث وخمسين ألف شائعة، سبعون فى المائة منها، روَّجتها وسائل التواصل الاجتماعى، والتى يسارع أصحابها بترويج كل شائعة تصل إليهم، دون أدنى محاولة، للتأكَّد من صحتها، وبعضها شائعات يمكن أن تؤثر فى الاقتصاد المصرى كله، ومروجوها من الحماقة وقلة العقل، حتى أنهم لا يدركون ما يفعلونه، متصورون أنهم سيصيرون أبطالاً، إذا ما سارعوا بنقل الخبر، دون أن يدركوا أن مطلقى الشائعة يرونهم كمجموعة من الغنم، يمكن توجيههم وقتما وكيفما يريدون !!.. بعض تلك الشائعات يكون هدفها إحداث رجَّة فى المجتمع، وفقدان الثقة فى نظامه الحاكم، أو إثارة مشاعر فئة من العامة؛ لدفعهم إلى الثورة على حكوماتهم، مثل شائعة تقليل أو إيقاف المواد التموينية، أو فصل العاملين فى بعض المنشآت الحكومية، أو فرض ضرائب جديدة، على أمور غير خاضعة للضريبة، وفى كل الأحوال، ومهما قلنا، أو فعلنا، أو حذرنا، فسيظل هناك من يستمع إلى الشائعة، ويؤمن بها، ويرددَّها ويروَّجها، ومن هنا تأتى قوتها، كسلاح جبار، يمكن أن ينهش فى بدن أمة كاملة، مع مرور الوقت، وخاصة لو كانت شائعات من النوع الزاحف، الذى أشرنا إليه، فى مقال سابق، والذى يسرى فى المجتمع ببطء، وينتشر من لسان إلى آخر، حتى يزيح الحقيقة عن طريقه، ويحل محلها فى العقول، فيصير عند العامة أشبه بالحقيقة، حتى أنهم قد يرفضون الحقيقة نفسها، مهما حاولت إقناعهم بها.
والسلاح الوحيد، الذى يمكنه محاربة سلاح الشائعات الجبار، سلاح الشفافية والمصارحة، فلو أنك صارحت الناس بالحقائق، مهما بدت مُرة، واستطعت اكتساب ثقتهم، عبر شفافية علنية حقيقية، لما استمعوا أو اهتموا بالشائعات، ولصارت الشفافية والمصارحة هى السلاح الجبار الجديد الذى يربح كل الحروب، وتستحيل هزيمته مطلقاً.