"الصين والأرض المحورية".. جزء من كتاب "أحجار على رقعة الأوراسيا"
تنشر بوابة «الهلال اليوم» جزءً من الفصل الخامس من كتاب «أحجار على رقعة الأوراسيا»، للكاتب عمرو عمار، والصادر عن دار "سما" للنشر والتوزيع، وجاء فيه:
المحور الأوراسي الجيواستراتيجي الثاني
كواحدٍ من أربعة محاور جيواستراتيجية مهمة، تحقق المصالح الجيوسياسية،
التي تضمن للولايات المتحدة الهيمنة على رقعة الأوراسيا، في حقبة ما بعد
السوفيتية، كما أشرنا من قبل؛ يجب محاصرة النفوذ السياسي والعسكري للاعبي الشرق
المتموضع على الجانب الآخر من لوحة الشطرنج (الصين- روسيا) بالتمدد عبر الدول
المطلة على بحري الصين الشرقي والجنوبي، مع استمرار تأمين مقر للقوة العسكرية
الأمريكية في اليابان، كجزيرة شرق أقصوية للجيش الأمريكي، وترسيخ قواعدها العسكرية
بكوريا الجنوبية، وبناء تحالف استراتيجي مع (الهند والمحيط الهادئ) يحدث التوازن
الاستراتيجي الآسيوي في مواجهة الصين، مع التوسع في برنامج الدرع الصاروخية
الدفاعية النووية، بالانتشار النووي على أراضي أوروبا، حتى حدود روسيا الغربية،
وفي كوريا الجنوبية على الحدود مع الصين.
ثورة ساحة (تيين آن من)
بتحلل الاتحاد السوفيتي، كان الهدف الاستراتيجي لواشنطن، هو إسقاط
الحزب الشيوعي الحاكم في الصين، ومن ثم إدماج هذه الجمهورية الشعبية في اقتصاد
السوق الحرة.. لهذا شهدت الصين أول ثورة ملونة بالعاصمة بكين في 15 أبريل 1989، أي
بعد إنشاء الصندوق الوطني للديمقراطية (نيد) بستة أعوام، كأول محاولة لوكالة
الاستخبارات المركزية، تستهدف بكين بثورةٍ ملونة وفق تكتيكات شارب، وإرشادات معهد
ألبرت آينشتاين.
كان الداهية شارب حاضرًا في بكين قبل أسبوعين من ثورة ساحة (تيين آن
من) وقد تم طرده من قبل السلطات الصينية قبل أيامٍ قليلة من اندلاع الثورة.. شارب
كان قد أشرف بنفسه من قبل، على تشكيل (الحزب الديمقراطي التايواني) بغرض مساعدته
في الحصول على استقلال جزيرة تايوان عن جمهورية الصين الشيوعية الوليدة.
كما يرجع لشارب الفضل في تجميع كل تيارات المعارضة التبتية، للالتفاف
حول زعيم التبت الانفصالي (دالاي لاما) في سعيه لاستقلال إقليم التبت عن الصين،
لكل هذا كان شارب غير مرغوب فيه من قبل بكين.
تجمع الطلاب داخل ساحة (تيين آن من) بحجة تأبين وفاة النائب العام
للحزب الشيوعي (هو ياو بانغ).. سرعان ما كشفت هذه التظاهرات عن نواياها، حينما
رفعت شعارات الديمقراطية وحرية الصحافة، إلى المطالبة بخلع الرئيس الصيني، وإنهاء
سيطرة الحزب الشيوعي الصيني على الحياة السياسية.
اعتراض طلاب جامعة بكين على خطط الإصلاح الاقتصادي، التي تبناها
الرئيس (دينغ شياو بينغ) منذ عام 1978، جذبت طبقة العمال لهم، حيث تسببت هذه
الإصلاحات في ارتفاع نسب البطالة والتضخم المالي، وبدأوا في الانضمام إلى
التظاهرات، تحت شعارات الفساد.
بدأت التظاهرات تتسع يومًا بعد يوم بين طلاب الجامعات من خارج بكين،
وفشلت الحكومة في احتواء المتظاهرين، نتيجة عدم وجود قائدٍ حقيقي لها يمكن التفاوض
معه، أو الوقوف على طلباتٍ محددة يمكن الاستجابة لها.
كانت حزمة الطلبات تزداد يومًا تلو الآخر، ويرتفع سقف المطالب بين
المتظاهرين بطريقةٍ عشوائية، وفق استراتيجية حروب اللاعنف التي تعلمها الثوار من
كتب جين شارب، وحفظوها عن ظهر قلب.
تم تطبيق الأحكام العرفية في البلاد 20 مايو من نفس العام، دون جدوى،
فقد شهدت شوارع بكين والعديد من المدن الأخرى، أعمال عنفٍ من قبل المتظاهرين الذي
انفرط عقدهم، وكشفوا مبكرًا عن الوجه القبيح لحرب اللاعنف، والكفاح السلمي غير
العنيف؛ حيث أصبح أي جنديٍّ تابع لجيش التحرير الشعبي هدفًا للثوار.
فمشاهد حرق العربات المجنزرة، وإلقاء المولوتوف والزجاجات الحارقة،
داخل الشاحنات العسكرية المارة بين الطرق وعلى الجسور، وأيضًا عمليات قتل وسحل
وضرب الجنود حتى الموت، والاستيلاء على العربات المدرعة والأسلحة الثقيلة، كانت
السمة الغالبة في سلوكيات هذه الثورة الملونة، التي وصفها قادة الغرب بالسلمية، كما
وصف الإعلام الغربي هؤلاء الثوار بــــ (المقاتلين من أجل الديمقراطية)..
اقتحم جيش التحرير الشعبي ساحة (تيين آن من) بالدبابات والأسلحة في 4
يونيو، حاول المتظاهرون اختراق المنطقة العازلة التي فرضها الجيش بينه وبين
المتظاهرين، والتقدم تجاه قوات الجيش التي ردت بفتح النيران، مما أدى إلى مذبحةٍ
مأساوية وحمامات دم، راح ضحيتها مئات القتلى بين صفوف المتظاهرين، وتم إخماد
الثورة.
كشفت وثائق وزارة الخارجية البريطانية، التي رفع عنها السرية في
ديسمبر من عام 2017، أن تدخل الجيش الصيني لقمع المتظاهرين، في ساحة (تيين آن من)
أسفر عن مقتل 10) آلاف شخص) على الأقل.
بينما لم تكشف هذه الوثائق حتى الآن عن (15 ألف قتيل) سقطوا بعد خمسة
شهور على أحداث (تيين آن من) حينما شنت إدارة بوش الأب، حربًا جوية على بنما،
وأغارت طائراتها بلا رحمة على البلاد في 20 ديسمبر 1989، حيث هدمت البيوت، وقتلت
الأطفال والنساء، ودمرت أحياء سكنية ومدن عديدة في العاصمة البنمية، ومنعت لأيام
الصليب الأحمر من دخول المدن وحصر القتلى من المدنيين، ولا أحد حتى الآن يمكنه
معرفة الأعداد الحقيقية لهذه المذبحة التي جلبت الموت والدمار لشعبٍ أعزل، تحت
وطأة ضربات أقوى جيشٍ في العالم، بدعوى القبض على الرئيس البنمي (مانويل نورويجا).