التراجعات الاقتصادية الحالية تختلف عن أي
ركود أو كساد شهده العالم في السابق. وإذا كان فيروس كورونا المستجد نفسه
جديدا، فإن سبب انهيار الناتج الاقتصادي في الكثير من مناطق العالم،
ليس الفيروس نفسه على سبيل المثال، ولكنه انهار بسبب انسحاب الناس من
النشاط الاقتصاد المعتاد سواء بسبب قرارات الإغلاق الحكومية أو
بمبادرة شخصية منهم وبقاؤهم في المنازل.
ويرى أستاذ
الاقتصاد البريطاني ميرفين كينج أن
استخدام اللغة الاقتصادية التقليدية في وصف التراجع الاقتصاد الحالي، سيؤدي إلى الارتباك
والغموض بشأن اختيار السياسات المناسبة للتعامل مع الأزمة.
ويرى كينج الذي
عمل ويعمل أستاذا للاقتصاد في جامعات كمبريدج وبرمنجهام في بريطانيا
وهارفارد ومعهد ماساشوستس للتكنولوجيا في الولايات المتحدة، أنه إذا كانت
الحكومات قد اضطرت إلى إغلاق العديد من الأنشطة الاقتصادية لأسباب صحية في
ظل جائحة كورونا، فمن غير المنطقي أن يتم تحفيز الإنفاق ببساطة لسد
الفجوة الاقتصادية. فالمستهلكون ربما يريدون الإنفاق أكثر على الترفيه وفي
المطاعم والرحلات السياحية لكنهم لا
يستطيعون ذلك.
ويقول كينج في تقرير نشرته وكالة بلومبرج للأنباء إن الطلب
الاستهلاكي المكبوت حاليا سينطلق عندما تنحسر جائحة كورونا، إذا ما استمر الدعم الحكومي لدخل
المستهلكين خلال فترة القيود الحالية. ولذلك فالمطلوب هو ليس إطلاق
إجراءات تحفيز عامة لتشجيع الطلب في الوقت الحالي، وإنما دعم الشركات بما في
ذلك المشروعات متناهية الصغر والصغيرة حتى تستطيع عبور الأزمة الحالية.
وعندما تعود آليات اقتصاد السوق إلى العمل بعد
انتهاء الجائحة، ستحدد ما هي الشركات التي ستستمر وتلك التي ستختفي. كما أن العدالة البسيطة
تدعو إلى مثل هذا النوع من الدعم المؤقت. والسؤال الآن هو لماذا يجب أن
يعاني أصحاب المطاعم والموسيقيون في ظروف الجائحة بينما تحقق شركة التجارة الإلكترونية
أمازون أرباحا هائلة؟
ومن خلال منع
انهيار الشركات التي ستكون إعادة هيكلتها مكلفة، سيساعد هذا الدعم
الحكومي في حماية الوظائف سواء على المدى القريب أو البعيد.
وحاولت وزيرة
الرعاية الاجتماعية البريطانية هيلين وتيلي تبرير إنهاء البرنامج
الحكومي لدعم أجور العاملين في القطاع الخاص في أكتوبر الماضي بالقول "ليس من
المنطقي استمرار دعم الوظائف في حين لا يوجد عمل في
الوقت الراهن".
ويرى كينج أن
الوزيرة البريطانية فشلت في إدراك ان هذه الوظائف لا تعمل بسبب القيود
التي فرضتها حكوماتها. وبعد وقت قصير ومع تفشي الموجة الثانية من
جائحة كورونا في بريطانيا تراجع وزير الخزانة البريطاني ريشي سوناك وقرر تمديد
برنامج دعم الأجور حتى مارس 2021 وهو قرار
صائب.
ويرى كينج الذي
زامل بن برنانكي رئيس مجلس الاحتياط الاتحادي (البنك المركزي) الأمريكي السابق في
التدريس في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا أنه عند رفع القيود
المفروضة حاليا للحد من انتشار كورونا، ستظهر أنماط
جديدة من الإنفاق وستحتاج الشركات إلى بعض
الوقت لكي تعرف هذه الأنماط وتتوافق معها. وستكون هناك حاجة مؤكدة إلى إعادة النظر في توزيع الموارد، لكن من
المستحيل تقدير حجم هذه التحولات اليوم.
لذلك لا يجب أن تعرقل الحكومات هذه التحولات
المنتظرة سواء بالإبقاء على الدعم لفترات أطول مما يجب، أو بترك شركات يمكن أن تكون لها قيمتها
في المستقبل لكي تنهار تحت وطأة الظروف الراهنة، لآن الحكومة قررت سحب دعمها لهذه
الشركات قبل الوقت المناسب. ولآن هذا الكلام سهل لكن تنفيذه صعب، فإنه يجب
الإبقاء على كل الخيارات متاحة وسحب الدعم الحكومي بطريقة حذرة حتى تتضح
الشركات التي يمكنها البقاء والنمو في المستقبل، والشركات التي لم يعد
لديها أي فرص للبقاء.
ويعني هذا في الوقت الحالي زيادة كبيرة في عجز
الميزانية وارتفاعا في معدل الدين العام. وقد يرى البعض أنه ستكون هناك ضرورة لزيادات كبيرة
في الضرائب لتعزيز المالية العامة فيما بعد، وأن وزارة الخزانة
البريطانية تخطط لاتخاذ إجراءات صارمة في المستقبل لضبط المالية العامة. ولكن
كينج يرى أن ضرورة اتخاذ مثل هذه الإجراءات المشددة فيما بعد ليست محسومة
لآن الأمور ستتوقف تماما على الظروف في تلك الفترة المقبلة.
وأخيرا يرى كينج أن هناك عاملين أساسيين
سيحددان الموقف بشأن التعامل مع عجز الميزانية ومعدل الدين بعد انتهاء الجائحة، الأول هو معدل عجز الميزانية عند
انتهاء جائحة كورونا وعودة الاقتصاد إلى ما يشبه الأوضاع الطبيعية،
والثاني هو أسعار الفائدة التي يمكن أن تقترض بها الحكومة.
والحقيقة أن الأوضاع بالنسبة لهذين العاملين
تغيرت تماما مقارنة بما كان عليه الحال أثناء الأزمة المالية السابقة قبل عشر سنوات وهو ما يعني
أنه يجب البحث عن سياسات مالية جديدة للتعامل مع أوضاع ما بعد جائحة
كورونا.