رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


د. نبيل فاروق يكتب: خلف‭ ‬القضبان‬‬

10-12-2020 | 19:58


عبر‭ ‬التاريخ‭ ‬الحديث‭ ‬كله‭، ‬وفى‭ ‬كل‭ ‬ثوراته‭ ‬المعروفة‭، ‬فى‭ ‬كل‭ ‬بلدان‭ ‬العالم‭، ‬كان‭ ‬الهدف‭ ‬الأوَّل‭ ‬للثوار‭ ‬دوماً‭، ‬هو‭ ‬السجون‭.. ‬فالسجون‭ ‬بالنسبة‭ ‬لهم‭ ‬كانت‭ ‬رمزاً‭ ‬لقهر‭ ‬الحرية‭، ‬التى‭ ‬ثاروا‭ ‬من‭ ‬أجلها‭، ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬فى‭ ‬أذهانهم‭، ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬الاندفاع‭ ‬الانفعالى‭، ‬التى‭ ‬تصاحب‭ ‬الثورات‭، ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬التفرقة‭، ‬بين‭ ‬مسجون‭ ‬يعاقب‭ ‬خلف‭ ‬القضبان‭، ‬لجريمة‭ ‬ارتكبها‭، ‬أو‭ ‬ذنب‭ ‬اقترفه‭، ‬وآخر‭ ‬وضع‭ ‬خلف‭ ‬القضبان‭، ‬لرأى‭ ‬عارضه‭، ‬أو‭ ‬فكر‭ ‬قاومه‭.. ‬المهم‭ ‬أنها‭ ‬سجون‭ ‬وقضبان‭، ‬تبدو‭ ‬لهم‭ ‬أشبه‭ ‬بقضبان‭ ‬الخوف‭، ‬التى‭ ‬تحيط‭ ‬بنفوسهم‭، ‬والتى‭ ‬دفعتهم‭ ‬من‭ ‬شدتها‭، ‬للثورة‭ ‬على‭ ‬أحوالهم‭، ‬وعلى‭ ‬النظم‭ ‬التى‭ ‬تحكمهم‭.. ‬وربما‭ ‬أشهر‭ ‬مثال‭ ‬تاريخى‭ ‬لهذا‭، ‬هو‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬لسجن‭ ‬الباستيل‭، ‬إبان‭ ‬الثورة‭ ‬الفرنسية‭.


سجن‭ ‬الباستيل‭ ‬هذا،‭ ‬أنشئ‭ ‬فى‭ ‬فرنسا،‭ ‬بين‭ ‬عامى‭ ‬1370م،و‭ ‬1383م،‭ ‬كحصن‭ ‬دفاعى‭ ‬فى‭ ‬البداية،‭ ‬يحمى‭ ‬باريس‭ ‬ويدافع‭ ‬عنها،‭ ‬ثم‭ ‬لم‭ ‬يلبث‭ ‬أن‭ ‬تحوَّل‭ ‬إلى‭ ‬سجن‭ ‬للمعارضين‭ ‬السياسيين،‭ ‬والمسجونين‭ ‬الدينيين،‭ ‬والمحرضين‭ ‬ضد‭ ‬الدولة،‭ ‬وعلى‭ ‬مدار‭ ‬السنين‭ ‬صار‭ ‬رمزاً‭ ‬للطغيان‭ ‬والظلم‭ ‬والجبروت،‭ ‬وبسببه‭ ‬انطلقت‭ ‬الشرارة‭ ‬الأولى‭ ‬للثورة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬فى‭ ‬4‭ ‬يوليو‭ ‬1789م،‭ ‬حيث‭ ‬تم‭ ‬اقتحامه‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الثوار،‭ ‬والاستيلاء‭ ‬عليه،‭ ‬وإطلاق‭ ‬سراح‭ ‬كل‭ ‬السجناء‭ ‬منه‭.. ‬ومازالت‭ ‬فرنسا‭ ‬تحتفل‭ ‬بهذا‭ ‬اليوم‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬باعتباره‭ ‬اليوم‭ ‬الوطنى‭ ‬لفرنسا‭.. ‬ولو‭ ‬أردنا‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬السجون،‭ ‬كانت‭ ‬العقوبات‭ ‬فى‭ ‬مجملها‭ ‬بدنية،‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬الضرب‭ ‬أو‭ ‬الجلد،‭ ‬أو‭ ‬النفى‭ ‬أحياناً‭ ‬خارج‭ ‬البلاد،‭ ‬ثم‭ ‬فجأة،‭ ‬نشأ‭ ‬نظام‭ ‬للسجون،‭ ‬ولا‭ ‬ريب‭ ‬فى‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬قد‭ ‬حدث‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬طويل‭ ‬جداً؛‭ ‬لأن‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬يتحدَّث‭ ‬فى‭ ‬آياته‭ ‬عن‭ ‬سجن‭ ‬سيدنا‭ ‬يوسف،‭ ‬فى‭ ‬مصر‭ ‬الفرعونية،‭ ‬مما‭ ‬يعنى‭ ‬أن‭ ‬نظام‭ ‬السجون‭ ‬قد‭ ‬نشأ‭ ‬قبل‭ ‬هذا‭ ‬بكثير،‭ ‬واستخدم‭ ‬فى‭ ‬أزمنة‭ ‬غابرة،‭ ‬كعقاب‭ ‬بديل‭ ‬للعقاب‭ ‬البدنى،‭ ‬أو‭ ‬النفى،‭ ‬وربما‭ ‬كوسيلة‭ ‬لعزل‭ ‬المجرم‭ ‬أو‭ ‬المخطئ‭ ‬عن‭ ‬المجتمع‭ ‬لفترة،‭ ‬يراجع‭ ‬خلالها‭ ‬نفسه،‭ ‬أو‭ ‬يعيد‭ ‬تقييم‭ ‬أفعاله،‭ ‬وينال‭ ‬عقابه‭ ‬فى‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته‭ ‬أيضاً،‭ ‬والسجون‭ ‬وردت‭ ‬فى‭ ‬التوراة‭ ‬والعهد‭ ‬القديم‭ ‬أيضاً،‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬موجودة‭ ‬فى‭ ‬القدس،‭ ‬منذ‭ ‬عصر‭ ‬النبى‭ ‬موسى،‭ ‬وقبل‭ ‬ذلك‭ ‬بكثير‭ ‬أيضاً‭.. ‬ومصطلح‭ ‬السجن‭ ‬يطلق‭ ‬على‭ ‬أى‭ ‬مكان‭ ‬يتم‭ ‬فيه‭ ‬سلب‭ ‬حرية‭ ‬المرء،‭ ‬وهو‭ ‬معد‭ (‬أو‭ ‬يفترض‭ ‬هذا‭)‬،‭ ‬ليصبح‭ ‬صالحاً‭ ‬لاحتجاز‭ ‬شخص‭ ‬أو‭ ‬أكثر،‭ ‬ويحاط‭ ‬عادة‭ ‬بقضبان‭ ‬أو‭ ‬أسوار‭ ‬عالية،‭ ‬وتعين‭ ‬عليه‭ ‬حراسة؛‭ ‬لمنع‭ ‬المسجون‭ ‬أو‭ ‬المسجونين‭ ‬من‭ ‬الفرار،‭ ‬ومن‭ ‬هذا‭ ‬المصطلح‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يسجن‭ ‬المرء‭ ‬فى‭ ‬مكان‭ ‬كبير،‭ ‬أو‭ ‬حجرة‭ ‬صغيرة،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬منزله،‭ ‬لو‭ ‬توافرت‭ ‬تلك‭ ‬الشروط‭ ‬حوله،‭ ‬فاللواء‭ ‬أركان‭ ‬حرب‭ ‬محمد‭ ‬نجيب،‭ ‬أول‭ ‬رئيس‭ ‬جمهورية‭ ‬لمصر‭ (‬18‭ ‬يونيو‭ ‬1953‭- ‬14‭ ‬نوفمبر‭ ‬1954م‭)‬،‭ ‬عندما‭ ‬تم‭ ‬تحديد‭ ‬إقامته‭ ‬فى‭ ‬قصر‭ ‬زينب‭ ‬الوكيل‭ ‬فى‭ ‬المرج،‭ ‬مع‭ ‬حراسة‭ ‬تحيط‭ ‬به؛‭ ‬لمنعه‭ ‬من‭ ‬مغادرة‭ ‬المكان،‭ ‬كان‭ ‬يعد‭ ‬مسجوناً،‭ ‬تحت‭ ‬بند‭ (‬الإقامة‭ ‬الجبرية‭)‬،‭ ‬وهناك‭ ‬حالات‭ ‬تم‭ ‬خلالها‭ ‬سجن‭ ‬البعض‭ ‬فى‭ ‬منازلهم،‭ ‬المحاطة‭ ‬بحراسة،‭ ‬تحت‭ ‬مسمى‭ (‬تحديد‭ ‬الإقامة‭)‬،‭ ‬وكلها‭ ‬صور‭ ‬مختلفة‭ ‬للسجن،‭ ‬الذى‭ ‬يحتجز‭ ‬حرية‭ ‬الفرد‭.. ‬وفى‭ ‬العصور‭ ‬الحديثة،‭ ‬فى‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬المتطوَّرة‭ ‬تكنولوجياَ،‭ ‬تمت‭ ‬تجربة‭ ‬نوع‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬السجون‭ ‬الذاتية،‭ ‬وهى‭ ‬سجون‭ ‬بلا‭ ‬أسوار،‭ ‬ولكن‭ ‬كل‭ ‬مسجون‭ ‬فيها‭ ‬يحيط‭ ‬بكاحله‭ ‬سوار‭ ‬كهربى‭ ‬خاص،‭ ‬يرتبط‭ ‬بحاجز‭ ‬إشارة،‭ ‬لابد‭ ‬وأن‭ ‬يستقبل‭ ‬إشارة‭ ‬من‭ ‬الأساور‭ ‬طوال‭ ‬الوقت،‭ ‬فى‭ ‬نطاق‭ ‬محدود،‭ ‬فلو‭ ‬خرج‭ ‬المسجون‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬النطاق،‭ ‬يطلق‭ ‬السوار‭ ‬على‭ ‬ساقه‭ ‬شحنة‭ ‬كهربية‭ ‬قوية‭ ‬تفقده‭ ‬الوعى،‭ ‬وتستدعى‭ ‬رجال‭ ‬الحراسة‭ ‬لإعادته‭ ‬للداخل‭.. ‬وهذا‭ ‬الأسلوب‭ ‬نفسه‭ ‬يستخدم‭ ‬مع‭ ‬من‭ ‬يرتكبون‭ ‬مخالفات‭ ‬محدودة،‭ ‬من‭ ‬المراهقين‭ ‬والناضجين،‭ ‬حيث‭ ‬توضع‭ ‬تلك‭ ‬الأساور‭ ‬حول‭ ‬كواحلهم،‭ ‬مرتبطة‭ ‬بجهاز‭ ‬داخل‭ ‬منازلهم،‭ ‬لا‭ ‬يحق‭ ‬لهم‭ ‬حتى‭ ‬لمسه،‭ ‬فإذا‭ ‬مات‭ ‬ابتعدوا‭ ‬عن‭ ‬المنزل‭ ‬لمسافة‭ ‬يتم‭ ‬تحديدها،‭ ‬ترسل‭ ‬تلك‭ ‬الأساور،‭ ‬إشارة‭ ‬للشرطة،‭ ‬التى‭ ‬تهرع‭ ‬فوراً‭ ‬إلى‭ ‬المكان،‭ ‬ولو‭ ‬تجاوز‭ ‬الشخص‭ ‬النطاق‭ ‬المفروض‭ ‬عليه‭ ‬عدة‭ ‬مرات،‭ ‬يتم‭ ‬استبدال‭ ‬عقوبة‭ ‬الحبس‭ ‬المنزلى‭ ‬تلك،‭ ‬بالسجن‭ ‬العام،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬الكل‭ ‬حريصاً‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬تجاوز‭ ‬النطاق‭ ‬المفروض‭.. ‬وتاريخ‭ ‬السجون‭ ‬يقودنا‭ ‬إلى‭ ‬الألفية‭ ‬الأولى‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد،‭ ‬فى‭ ‬مصر‭ ‬وبلاد‭ ‬الرافدين،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬الزنازين‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬فجوات‭ ‬تحت‭ ‬سطح‭ ‬الأرض،‭ ‬يوضع‭ ‬فيها‭ ‬الشخص،‭ ‬دون‭ ‬أية‭ ‬وسائل‭ ‬إعاشة،‭ ‬وتغطى‭ ‬بغطاء‭ ‬ثقيل،‭ ‬من‭ ‬شبكة‭ ‬حديدية،‭ ‬يلقى‭ ‬إليه‭ ‬الطعام‭ ‬والشراب‭ ‬عبرها،‭ ‬ثم‭ ‬غيرت‭ ‬اليونان‭ ‬الوضع‭ ‬قليلاً،‭ ‬فتحوَّلت‭ ‬تلك‭ ‬الزنازين‭ ‬تحت‭ ‬الأرضية‭ ‬إلى‭ ‬أقفاص‭ ‬خشبية،‭ ‬يوضع‭ ‬فيها‭ ‬المساجين،‭ ‬مقيدين‭ ‬بأصفاد‭ ‬ذات‭ ‬سلاسل‭ ‬محدودة،‭ ‬حول‭ ‬المعصمين‭ ‬والكاحلين،‭ ‬وكانت‭ ‬أول‭ ‬مرة‭ ‬يسمح‭ ‬فيها‭ ‬للأقارب‭ ‬والأصدقاء‭ ‬بزيارة‭ ‬ذويهم‭ ‬المسجونين،‭ ‬ثم‭ ‬عادت‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الرومانية‭ ‬للزنازين‭ ‬تحت‭ ‬الأرضية،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬أكثر‭ ‬قسوة،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬ضيقة،‭ ‬بينها‭ ‬ممرات‭ ‬وطرق،‭ ‬وتسبب‭ ‬الرهاب‭ ‬والاختناق،‭ ‬وكان‭ ‬السجناء‭ ‬يقيدون‭ ‬بالسلاسل،‭ ‬لمدد‭ ‬غير‭ ‬محدودة،‭ ‬قد‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬مدى‭ ‬الحياة،‭ ‬ولأن‭ ‬نظام‭ ‬العبودية‭ ‬كان‭ ‬موجوداً‭ ‬آنذاك،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬السجن‭ ‬يستلزم‭ ‬من‭ ‬المسجون،‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬عبداً‭ ‬مصارعاً،‭ ‬يقاتل‭ ‬ويموت‭ ‬فى‭ ‬الحلبة،‭ ‬وفى‭ ‬أوروبا‭ ‬ظلت‭ ‬أحوال‭ ‬السجون‭ ‬قاسية،‭ ‬حتى‭ ‬بداية‭ ‬الملكية‭ ‬الإنجليزية،‭ ‬حيث‭ ‬بدأ‭ ‬تطبيق‭ ‬نظام‭ ‬أكثر‭ ‬عدلاً،‭ ‬فى‭ ‬عام‭ ‬1166م،‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬هنرى‭ ‬الثانى‭ ‬ملك‭ ‬إنجلترا،‭ ‬الذى‭ ‬شيَّد‭ ‬أول‭ ‬سجن‭ ‬تدخله‭ ‬الإصلاحات‭ ‬القانونية،‭ ‬ووضع‭ ‬فى‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته‭ ‬أوَّل‭ ‬مسوَّدة،‭ ‬لما‭ ‬عرف‭ ‬بعدها‭ ‬بنظام‭ ‬المحلفين‭... ‬وفى‭ ‬عام‭ ‬1215م،‭ ‬وقَّع‭ ‬جون‭ ‬ملك‭ ‬إنجلترا‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬التشريعات‭ ‬التاريخية‭ ‬المعروفة،‭ ‬باسم‭ ‬الماجنا‭ ‬كارتا،‭ ‬والتى‭ ‬أجبر‭ ‬فى‭ ‬الواقع‭ ‬على‭ ‬توقيعها،‭ ‬بضغط‭ ‬من‭ ‬النبلاء‭ ‬والشعب‭... ‬وفى‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬عشر‭ ‬بدأ‭ ‬اضمحلال‭ ‬الإقطاعية،‭ ‬والتوسع‭ ‬فى‭ ‬إنشاء‭ ‬المدن،‭ ‬وفى‭ ‬تلك‭ ‬الحقبة‭ ‬حدثت‭ ‬اضطرابات‭ ‬اقتصادية‭ ‬واجتماعية،‭ ‬وصار‭ ‬الكثيرون‭ ‬بلا‭ ‬مأوى،‭ ‬وزادت‭ ‬السرقات‭ ‬وانتشرت‭ ‬الدعارة،‭ ‬ووجدت‭ ‬الدول‭ ‬نفسها‭ ‬أمام‭ ‬معضلة‭ ‬كبيرة،‭ ‬مما‭ ‬تسبب‭ ‬فى‭ ‬إنشاء‭ ‬بيوت‭ ‬عمل،‭ ‬يوضع‭ ‬فيها‭ ‬السُراق‭ ‬ونساء‭ ‬الهوى‭ ‬والمشردين،‭ ‬حيث‭ ‬تكون‭ ‬لهم‭ ‬حجرات‭ ‬وليس‭ ‬زنازين،‭ ‬ولكنهم‭ ‬يجبرون‭ ‬على‭ ‬صناعة‭ ‬منتجات‭ ‬متنوعة،‭ ‬كعمل‭ ‬لإعادة‭ ‬تأهيل‭ ‬تلك‭ ‬الفئات،‭ ‬ولكن‭ ‬باقى‭ ‬دول‭ ‬أوروبا‭ ‬لم‭ ‬تقتنع‭ ‬بالفكرة،‭ ‬أو‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬تنفيذها‭... ‬وفيما‭ ‬بين‭ ‬القرنين،‭ ‬السادس‭ ‬عشر‭ ‬والثامن‭ ‬عشر،‭ ‬ومع‭ ‬تقدَّم‭ ‬الصناعة،‭ ‬تزايد‭ ‬عدد‭ ‬المساجين،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬درامى،‭ ‬فنشأت‭ ‬فكرة‭ ‬نفى‭ ‬المساجين‭ ‬إلى‭ ‬مناطق‭ ‬بعيدة،‭ ‬وتم‭ ‬بالفعل‭ ‬إرسال‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المساجين‭ ‬إلى‭ ‬معسكرات‭ ‬عقابية،‭ ‬فى‭ ‬أدغال‭ ‬أمريكا‭ ‬وأستراليا،‭ ‬للعمل‭ ‬بلا‭ ‬أجر،‭ ‬أى‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬نظاماً‭ ‬أشبه‭ ‬بالعبودية،‭ ‬مما‭ ‬جعل‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المسجونين‭ ‬يلقون‭ ‬حتفهم،‭ ‬من‭ ‬شدة‭ ‬الإرهاق،‭ ‬وسوء‭ ‬التغذية،‭ ‬والإهمال‭ ‬الطبى‭.. ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬محاولات‭ ‬الهرب‭.. ‬ولقد‭ ‬ظلت‭ ‬فرنسا‭ ‬تستخدم‭ ‬هذا‭ ‬الأسلوب،‭ ‬حتى‭ ‬بدايات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬فى‭ ‬حين‭ ‬ظلت‭ ‬روسيا‭ ‬ترسل‭ ‬المساجين‭ ‬إلى‭ ‬شمال‭ ‬شرق‭ ‬سيبريا‭ ‬المتجمَّد،‭ ‬حتى‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭.. ‬ثم‭ ‬كان‭ ‬لإنجلترا‭ ‬أيضاً‭ ‬السبق،‭ ‬فى‭ ‬وضع‭ ‬السجون‭ ‬الحديثة،‭ ‬حيث‭ ‬قاتل‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الإنجليزى‭ ‬جيرمى‭ ‬بنثام‭ (‬1748-‭ ‬1832م‭) ‬لكى‭ ‬يتم‭ ‬إرسال‭ ‬المدانين‭ ‬إلى‭ ‬السجن،‭ ‬باعتباره‭ ‬عقاباً،‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬ضد‭ ‬عقوبة‭ ‬الإعدام،‭ ‬ومن‭ ‬أجل‭ ‬هذا‭ ‬رسم‭ ‬بنثام‭ ‬مخططات‭ ‬لمنشآت،‭ ‬يمكن‭ ‬احتجاز‭ ‬المساجين‭ ‬داخلها،‭ ‬لفترة‭ ‬محدودة‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬وكانت‭ ‬تصاميمه‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬قدرة‭ ‬المساجين‭ ‬على‭ ‬رؤية‭ ‬الحراس،‭ ‬وكان‭ ‬الغرض‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬إطلاق‭ ‬خيالات‭ ‬المسجون،‭ ‬عن‭ ‬حراسة‭ ‬مخيفة‭ ‬فى‭ ‬خياله،‭ ‬توفيراً‭ ‬للنفقات،‭ ‬ولكن‭ ‬تلك‭ ‬التصميمات‭ ‬لم‭ ‬تر‭ ‬النور؛‭ ‬لصعوبة‭ ‬تنفيذها،‭ ‬ولكنها‭ ‬وضعت‭ ‬بذرة‭ ‬الفكرة‭ ‬فى‭ ‬الأذهان،‭ ‬ودفعت‭ ‬الأمريكى‭ ‬بنجامين‭ ‬راش‭ ‬إلى‭ ‬الدعوة‭ ‬لاحتجاز‭ ‬المجرمين،‭ ‬وإعادة‭ ‬تأهيلهم،‭ ‬وهكذا‭ ‬تم‭ ‬بناء‭ ‬أول‭ ‬سجن‭ ‬حقيقى‭ ‬فى‭ ‬أمريكا،‭ ‬وهو‭ (‬wallnut street‭) ‬وعرف‭ ‬باسم‭ ‬الإصلاحية،‭ ‬ومع‭ ‬ازدياد‭ ‬أعداد‭ ‬المساجين،‭ ‬بدأت‭ ‬فكرة‭ ‬بناء‭ ‬سجون‭ ‬كبيرة،‭ ‬مثل‭ ‬السجن‭ ‬الشرقى‭ ‬فى‭ ‬فيلادلفيا،‭ ‬الذى‭ ‬اعتمد‭ ‬فكرة‭ ‬عزل‭ ‬المساجين‭ ‬عن‭ ‬بعضهم‭ ‬البعض؛‭ ‬لمنعهم‭ ‬من‭ ‬تكوين‭ ‬عصابات‭ ‬أو‭ ‬تنظيمات،‭ ‬أو‭ ‬التخطيط‭ ‬لعملية‭ ‬هروب‭ ‬جماعية،‭ ‬ولأن‭ ‬تكلفة‭ ‬السجون‭ ‬الكبيرة‭ ‬كانت‭ ‬عالية،‭ ‬بدأت‭ ‬فكرة‭ ‬أن‭ ‬يتضمن‭ ‬العقاب‭ ‬تشغيل‭ ‬المساجين،‭ ‬للقيام‭ ‬بأعمال‭ ‬النظافة‭ ‬والصيانة‭ ‬والغسيل‭ ‬فى‭ ‬السجن،‭ ‬ثم‭ ‬ابتكروا‭ ‬أسلوب‭ ‬سمى‭ (‬أسلوب‭ ‬الصمت‭) ‬ويعتمد‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يلتزم‭ ‬المساجين‭ ‬الصمت‭ ‬التام،‭ ‬وهم‭ ‬يعملون‭ ‬طوال‭ ‬النهار،‭ ‬ثم‭ ‬يقضون‭ ‬الليل‭ ‬فى‭ ‬زنازين‭ ‬انفرادية،‭ ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬الأسلوب‭ ‬أصاب‭ ‬مساجين‭ ‬كثر‭ ‬بالانهيار‭ ‬النفسى‭ ‬والعصبى،‭ ‬ودفع‭ ‬عدد‭ ‬غير‭ ‬قليل‭ ‬منهم‭ ‬للانتحار،‭ ‬والتخلص‭ ‬من‭ ‬حياته،‭ ‬ولقد‭ ‬كان‭ ‬أشهر‭ ‬سجن‭ ‬طبق‭ ‬هذا‭ ‬النظام،‭ ‬بقسوة‭ ‬بالغة،‭ ‬هو‭ ‬سجن‭ ‬سنج‭ ‬سنج،‭ ‬الذى‭ ‬شهد‭ ‬أشهر‭ ‬حالة‭ ‬إعدام‭ ‬فى‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬عام‭ ‬1953م،‭ ‬وهى‭ ‬إعدام‭ ‬الزوجين‭ ‬جوليوس‭ ‬وإيثيل‭ ‬روزنبرج،‭ ‬بتهمة‭ ‬التخابر،‭ ‬وتسريب‭ ‬سر‭ ‬القنبلة‭ ‬الذرية‭ ‬للسوفييت‭.. ‬ومع‭ ‬إنشاء‭ ‬منظمات‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬بدأ‭ ‬تغيير‭ ‬نظام‭ ‬السجون،‭ ‬بحيث‭ ‬يصبح‭ ‬أكثر‭ ‬آدمية،‭ ‬فلم‭ ‬يعد‭ ‬المسجونون‭ ‬يقيَّدون‭ ‬بالسلاسل‭ ‬طوال‭ ‬الوقت،‭ ‬وسمح‭  ‬لهم‭ ‬باستخدام‭ ‬بعض‭ ‬وسائل‭ ‬الترفيه‭ ‬فى‭ ‬زنازينهم،‭ ‬وصار‭ ‬من‭ ‬حقهم‭ ‬تناول‭ ‬وجبات‭ ‬ساخنة‭ ‬مشبعة‭ ‬يومياً،‭ ‬تحوى‭ ‬اللحم‭ ‬ثلاث‭ ‬مرات‭ ‬أسبوعياً‭.. ‬قارن‭ ‬هذا‭ ‬بما‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬سجن‭ ‬الكاتراز،‭ ‬الذى‭ ‬بنى‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬عامى‭ ‬1920‭-‬1930م،‭ ‬بخليج‭ ‬سان‭ ‬فرانسيسكو،‭ ‬والذى‭ ‬كان‭ ‬شديد‭ ‬الحراسة‭ ‬شديد‭ ‬القسوة،‭ ‬والذى‭ ‬نسجت‭ ‬حوله‭ ‬عدة‭ ‬أساطير،‭ ‬وألهم‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬صناع‭ ‬السينما،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬إغلاقه‭ ‬وتحويله‭ ‬إلى‭ ‬مزار‭ ‬سياحى،‭ ‬عام‭ ‬1963م،‭ ‬بسبب‭ ‬تكاليف‭ ‬حراسته‭ ‬الباهظة‭.. ‬ولكن،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬تطوّر‭ ‬السجون،‭ ‬وتحسين‭ ‬الأحوال‭ ‬المعيشية‭ ‬فيها،‭ ‬ورفع‭ ‬المستويات‭ ‬التعايشية‭ ‬داخلها،‭ ‬مازال‭ ‬بعض‭ ‬علماء‭ ‬الاجتماع‭ ‬يرفضون‭ ‬وجودها،‭ ‬لعدد‭ ‬من‭ ‬الأسباب،‭ ‬التى‭ ‬لخصوها‭ ‬فى‭ ‬الآتى‭: ‬إصابة‭ ‬المسجون‭ ‬بالملل،‭ ‬وعدم‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬ممارسة‭ ‬أية‭ ‬أنشطة‭ ‬منتجة،‭ ‬ومخاطر‭ ‬نشوء‭ ‬مجتمع‭ ‬شمولى،‭ ‬يخدم‭ ‬مصالحه‭ ‬فقط،‭ ‬ويلجأ‭ ‬إلى‭ ‬نظام‭ ‬السجون،‭ ‬لإخراس‭ ‬معارضيه‭ ‬ومنتقديه،‭ ‬ومخاطر‭ ‬الاستعباد‭ ‬الداخلى،‭ ‬فهو‭ ‬داخل‭ ‬السجن‭ ‬سيكون‭ ‬أشبه‭ ‬بعبد‭ ‬سجين،‭ ‬قد‭ ‬يجبر‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يرفضه‭ ‬فى‭ ‬الحرية،‭ ‬والأهم‭ ‬تهميش‭ ‬السجين‭ ‬وإضعافه‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬المجتمع‭ ‬وتهشيشه‭ ‬بحيث‭ ‬يصبح‭ ‬أضعف‭ ‬من‭ ‬مقاومة‭ ‬مخاطر‭ ‬الاغتصاب‭ ‬والاعتداء‭ ‬الجنسى‭ ‬داخل‭ ‬السجن‭!!‬‮…‬‭ ‬ومع‭ ‬كل‭ ‬الاحترام‭ ‬لرأى‭ ‬الاتجاه‭ ‬الإصلاحى‭ ‬الاجتماعى،‭ ‬فهو‭ ‬لم‭ ‬يطرح‭ ‬بديلاً‭ ‬عقابياً،‭ ‬بخلاف‭ ‬السجن،‭ ‬ولم‭ ‬يقترح‭ ‬حتى‭ ‬وسيلة‭ ‬مختلفة‭ ‬لهذا،‭ ‬ولذلك،‭ ‬وحتى‭ ‬ابتكار‭ ‬وسيلة‭ ‬مختلفة،‭ ‬يبقى‭ ‬العقاب‭ ‬الوحيد‭ ‬المتاح.