د. نبيل فاروق يكتب: خلف القضبان
عبر التاريخ الحديث كله، وفى كل ثوراته المعروفة، فى كل بلدان العالم، كان الهدف الأوَّل للثوار دوماً، هو السجون.. فالسجون بالنسبة لهم كانت رمزاً لقهر الحرية، التى ثاروا من أجلها، ولم تكن فى أذهانهم، فى حالة الاندفاع الانفعالى، التى تصاحب الثورات، القدرة على التفرقة، بين مسجون يعاقب خلف القضبان، لجريمة ارتكبها، أو ذنب اقترفه، وآخر وضع خلف القضبان، لرأى عارضه، أو فكر قاومه.. المهم أنها سجون وقضبان، تبدو لهم أشبه بقضبان الخوف، التى تحيط بنفوسهم، والتى دفعتهم من شدتها، للثورة على أحوالهم، وعلى النظم التى تحكمهم.. وربما أشهر مثال تاريخى لهذا، هو ما حدث لسجن الباستيل، إبان الثورة الفرنسية.
سجن الباستيل هذا، أنشئ فى فرنسا، بين عامى 1370م،و 1383م، كحصن دفاعى فى البداية، يحمى باريس ويدافع عنها، ثم لم يلبث أن تحوَّل إلى سجن للمعارضين السياسيين، والمسجونين الدينيين، والمحرضين ضد الدولة، وعلى مدار السنين صار رمزاً للطغيان والظلم والجبروت، وبسببه انطلقت الشرارة الأولى للثورة الفرنسية، فى 4 يوليو 1789م، حيث تم اقتحامه من قبل الثوار، والاستيلاء عليه، وإطلاق سراح كل السجناء منه.. ومازالت فرنسا تحتفل بهذا اليوم حتى الآن، باعتباره اليوم الوطنى لفرنسا.. ولو أردنا العودة إلى مرحلة ما قبل السجون، كانت العقوبات فى مجملها بدنية، تعتمد على الضرب أو الجلد، أو النفى أحياناً خارج البلاد، ثم فجأة، نشأ نظام للسجون، ولا ريب فى أن هذا قد حدث منذ زمن طويل جداً؛ لأن القرآن الكريم يتحدَّث فى آياته عن سجن سيدنا يوسف، فى مصر الفرعونية، مما يعنى أن نظام السجون قد نشأ قبل هذا بكثير، واستخدم فى أزمنة غابرة، كعقاب بديل للعقاب البدنى، أو النفى، وربما كوسيلة لعزل المجرم أو المخطئ عن المجتمع لفترة، يراجع خلالها نفسه، أو يعيد تقييم أفعاله، وينال عقابه فى الوقت ذاته أيضاً، والسجون وردت فى التوراة والعهد القديم أيضاً، على أنها كانت موجودة فى القدس، منذ عصر النبى موسى، وقبل ذلك بكثير أيضاً.. ومصطلح السجن يطلق على أى مكان يتم فيه سلب حرية المرء، وهو معد (أو يفترض هذا)، ليصبح صالحاً لاحتجاز شخص أو أكثر، ويحاط عادة بقضبان أو أسوار عالية، وتعين عليه حراسة؛ لمنع المسجون أو المسجونين من الفرار، ومن هذا المصطلح يمكن أن يسجن المرء فى مكان كبير، أو حجرة صغيرة، أو حتى منزله، لو توافرت تلك الشروط حوله، فاللواء أركان حرب محمد نجيب، أول رئيس جمهورية لمصر (18 يونيو 1953- 14 نوفمبر 1954م)، عندما تم تحديد إقامته فى قصر زينب الوكيل فى المرج، مع حراسة تحيط به؛ لمنعه من مغادرة المكان، كان يعد مسجوناً، تحت بند (الإقامة الجبرية)، وهناك حالات تم خلالها سجن البعض فى منازلهم، المحاطة بحراسة، تحت مسمى (تحديد الإقامة)، وكلها صور مختلفة للسجن، الذى يحتجز حرية الفرد.. وفى العصور الحديثة، فى بعض الدول المتطوَّرة تكنولوجياَ، تمت تجربة نوع آخر من السجون الذاتية، وهى سجون بلا أسوار، ولكن كل مسجون فيها يحيط بكاحله سوار كهربى خاص، يرتبط بحاجز إشارة، لابد وأن يستقبل إشارة من الأساور طوال الوقت، فى نطاق محدود، فلو خرج المسجون عن هذا النطاق، يطلق السوار على ساقه شحنة كهربية قوية تفقده الوعى، وتستدعى رجال الحراسة لإعادته للداخل.. وهذا الأسلوب نفسه يستخدم مع من يرتكبون مخالفات محدودة، من المراهقين والناضجين، حيث توضع تلك الأساور حول كواحلهم، مرتبطة بجهاز داخل منازلهم، لا يحق لهم حتى لمسه، فإذا مات ابتعدوا عن المنزل لمسافة يتم تحديدها، ترسل تلك الأساور، إشارة للشرطة، التى تهرع فوراً إلى المكان، ولو تجاوز الشخص النطاق المفروض عليه عدة مرات، يتم استبدال عقوبة الحبس المنزلى تلك، بالسجن العام، وهذا ما يجعل الكل حريصاً على عدم تجاوز النطاق المفروض.. وتاريخ السجون يقودنا إلى الألفية الأولى قبل الميلاد، فى مصر وبلاد الرافدين، حيث كانت الزنازين عبارة عن فجوات تحت سطح الأرض، يوضع فيها الشخص، دون أية وسائل إعاشة، وتغطى بغطاء ثقيل، من شبكة حديدية، يلقى إليه الطعام والشراب عبرها، ثم غيرت اليونان الوضع قليلاً، فتحوَّلت تلك الزنازين تحت الأرضية إلى أقفاص خشبية، يوضع فيها المساجين، مقيدين بأصفاد ذات سلاسل محدودة، حول المعصمين والكاحلين، وكانت أول مرة يسمح فيها للأقارب والأصدقاء بزيارة ذويهم المسجونين، ثم عادت الإمبراطورية الرومانية للزنازين تحت الأرضية، على نحو أكثر قسوة، فقد كانت ضيقة، بينها ممرات وطرق، وتسبب الرهاب والاختناق، وكان السجناء يقيدون بالسلاسل، لمدد غير محدودة، قد تصل إلى مدى الحياة، ولأن نظام العبودية كان موجوداً آنذاك، فقد كان الخروج من السجن يستلزم من المسجون، أن يصبح عبداً مصارعاً، يقاتل ويموت فى الحلبة، وفى أوروبا ظلت أحوال السجون قاسية، حتى بداية الملكية الإنجليزية، حيث بدأ تطبيق نظام أكثر عدلاً، فى عام 1166م، على يد هنرى الثانى ملك إنجلترا، الذى شيَّد أول سجن تدخله الإصلاحات القانونية، ووضع فى الوقت ذاته أوَّل مسوَّدة، لما عرف بعدها بنظام المحلفين... وفى عام 1215م، وقَّع جون ملك إنجلترا أحد أهم التشريعات التاريخية المعروفة، باسم الماجنا كارتا، والتى أجبر فى الواقع على توقيعها، بضغط من النبلاء والشعب... وفى القرن الخامس عشر بدأ اضمحلال الإقطاعية، والتوسع فى إنشاء المدن، وفى تلك الحقبة حدثت اضطرابات اقتصادية واجتماعية، وصار الكثيرون بلا مأوى، وزادت السرقات وانتشرت الدعارة، ووجدت الدول نفسها أمام معضلة كبيرة، مما تسبب فى إنشاء بيوت عمل، يوضع فيها السُراق ونساء الهوى والمشردين، حيث تكون لهم حجرات وليس زنازين، ولكنهم يجبرون على صناعة منتجات متنوعة، كعمل لإعادة تأهيل تلك الفئات، ولكن باقى دول أوروبا لم تقتنع بالفكرة، أو تعمل على تنفيذها... وفيما بين القرنين، السادس عشر والثامن عشر، ومع تقدَّم الصناعة، تزايد عدد المساجين، على نحو درامى، فنشأت فكرة نفى المساجين إلى مناطق بعيدة، وتم بالفعل إرسال الكثير من المساجين إلى معسكرات عقابية، فى أدغال أمريكا وأستراليا، للعمل بلا أجر، أى أنه كان نظاماً أشبه بالعبودية، مما جعل الكثير من المسجونين يلقون حتفهم، من شدة الإرهاق، وسوء التغذية، والإهمال الطبى.. أو حتى محاولات الهرب.. ولقد ظلت فرنسا تستخدم هذا الأسلوب، حتى بدايات القرن العشرين، فى حين ظلت روسيا ترسل المساجين إلى شمال شرق سيبريا المتجمَّد، حتى منتصف القرن العشرين.. ثم كان لإنجلترا أيضاً السبق، فى وضع السجون الحديثة، حيث قاتل الفيلسوف الإنجليزى جيرمى بنثام (1748- 1832م) لكى يتم إرسال المدانين إلى السجن، باعتباره عقاباً، لأنه كان ضد عقوبة الإعدام، ومن أجل هذا رسم بنثام مخططات لمنشآت، يمكن احتجاز المساجين داخلها، لفترة محدودة من الزمن، وكانت تصاميمه تعتمد على عدم قدرة المساجين على رؤية الحراس، وكان الغرض من هذا إطلاق خيالات المسجون، عن حراسة مخيفة فى خياله، توفيراً للنفقات، ولكن تلك التصميمات لم تر النور؛ لصعوبة تنفيذها، ولكنها وضعت بذرة الفكرة فى الأذهان، ودفعت الأمريكى بنجامين راش إلى الدعوة لاحتجاز المجرمين، وإعادة تأهيلهم، وهكذا تم بناء أول سجن حقيقى فى أمريكا، وهو (wallnut street) وعرف باسم الإصلاحية، ومع ازدياد أعداد المساجين، بدأت فكرة بناء سجون كبيرة، مثل السجن الشرقى فى فيلادلفيا، الذى اعتمد فكرة عزل المساجين عن بعضهم البعض؛ لمنعهم من تكوين عصابات أو تنظيمات، أو التخطيط لعملية هروب جماعية، ولأن تكلفة السجون الكبيرة كانت عالية، بدأت فكرة أن يتضمن العقاب تشغيل المساجين، للقيام بأعمال النظافة والصيانة والغسيل فى السجن، ثم ابتكروا أسلوب سمى (أسلوب الصمت) ويعتمد على أن يلتزم المساجين الصمت التام، وهم يعملون طوال النهار، ثم يقضون الليل فى زنازين انفرادية، ولكن هذا الأسلوب أصاب مساجين كثر بالانهيار النفسى والعصبى، ودفع عدد غير قليل منهم للانتحار، والتخلص من حياته، ولقد كان أشهر سجن طبق هذا النظام، بقسوة بالغة، هو سجن سنج سنج، الذى شهد أشهر حالة إعدام فى العصر الحديث، عام 1953م، وهى إعدام الزوجين جوليوس وإيثيل روزنبرج، بتهمة التخابر، وتسريب سر القنبلة الذرية للسوفييت.. ومع إنشاء منظمات حقوق الإنسان، بدأ تغيير نظام السجون، بحيث يصبح أكثر آدمية، فلم يعد المسجونون يقيَّدون بالسلاسل طوال الوقت، وسمح لهم باستخدام بعض وسائل الترفيه فى زنازينهم، وصار من حقهم تناول وجبات ساخنة مشبعة يومياً، تحوى اللحم ثلاث مرات أسبوعياً.. قارن هذا بما كان عليه سجن الكاتراز، الذى بنى ما بين عامى 1920-1930م، بخليج سان فرانسيسكو، والذى كان شديد الحراسة شديد القسوة، والذى نسجت حوله عدة أساطير، وألهم الكثير من صناع السينما، قبل أن يتم إغلاقه وتحويله إلى مزار سياحى، عام 1963م، بسبب تكاليف حراسته الباهظة.. ولكن، وعلى الرغم من تطوّر السجون، وتحسين الأحوال المعيشية فيها، ورفع المستويات التعايشية داخلها، مازال بعض علماء الاجتماع يرفضون وجودها، لعدد من الأسباب، التى لخصوها فى الآتى: إصابة المسجون بالملل، وعدم القدرة على ممارسة أية أنشطة منتجة، ومخاطر نشوء مجتمع شمولى، يخدم مصالحه فقط، ويلجأ إلى نظام السجون، لإخراس معارضيه ومنتقديه، ومخاطر الاستعباد الداخلى، فهو داخل السجن سيكون أشبه بعبد سجين، قد يجبر على ما يرفضه فى الحرية، والأهم تهميش السجين وإضعافه بعيداً عن المجتمع وتهشيشه بحيث يصبح أضعف من مقاومة مخاطر الاغتصاب والاعتداء الجنسى داخل السجن!!… ومع كل الاحترام لرأى الاتجاه الإصلاحى الاجتماعى، فهو لم يطرح بديلاً عقابياً، بخلاف السجن، ولم يقترح حتى وسيلة مختلفة لهذا، ولذلك، وحتى ابتكار وسيلة مختلفة، يبقى العقاب الوحيد المتاح.