د. نبيل فاروق يكتب: حتى التقنية.. حروب
التقنية مصطلح عربى، مرادف لمصطلح التكنولوجيا، ولكن التقنية، التى سنتحدَّث عنها هنا، ليست هى التكنولوجيا المعروفة فى عالمنا الآن، ولكنها الوسائل المختلفة، التى استخدمت عبر التاريخ، لنقل الأسرار، أو حمايتها، أو حتى الحصول عليها، وضمان عدم توصّل العدو لها، عبر عدة أساليب مبتكرة، بعضها بسيط وبدائى، وبعضها تطوّر، إلى حد يفوق إدراك وتصوّر المواطن العادى البسيط، الذى لا يشغل باله بالحروب الدائرة من حوله، أو حتى يقلق بشأنها، ببساطة لأنه فى معظم الأحيان، لا يشعر بوجودها أو حتى يدركها.
ففى زمن فراعنة مصر القدامى، عندما كانت الشعوب كلها تتقاتل وتتحارب؛ للفوز بغنيمة، أو بموقع على البحر، أو بأرض خصبة، ابتكر أجدادنا وسيلة بسيطة وفعَّالة؛ لنقل الأسرار، إلى المواقع البعيدة، فكانوا يأتون بعبد، ويحلقون شعره تماماً، ثم يوشمون الأسرار على جلد رأسه، وينتظرون حتى ينمو الشعر قليلاً، ويخفى الوشوم أسفله، ثم يرسلونه إلى حيث قياداتهم، فى الجبهات البعيدة.. وخلال الرحلة، من الطبيعى أن ينمو شعر العبد أكثر، ويخفى الوشوم تماماً، حتى يصل إلى مبتغاه، وهناك يقوم القائد بحلاقة رأس العبد، وقراءة الرسالة، وبعدها.. وياللأسف، يقوم بقتل العبد، وسلخ جلد رأسه وحرقه، حتى لا تقع الرسالة فى يد أحد الأعداء.. ثم تطوّرت الأمور، وراح بعضهم يستخدم الحمام الزاجل، فى إرسال المعلومات، وتلقِّى التعليمات، حتى ظهر التليجراف، فى عام 1835م، على يد العالم صمويل فينلى بريز مورس (27 أبريل 1791- 2 أبريل 1872م)، وبتطوير مساعده البروفيسير ليونارد جيل، أستاذ الكيمياء بجامعة واشنطن، وهنا أمكن نقل الرسائل والمعلومات والتعليمات، لمسافة عشرات الكيلو مترات، ولكن مع عقبة كئود.. لقد كان هذا يتم، عبر أسلاك تمتد بطول المسافة، وكان قطع تلك الأسلاك، كفيل بقطع الاتصالات تماماً، بين القيادة والجبهة، فى زمن الحروب، أو بين المراكز الرئيسية والفروع، فى أزمنة السلم، وبعدها ظهرت أجهزة التليفون؛ التى ابتكرها الإيطالى أنطونيو ميوتشى، والذى ظل منسياً كمخترع، ونسب الفضل إلى جراهام بيل، الذى صنع أوَّل هاتف، عبر تصميمات ميوتشى، حتى اعترف مجلس النواب الأمريكى، فى عام 2002م فقط، بأن ميوتشى هو المخترع الحقيقى للهاتف.. ولكن، وعلى الرغم من ابتكار التليفون، عام 1889م، إلا أن المشكلة نفسها بقيت.. مشكلة الأسلاك، والاتصالات التى تعتمد على امتدادها، ولذلك لم يكن على العدو سوى قطع الأسلاك، لفصل قيادة عدوه عن جبهاتها، ولذلك بدأت مرحلة ابتكار تقنيات جديدة، لنقل واستقبال المعلومات، وخاصة خلال الحرب العالمية الأولى (28 يوليو 1914 – 11 نوفمبر 1918م)، ففى تلك المرحلة، راح المتحاربون يبتكرون الوسيلة تلو الأخرى، مثل الخطابات المشفرة، وقطع الأثاث،، التى تحوى فجوات، وأزرار المعاطف الكبيرة، التى تختفى داخلها المعلومات، فى أوراق صغيرة، مكتوبة بخط دقيق.. ومن الطريف، فى تلك المرحلة، أن تقنية أزرار المعاطف هذه ظلت ناجحة لعام، حتى اكتشف العدو، أنه إذا ما أدار الزر إلى اليمين، انفتح، وظهرت الرسالة داخله، فما كان من الطرف الآخر، إلا أن ابتكر أزراراً تغلق بإدارتها إلى اليمين بدلاً من العكس، ولقد نجح هذا فى خداع العدو، حتى نهاية الحرب، على الرغم من بساطته.. ولكن فى الحرب العالمية الثانية، كان جوليلمو ماركونى (25 أبريل 1974 – 20 يوليو 1937م) قد ساهم فى كشف الموجات الكهرومغناطيسية، وأرسل أول إشارة لا سلكية عبر الأطلسى، من أوروبا إلى أمريكا، عام 1901م، وحصل على جائزة نوبل للفيزياء عام 1909م، بالاشتراك مع كارل فرديناند براون، عن اختراعهم للتلغراف اللا سلكى، لذا فلم يكن على المهندسين دونالد هنجز وألفريد جروس، سوى تطويره، خلال الحرب العالمية الثانية، لصنع جهاز إرسال عسكرى، أشبه براديو محمول، ولكنه يمتلك القدرة ليس على الاستقبال فحسب، ولكن على الإرسال أيضاً.. ولأن التكنولوجيا ليست حكراً على أحد، فقد توصّلت الأطراف الأخرى أيضاً إلى اللا سلكى، وصارت المشكلة كلها تكمن فى معرفة موجة الاتصال، لسماع واستقبال كل ما تنقله أجهزة اللا سلكى، عند الطرف الآخر.. ومن هنا بدأت تقنية التشفير، لمنع العدو من فهم فحوى الرسالة، حتى لو أمكنه اعتراضها.. كانت الرسائل أيامها، وبخاصة السرية منها، ترسل بوساطة إشارات مورس، أو شفرة مورس، التى ابتكرها صمويل مورس، عام 1820م، والتى تعتبر أول استخدام تقنى للغة الصفر الواحد المستخدمة فى الرقميات اليوم، وكانت الرسائل كلها عبارة عن ثلاث مجموعات من الأرقام، المجموعة الأولى تمثل رقم الصفحة، فى نسخة، من كتاب متفق عليه، بين المرسل والمستقبل، والمجموعة الثانية هى رقم سطر فى الصفحة، أما المجموعة الثالثة، فهى رقم كلمة.. ولكى تفهم فحوى الرسالة، حتى لو تم اعتراضها، يتحتم عليك معرفة عنوان الكتاب، وطبعته بالتحديد، ولم يكن هذا سهلاً، فى وجود آلاف الكتب، التى تملأ أرفف المكتبات، ولكى يصبح الأمر أكثر صعوبة، ابتكر الألمان إضافة جديدة لتلك الشفرة، ألا وهى ثلاثة أرقام، توضع كمفتاح، يضاف الرقم الأوَّل على الأرقام، فى العمود الأول، والثانى على الأرقام فى العمود الثانى وهكذا.. وفى تلك المرحلة، كان يتحتم على أى جهاز أمنى، معرفة الجاسوس مستخدم الشفرة، ومعرفة الكتاب المستخدم، ومفتاح الاتصال أيضاً، بكل ما يمثله هذا من صعوبة.. وكشف شفرة اتصالات العدو، كان من أهم وأصعب وأعقد العمليات، لدى كل جهاز مخابرات، وهناك عشرات من العمليات المدهشة، والتضحيات الكبيرة، التى بذلت؛ للفوز بشفرة الاتصالات اليابانية والألمانية، فى زمن الحرب العالمية الثانية.. وعندما كشفت انجلترا وثائق الحرب العالمية الثانية، عام 2005م، تبين أنها كانت قد كشفت شفرة الاتصال اليابانية قبل عام من ضربة بيرل هاربور تقريباً (7 ديسمبر 1941م)، ولكنها لم تعلن هذا أو تبديه، بل قامت بتسريب شفرة قديمة لها إلى اليابانيين، ثم استخدمتها للحديث عن ضربة قاصمة، يستعد الأسطول الأمريكى للقيام بها؛ لتدمير الأسطول اليابانى تماماً، ولم يكن هذا حقيقياً، ولكن إنجلترا كانت تحتاج بشدة إلى دفع أمريكا للحرب؛ حتى تربح حليفاً قوياً، فى مواجهة ألمانيا واليابان... ولقد نجحت لعبتها بالفعل، إذ بادر اليابانيون بشن هجوم بيرل هاربور، على الأسطول الأمريكى، متصورين أنها ضربة وقائية، لمنعه من تدمير أسطولهم مسبقاً، ولم يتصوَّروا لحظة، أنهم بهذا ينفذون المخطَّط الإنجليزى؛ لدفع أمريكا إلى الدخول فى الحرب، والذى كان السبب الرئيسى فى هزيمة اليابان بعدها بأربع سنوات.. فى تلك الفترة، كان الألمان قد ابتكروا آلة كاتبة، أطلقوا عليها اسم (اينجما)، أو اللغز، ولقد كانت من أبرع وأقوى تقنيات التشفير، التى ابتكرت، فى ذلك العصر كله، ولقد كانت عبارة عن آلة كاتبة، تستخدم أقراصاً دوَّارة، لها ترتيب مخالف للحروف العادية، بحيث يقوم أحدهم بطبع رسالة مباشرة على الآلة، فتسقط أحرفاً مختلفة على الورق، كأن تضغط مثلاً حرف الألف، فتطبع الآلة حرف صاد، أو تضغط رقم واحد، فتطبع هى حرف فاء مثلاً، وكان على مستقبل تلك الرسالة، أن يستخدم آلة مماثلة، ولكنها تقوم بعمل عكسى، بواسطة أقراص دوَّارة أيضاً، فيكتب ما وصله من حروف، لتطبع له الآلة رسالة واضحة مقروءة، بالأحرف والأرقام الصحيحة.. الفكرة كانت عبقرية، ولم ينجح كل خبراء الحلفاء فى كشفها، حتى الأشهر الثلاثة الأخيرة، قبل سقوط الرايخ الثالث.. وربما يحتاج تاريخ التشفير إلى كتاب كامل لشرحه، وليس مجرَّد جزء من مقال، ولكن يكفى أن نقول إن عصر الكمبيوتر جعل حتى الرسائل بين الأفراد العاديين مشفرة رقمياً، على نحو ربما تعجز أجهزة كمبيوتر أخرى عن حله، ولهذا فيمكننا الانتقال إلى وسيلة أخرى، أو سلاح آخر، فى حرب التقنية.. فقديماً، وحتى الحرب العالمية الثانية، كان التنصّت على بعض الجواسيس، يحتاج إلى استئجار شقة مجاورة لهم، وعمل فتحات دقيقة فى الجدار، وزرع ميكروفونات كبيرة، فى فتحات صناعية، وبعد الحرب العالمية الثانية، صارت هناك أجهزة تنصّت صغيرة، فى حجم عملة معدنية عادية، وممغنطة أيضاً، بحيث يمكن زرعها، أسفل مائدة، أو أعلى باب، أو فى أى ركن خفى، وأحياناً فى سماعة الهاتف.. ومع التطوّر المستمر للتقنية، صارت تلك الأقراص أصغر، وأصغر وأصغر.. ثم تطوَّرت التقنية أكثر، ولم يعد هناك داع لزرع أى شىء، خاصة وأن حرب التقنية، تضم أيضاً التقنية المضادة، فأنت تبتكر شيئاً، فيبتكر عدوّك مضاداً له، وتسعى أنت لابتكار مضاد للمضاد، وهكذا.. وبلا نهاية.. فلقد تم ابتكار كواشف أجهزة التنصت، التى تكشف كل ما يتم زرعه فى المكان، وكان لابد من نقل الحرب إلى المستوى الثالث.. وبهذا تم ابتكار ما يعرف باسم الميكروفون البندقية (Gun mice)، وهو جهاز ميكروفون، مزوَّد بطبق لاقط، ذا حساسية كبيرة، بحيث يمكنه استقبال والتقاط الأصوات من بعيد، ودور الطبق اللاقط هنا، هو استبعاد وعزل كل الأصوات الأخرى المحيطة، فى محاولة لتنقية الصوت المستهدف، بقدر المستطاع.. ولكن، وكالعادة، ظهر الكمبيوتر، وظهرت الرقميات، وتطوَّرت التقنيات تطوراً غير مسبوق، فصار هناك ما يعرف بميكروفون الليزر (Laser Mic)، وهو عبارة عن شعاع دقيق من الليزر، موصول بجهاز كمبيوتر دقيق، كل دور الشعاع هو أن يمس الجدار فحسب، فينقل كل ترددات الصوت، التى تحدث خلفه، ومهمة الكمبيوتر هى استقبال الترددات، العائدة عبر شعاع الليزر، وفصلها وتنقيتها، بحيث يمكنك أن تجلس فى شقة، مطلة على النيل، وتستمع بكل وضوح، إلى ما يدور خلف نافذة مغلقة، على الجانب الآخر من النيل !!!.. هكذا.. وبكل بساطة.. أما بالنسبة للتصوير، فحدّث ولا حرج.. قديماً كان الجواسيس يتسلّلون إلى المواقع الحساسة، مع كاميرات ضخمة، وعدسات أضخم، لالتقاط بعض الصور العسكرية، ثم صارت الكاميرات أصغر، وكذلك العدسات، ونشأ التصوير الجوى.. وفى مرحلة الحرب العالمية الثانية، تم ابتكار كاميرات شديدة الصغر، تستخدم أفلاماً دقيقة للغاية، ذات حساسيات عالية، لنقل الصور والوثائق، على ما يعرف بالميكروفيلم، وهو فى حجم حبة عنب متوسّطة، وكان تهريبه وإيصاله إلى الطرف الآخر، هو مشكلة المشاكل، وبسببها ظهرت عشرات الابتكارات والأفكار، وبسببها أيضاً سقط عشرات الجواسيس.. إيلى كوهين (26 ديسمبر 1924 – 18 مايو 1965م)، ذلك الجاسوس الإسرائيلى، الذى عاش لسنوات فى سوريا، تحت اسم كامل أمين ثابت، كان يتخفى تحت مهنة تاجر أثاث، يقوم بتصدير قطع الأثاث النادر والجيد إلى أوروبا، وبعد إلقاء القبض عليه، تبيَّن أن قطع الأثاث تلك، كانت تحوى فجوات سرية، توضع داخلها أفلام الميكروفيلم، التى كان يلتقطها، عبر آلة تصوير دقيقة، مخبأة فى قداحته، بحيث يتسلّمها وكيله المزعوم فى أوروبا، والذى كان عميلاً إسرائيلياً آخر فى الواقع.. ولكن تقنية التصوير وإرسال الصور تطوَّرت، مثلها مثل أية تقنية أخرى، وأصبحت آلات التصوير، المدمجة فى أقلام وولاعات، وحتى المناظير الشمسية العادية، متاحة للبيع، فى متاجر أوروبا وأمريكا، للمواطن العادى والبسيط، أما نقل الصور، فصار يتم عبر تقنية رقمية، تعرف باسم استجنوجراف (Stegnography)، باعتبار أن الصور الرقمية فى طبيعتها، هى أصلاً مجموعة من الأرقام والمعادلات، ويمكن دس مجموعة أخرى داخلها، تحوى صوراً مختلفة، لا تظهر لمن يطالع الصورة الأصلية، ما لم تكن لديه الشفرة المناسبة، لاستخراج الصورة، المزروعة داخل صورة أخرى، أو المعلومات المخبأة، داخل صورة رقمية ما.. التقنية إذن تتطوَّر، على نحو متسارع للغاية، بحيث تصعب ملاحقتها، إلا لمن تهتم مهنتهم، أو يقتصر عملهم على هذا، وبخاصة أنهم، ما أن يمكنهم كشف تقنية ما، وإيجاد المضاد لها، حتى تكون هناك تقنيات أخرى قد ظهرت إلى الوجود، وخرجت إلى النور، وعليهم ملاحقتها أيضاً.. السؤال الذى يطرح نفسه، بعد كل هذا هو: كيف يمكن الحفاظ على الأسرار، فى ظل وجود كل تلك الجيوش، التى تتطوَّر بسرعة الصاروخ، فى عالم غلبت عليه التقنية الرقمية ؟!.. الجواب بكل بساطة، هو عدم كشف الأسرار نفسها، وحمايتها بقدر الإمكان، فكل ما ذكرناه هنا هو وسيلة نقل المعلومة، فإن لم يحصل عليها العدو، فلن يكون هناك من سبيل لنقلها.. أما كيف يمكن الحفاظ عليها ؟!.. فهذا سؤال آخر..