لم يأخذ نجيب محفوظ من التاريخ الفرعوني إلا ما هو أساسي، فهو لم يتقيد بالوقائع التاريخية، وحافظ على الشخصيات المتصلة بها؛ وكان في معالجته الروائية أقرب إلى العمل الحقيقي للروائي، وهو الاستلهام وليس إعادة للصياغة، بل كان يؤسس استلهامه لذلك التاريخ على رؤية فكرية معينة، وتحددت تلك الرؤية في رواياته الثلاث الأولى.
وحين يكتب نجيب محفوظ عن التاريخ، إنما يفعل ذلك وعينه على الحاضر، فهو يستخدم الماضي قناعا للحاضر، يقف وراءه ويقول ما لا يستطيع أن يقوله أحد بحكم المحظورات السائدة، وهو أيضا يلجأ إلى التاريخ باعتباره تجربة مكتملة منتهية يسهل تقويمها واستخلاص العبرة منها والانتفاع بها في الحكم على الحاضر وتوجيهه.
وقد تدرجت الرؤية المحفوظية في الروايات التاريخية الثلاث على نحو بارز؛ ففي روايته الأولى ''عبث الأقدار'' مال إلى الإيمان بالدور المطلق للقدر في تحريك التاريخ والبشر، حيث أنه استوحى في الرواية قصة إقدام أحد الفراعنة على قتل طفل صغير بعد أن اعتقد أنه سيقضي على ملكه؛ ويقرر الفرعون خوفو تغيير ما جاءه في النبؤة كأنه قدر محتوم فيقرر مصارعته ومحاولة تغييره، فيقول ''أيها السادة، إن القدر اعتقاد فاسد لا يخلق للأقوياء الاعتقاد به''.
وتبدأ هذه الرواية بالفرعون في صورة ربانية، لكنه سرعان ما يجعله يتحول إلى إنسان عادي يسخر ويضحك، ويلجأ محفوظ إلى هذه الطريقة لكي يخلق حاكما جديدا، ليس هو الفرعون القديم، إنه صورة متخيلة له، أو قل بأنها أدلجة عصرية تصنع ماضيا رومانسيا على المثال الذي تريده، ومحفوظ في توفيقه بين إرادة القدر والإنسان يؤكد أن الإرادة القدرية لا تعني التواكل والإنصات للغيبيات التي لا تستند إلى قانون أو دين، وهذه فكرة وثيقة الصلة بمشاكل عصر المؤلف حين أخذت مصر تطرح جانب منطق التواكل والاتجاه نحو احترام العقل البشري.
وأما في روايته الثانية ''رادوبيس'' نقل قوة القدر المطلقة من خارج الفعل البشري إلى داخله، فأصبحت هذه القوة تحرك التاريخ والبشر على نحو أشمل وأعمق، ولما كتب محفوظ الرواية طرح فكرة الحكم من زاوية أخرى، فقدم ملكا يستغل عرشه لتحقيق رغباته على حساب تطلعات شعبه، ونقل فكرة قدرة الفعل البشري على تحريك التاريخ؛ وقد وقف بفضل هذه الرواية موقفا واقعيا، بعيدا عن المثالية التي تميزت بها، والتي تعبر عن ميل محفوظ إلى الإيمان بالدور المطلق للقدر في تحريك التاريخ والبشر، وتقف الرواية عند معالجة مصر من الداخل، وتتعرض لشتى الصراعات، فنجد مصر الفرعونية بمواكبها وفنها وحكمتها.
ونرى قصة الملك الذي لم يضبط نفسه فإنهارت الأسرة بأكملها، ونشبت ثورة، كانت مصر إبان كتابة الرواية تخوض معركتها ضد الاستعمار والقصر من خلال المعارضة والالتفاف حول ممثلي الوطنية، وهذه القصة تسير في نفس الخط حين نجد أن الشعب يقف وراء الكهنة ضد الملك الذي باع كل شيء في سبيل رغبته.
وفي روايته الثالثة ''كفاح طيبة'' ظهر وعيه بالدور النسبي للبشر في تحريك التاريخ، وتنبه لدور الفرد في هذا التحريك، ولما نشر محفوظ الرواية اتضح أنه استكمل مرحلة تاريخية، وتناول مسألة التحرير كهدف أسمي باللجوء إلى القوة، وتتناول هذه الرواية كفاح المصريين ضد احتلال الهكسوس، ففي الماضي كما في الحاضر جاء الاحتلال من الشمال إثر هزيمة الشعب في معركته الأولى؛ والرواية تبدأ من نقطة استأنف الصدام الذي تجمد بين الهكسوس والمصريين بعد أن احتلوا الشمال وفرضوا الجزية على الجنوب.
وبفضل هذه الرواية انتهى محفوظ من كتابة الرواية التاريخية التي حملت هموم عصره، ليحدث نقلة نحو مرحلة اجتماعية لمواجهة عصره، فكانت المرحلة الاجتماعية التي بدأها برواية ''القاهرة الجديدة'' سنة 1946، لكن هذا لا يعني أن محفوظ قطع الصلة مع التاريخ الفرعوني، ففي عام 1985 نشر رواية بعنوان ''العائش في الحقيقة'' التي تدور أحداثها في أواخر سنوات الأسرة الثامنة عشر، إبان حكم اخناتون الشهير الذي حكم لمدة سبعة عشر عاما في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وعرف عن اخناتون أنه ورث عرش إمبراطورية مصرية قوية، لكنه انصرف عن شؤون الدولة واستغرق في أمور الدين الجديد والدعوة إليه، واضطهاد رافضيه، فتدهورت أوضاع البلاد وساءت، فانتهى حكم عائلته وعاد الحكم للقادة العسكريين بسبب تصرفاته.
والحقيقة أن نجيب محفوظ لم ينفرد بالإحتفاء بالتاريخ الفرعوني، وإنما كان اهتمامه جزء من تيار فكري رئيسي يبحث عن هويته الوطنية والثقافية، بعد الاحتلال البريطاني في الجذور المصرية القديمة، وأيضا عبر محفوظ في هذه الأعمال عن خيبة أمله في ثورة 1919 التي إقتنع بها بشدة، ويقدم نجيب محفوظ في مجموعته القصصية ''همس الجنون'' هموم عصره، مع أن هناك اهتماما بالتجريد نلمسه من خلال بعض القصص مثل ''الشر المعبود''، ''صوت من العالم الآخر''؛ إلا أنه سرعان ما ينفذ إلى القضايا السياسية والاجتماعية كما في ''يقظة مومياء'' التي يعرض فيها الطبقة المسيطرة والمحتقرة للشعب.
ويقدم أيضا في قصة ''يقظة'' حادثة غريبة أفضت إلى وفاة محمود باشا الأرنؤطي المتأثر بالغرب، بدليل أنه لا يفكر إلا في إهداء تحف قصره لفرنسا اعتقادا منه أن شعب مصر ليس أهلا لها، والأرنؤطي يحتقر الشعب المصري ويصفه بـ ''الشعب الحيواني''؛ لتتضح ملامح القصة حيث يبرز الكاتب انفصال الفئات الميسورة عن عامة الناس؛ إلا أن التاريخ هو من يقف بالمرصاد ويحاكم الباشا حينما تحدث المفاجأة وتنتصب المومياء ويطلب حور من الباشا أن يركع.
استخدم محفوظ التاريخ ليؤكد الشعور الوطني لمقاومة الاستعمار، وقد كانت النظرة متخذة شكلا آخر يختلف عن تحركات التاريخ العادية، ففي تلك القصص القصيرة نجد اتجاهه ونظرته للتاريخ فهو يريد فقط إعادة كتابة ذلك التاريخ، ويحاول إسقاط كل هموم الحاضر وتطلعاته نحو المستقبل ضمن هذا التاريخ الذي يمثل روح الأمة ومنبع خلودها وصفاء عنصرها، فتلك الأجواء ليست هروبا من الواقع بقدر ما هي حاملة لهموم المستقبل، فهو ماضي مقابل الحاضر المرير، وقد قال نجيب محفوظ بخصوص هذه المسألة، إنه لم يكتب قصة تاريخية بالمعنى الدقيق لهذا التعبير، أي أنه لم ينقل القارئ إلى حياة ماضية، ولكنه كان يصور الحاضر باستمرار.