د. نبيل فاروق يكتب: هوس المؤامرة
من أشهر المصطلحات، وأكثرها انتشاراً فى مصر ما بعد ثورتين، مصطلح "نظرية المؤامرة"، وعلى الرغم من أن تسعين فى المائة ممن يرددوَّنه، يجهلون فعلياً معناه الشامل، أو حتى ما يشير إليه، إلا أن الكل يتبناه على ألسنته، وربما فى عقله أيضاً، وكأنها وسيلته للتدليل على ثقافته السياسية، أو وعيه وإدراكه لما يدور حوله.
الواقع أن المصطلح، على الرغم من حداثته عندنا، ليس مصطلحاً حديثاً، فقد ورد ولأوَّل مرة فى مقال اقتصادى عام ١٩٢٠م، وإن لم يجر تداوله على ألسنة الناس، وعلى صفحات الكتب والدوريات، إلا فى عام ١٩٦٠م، ولقد تم تداوله بكثرة متزايدة، حتى صار مصطلحاً دارجاً، أضيف إلى قاموس أكسفورد، فى عام ١٩٩٧م.. ونظرية المؤامرة، (conspiracy theory) مصطلح يشير إلى مواقف أو أحداث، يفترض أنها نتاج مؤامرة لا مبرر لها تستند فى مضمونها على أفعال غير قانونية أو شرعية، تقوم بها حكومات أو جهات قوية فى الغالب؛ لبلوغ هدف مباشر أو غير مباشر … ولقد حاول العديدون وضع أسس لنظرية المؤامرة، من اشهرهم العالم السياسى مايكل باركون، الذى وضع ثلاث قواعد أساسية، اوَّلها أن الكون محكوم بتصميم ما، لا شىء يحدث فيه مصادفة، وثانيهما انه لا شىء يكون تماماً كما يبدو عليه، وثالثهما، وهو الأهم، أن كل شىء مرتبط ببعضه، وما يحدث هو أن المهوسين بنظرية المؤامرة، ينتقون من كل ما حولهم من معلومات، فقط ما يتوافق مع ما يريدون التوَّصل إليه، ويهملون او يتعامون عن كل ما سواه، وبالتالى يتحوَّل الأمر عندهم إلى حلقة مغلقة، غير قابلة للمناقشة، وهكذا تبدو كل الأمور بالنسبة إليهم مؤامرة، بإيمانهم وحده، وبدون أى دليل …
ومن الصعب وضع تعريف واضح لنظرية المؤامرة، نظراً لاختلاف وجهات نظر المؤمنين بها، ولكنه فى كل الاحوال تحتاج إلى طرفين رئيسيين، هما المتآمر- وهى الحكومات، أو الأنظمة القوية عادة - والمتآمر عليه، وهو الشعب أيضأ فى المعتاد، والغرض منها هو إخفاء الحقيقة، أو تجميلها، عبر صياغة حزمة من الأكاذيب، على نحو مدروس ومنسَّق، أو هكذا يراه المؤمن بالنظرية، وأيضاً بدون أى دليل أو برهان.. والهوس بنظرية المؤامرة ليس مصرياً، ولكنه عالمى، فالناس فى روسيا مثلاً، على الرغم من سقوط الاتحاد السوفيتى، مازالوا يختبرون سبعين عاماً من الشيوعية والقهر، ومازالوا يشعرون تجاه حكومتهم ومسئوليهم بحالة من الشك والريبة وعدم التصديق، حتى أن أكثر من ثمانين فى المائة منهم يشككون فى كل ما يصدر عن حكوماتهم، ومسئوليهم، ومازالوا يعيشون داخل هستيريا المؤامرة، وعدم الإيمان بكل ما يدور حولهم، وبالطبع تساهم المعارضة فى نصيب كبير، من إقناع الشعب الروسى بوجود مؤامرات، تحيكها الحكومات ضده، ولن يمكن إقناعهم بالعدول عن هذا، ماداموا يسعون إلى سلطة، لم يبلغوها بعد.. والشعب الأمريكى يعَّد أكبر شعب يحيا فى قاع هوس المؤامرة؛ فهو يرى فى كل شىء من حوله مؤامرة ما، على الرغم من القوانين، التى تتيح الحصول على المعلومات، باستثناء المعلومات العسكرية، والتى تتعلَّق بالأمن القومى، ولأن الاستخبارات والأمن القومى جهات تعمل دوماً فى سرية، هى أساس وجودها وعملها، فما يحاك حولها، دون أى دليل، من أكثر نظريات المؤامرة، فى كل الأذهان الامريكية، ويكفى أن تراجع الافلام الامريكية، لترى كم منها يتحدَّث عن مؤامرات وتآمرات، تقوم بها المخابرات الأمريكية، فى داخل وخارج الولايات المتحدة.. ومن أشهر واطول حكايات نظرية المؤامرة، لدى الشعب الامريكى، حادثة اغتيال الرئيس الامريكى الخامس والثلاثين، جون فيتزجيرارد كينيدى (٢٩ مايو ١٩١٧- ٢٢ نوفمبر ١٩٦٣م)، والذى توَّلى منصبه الرياسى من ٢٠ يناير ١٩٦١م، وحتى تم اغتياله برصاصة مباشرة فى الرأس، بوساطة لى هارفى أوزوالد، فى مدينة دالاس، إحدى مدن ولاية تكساس.. ولكن أوزوالد ظل ينفى التهمة، حتى تم اغتياله بدوره، على يد رجل يدعى جاك روبى، قبل ان تنتهى محاكمته، لذا فقد ظلت قضية اغتيال كينيدى مفتوحة لسنوات، نمت من خلالها نظرية المؤامرة حول حقيقة اغتياله، فهناك من نفى أن يكون أوزوالد هو القاتل، وأنه تم اتهامه للتغطية على القاتل الحقيقى، وأن جاك روبى قتله، ليضع حداً لهذا، خاصة وأنه كان يعانى من سرطان الرئة، الذى قضى عليه بالفعل، بعدها بأربع سنوات عام ١٩٦٧م، والبعض أسرع يتهم المخابرات الامريكية، خاصة وأن عشيقته نجمة الإغراء الشهيرة مارلين مونرو (١ يونيو ١٩٢٦- ٥ أغسطس ١٩٦٢م)، قد لقيت مصرعها على نحو مفاجئ، قبل اغتياله بعام واحد، وأشيع انها كانت جاسوسة سوفيتية، وان اغتيال كينيدى كان أفضل حتماً من تورَطه فى قضية جاسوسية علنية … البعض أيضاً، من مدمنى نظرية المؤامرة، اتهم نائبه، الذى خلفه كالرئيس السادس والثلاثون، ليندون بى جونسون (٢٧ أغسطس ١٩٠٨- ٢٢ يناير ١٩٧٣م)، خاصة وأنه قد ألغى بعض القرارات، التى اتخذها كينيدى، عقب حلفه اليمين مباشرة … والبعض الآخر اتهم منظمة المافيا، باعتبار أن كينيدى قد شن حملة أمنية قوية ضدها … وهناك نظريات عن تورَّط فيدل كاسترو فى العملية، وغيرها من نظريات المؤامرة، التى تبنى على تصوَّرات وافتراضات، دون دليل واحد … ثانى المؤامرات، التى يغرق فيها الشعب الامريكى، نظرية مؤامرة الأطباق الطائرة، فمنذ أوَّل مشاهداتها، عام ١٩٤٦م، وحتى يومنا هذا، مرَّت نظرية المؤامرة الخاصة بها بعدة مراحل متباينة، ففى البداية، خرجت نظرية بأنها سلاح سوفيتى جديد، يهدَّد أمن وسلامة الولايات المتحدة، ثم أعقبتها نظرية تفترض أن الأطباق الطائرة سلاح امريكى سرى، يقوم سلاح الطيران بتطويره، مع اكبر قدر من السرية، ثم تلتها نظرية عكسية تماماًً، اعتبرت أن الأطباق الطائرة حقيقية، وأن الحكومة تخفى اتصالها بمخلوقات من الفضاء الخارجى؛ حتى تحظى وحدها بتكنولوجياتهم المتقدمَّة.. النظرية الأخيرة آمن بها السوفيت أيضاً، عندما سبقتهم أمريكا فى سباق الفضاء، وانزلت أوَّل رائد فضاء على سطح القمر، فى ٢١ يوليو ١٩٦٩م، على الرغم من أن السوفيت هم من بدأ سباق الفضاء، بإطلاق اوَّل قمر صناعى، وهو سبوتنيك ١، فى ٤ اكتوبر ١٩٥٧م، فالسوفيت ظلوا متفوقين فى سباق الفضاء، وكانوا اوَّل من أطلق رائد فضاء بشرى، ليدور حول الأرض، وهو يورى جاجارين، فى ١٢ أبريل ١٩٦١م، فافترضوا أن تلك القفزة التكنولوجية الفضائية الامريكية، قد تحققَّت عبر الاتصال مع كائنات فضائية متطوَّرة، وبهذا انقلبت نظرية المؤامرة، نحو الاتجاه العكسى، من النفى إلى الاثبات … الهبوط على سطح القمر، فى حد ذاته، تحوّل إلى نظرية مؤامرة كبرى، فى أذهان ٢٩٪ من الأمريكيين، الذين يثقون فى أنهم لم يبلغوا القمر قط، وأن ماعرضته شاشات التلفاز، فى العالم كله، عن لحظة هبوط نيل أرمسترونج، كأوّل بشرى يطأ أرض القمر، ويقول عبارته الشهيرة: (أنها خطوة صغيرة لبشرى، وعظيمة للبشرية)، لم يكون سوى تمثيلية، أخرجها المخرج العالمى ستانلى كوبريك، مخرج ٢٠٠١ أويسا الفضاء، فقط لكسر السوفيت، نفسياً ومعنوياً وفى العالم كله، تنتشر نظرية المؤامرة حول امرين كبيرين … اولهما ما يسمى بالكيمتريل، وهى خطوط سحابية ليست طبيعية المنشأ، تظهر فى السماء أحياناً، لا تحتوى على بخار الماء، ولها لون رمادى، وتتكوَّن من أنواع مختلفة من الغاز، دون سبب أو مصدر معلوم، والثانية تسمى بنظرية الأرض المجوَّفة، حيث يؤمن الكثيرون، من أتباع نظرية المؤامرة، بوجود عالم آخر كامل، تحت القشرة الأرضية، وبأن الحكومات المختلفة تدرك وجود هذا العالم، وتتعامل معه منذ الحرب العالمية الثانية، وتختلف نظرية الأرض المجوَّفة من شعب إلى آخر، ومن مجتمع إلى مجتمع، فالامريكيون والسوفيت كانوا يرون أن شعباً ما تحت الأرض، كان يعمل لحساب جيش هتلر، فى حين كانت الشعوب المحتلة – آنذاك - ترى أنهم كانوا يعملون لحساب الحلفاء، وبعض عشاق نظرية المؤامرة، فى البلدان العربية، يرون أن الأرض المجوَّفة هى مقر يأجوج ومأجوج، الذين سيخرجون من الأرض، فى آخر الزمان، كعلامة من علامات القيامة، وفى كل الاحوال، كما فى كل نظريات المؤامرة، لا يوجد دليل واحد، يثبت وجود هذه الارض المجوَّفة، التى يرفض علماء الجيولوجيا وباطن الأرض فكرتها من الأساس… ناهيك عن نظرية المؤامرة، حول أحداث الحادى عشر من سبتمبر ٢٠٠١م، وهى ليست نظرية واحدة فى الواقع، بل مجموعة من النظريات، المتعارضة والمتناقضة أحياناً، بدءاً من أن ما حدث عملية داخلية، بعض المسئولين الأمريكيين متورطون فيها، ولا صلة لها بالقاعدة، أو غيرها، مروراً بأنها مؤامرة إسرائيلية، لدفع القوى الكبرى إلى شن حرب على الدول العربية، وعلى رأسها العراق، الذى كان أقوى الجيوش العربية، وأكبر قوة تهدد الوجود الإسرائيلى، فى ذلك الحين، وانتهاء بأنها كانت طليعة انقلاب على نظام الحكم الأمريكى، وصدرت عشرات الكتب، التى تؤيّد أو تنفى كل نظرية، وأيضاً دون دليل واحد على أى منها، سواء عن التأييد أو الرفض، ككل نظريات المؤامرة الأخرى… على الجانب الآخر من هذا، نجد من يشكك ويرفض نظرية المؤامرة، بنفس عنف وهوس المؤمنين بها، ويرى أن المصطلح يستخدم لتبرير كل أخطاء وسقطات الحكومات، وتنفى عنها تهمة التقصير أو الفساد، وهنا يظهر التناقض العجيب فى الأمر، فالذين يرفضون نظرية المؤامرة فى عنف وإصرار، هم أنفسهم من يؤمنون بها، على الجانب الآخر؛ ففى نفس الوقت، الذى يرفضون ما هيه الحديث عن نظرية المؤامرة، بل ويسخرون منها أيضاً، يتصوَّرون أن الحديث عن نظرية المؤامرة، هو فى حد ذاته مؤامرة، لإخفاء حقيقة الفشل والتقصير، أى أنهم يرفضون الحديث عن نظرية المؤامرة، من خلال إيمانهم بنظرية مؤامرة عكسية، ولقد ظهر هذا جلياً لدينا، عقب ثورة يناير ٢٠١١م، ففى وقت واحد، ودون شعور بالتناقض، كان الشارع يرفض ويستنكر نظرية وجود مؤامرة خارجية، ضمن حروب الجيل الرابع، فى نفس الوقت الذى يؤمن فيه بوجود مؤامرة تحاك ضده، من مسئوليه وحكامه والجهات الأمنية له، وهنا يكمن التناقض، الذى يمكن أن يوصلنا إلى نتيجة عجيبة، تدخل ضمن إشكالية هوس المؤامرة، وهى أن الكل يؤمن بوجود نظرية المؤامرة، على نحو أو آخر، وانها قد صارت أشبه بوباء، ينتشر انتشار النار فى الهشيم، فلا يفلت منها سوى من أراح عقله، ورضى بسكون وسلام، وانتهى إلى فراغ كالعدم، كما قال شاعرنا العظيم الراحل إبراهيم ناجى، أو كأن نظرية المؤامرة نفسها قد تقمصت دور هاملت، فى رواية شكسبير الشهيرة، لتقف صائحة: أكون أو لا أكون.