رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


الجاحظ والعقل العلمي

14-12-2020 | 08:59


حسام الحداد

تعتبر كتب الجاحظ دائرة معارف لعصره الذي عاش فيه، مفكرا وناقدا وإماما للعقل والعلم، فقد كان الجاحظ موسوعة تمشي على قدمين، كتب في علم الكلام والأدب والسياسية والتاريخ والأخلاق والنبات والحيوان والصناعة والنساء والسلطان والجند والقضاة والولاة والمعلمين واللصوص والإمامة وصفات الله والقيان والهجاء.

هو أبو عثمان عمرو بن بحر الكناني البصريّ، نُسب إليه لقب الجاحظ لبروز ظاهرٍ في عينيه، وكان دميم الخلقة أسود البشرة، عُرف بشدة نهمه في طلب العلم، فحاز في صدره من ضروب الثقافة والمعرفة، وقد ولد في البصرة عام 159 هجرية وعمّر أكثر من تسعين سنةً، عاصر فيها عددّا من الخلفاء العباسيين، وقد توفي عام 255 هجرية.

بين العقل والنقل

يأخذ العقل دور المركز في معارف الجاحظ وكتاباته ويؤكد هذا منهجه في معرفة الحلال والحرام حيث يقول: "إنما يعرف الحلال والحرام بالكتاب الناطق، وبالسنة المجمع عليها، والعقول الصحيحة، والمقاييس المعينة” رافضًا بذلك أن يكون اتفاق أهل المدينة على شيء دليلاً على حله أو حرمته؛ لأن عظم حق البلدة لا يحل شيئا ولا يحرمه، ولأن أهل المدينة لم يخرجوا من طباع الإنس إلى طبائع الملائكة “وليس كل ما يقولونه حقًا وصوابًا".

وكان الجاحظ لسان حال المعتزلة في زمانه، فرفع لواء العقل وجعله الحكم الأعلى في كل شيء، ورفض من أسماهم بالنقليين الذين يلغون عقولهم أمام ما ينقلونه ويحفظونه من نصوص القدماء، سواء من ينقلون علم أرسطو، أو بعض من ينقلون الحديث النبوي.

فإذا كان بعض فلاسفة الشرق والغرب قد وقفوا أمام أرسطو موقف التلميذ المصدق لكل ما يقوله الأستاذ فإن الجاحظ وقف أمام أرسطو عقلا لعقل؛ يقبل منه ما يقبله عقله، ويرد عليه ما يرفضه عقله، حتى إنه كان يسخر منه أحيانا.. ففي كتابه الحيوان يقول الجاحظ عن أرسطو وهو يسميه صاحب المنطق: “وقال صاحب المنطق: ويكون بالبلدة التي تسمى باليونانية “طبقون”، حية صغيرة شديدة اللدغ إلا أنها تُعالج بحجر يخرج من بعض قبور قدماء الملوك-، ولم أفهم هذا ولمَ كان ذلك؟!”

ويقول الجاحظ: "زعم صاحب المنطق أن قد ظهرت حية لها رأسان، فسألت أعرابيًا عن ذلك فزعم أن ذلك حق، فقلت له: فمن أي جهة الرأسين تسعى؟ ومن أيهما تأكل وتعض؟ فقال: فأما السعي فلا تسعى؛ ولكنها تسعى على حاجتها بالتقلب كما يتقلب الصبيان على الرمل، وأما الأكل فإنها تتعشى بفم وتتغذى بفم، وأما العض فأنها تعض برأسيها معًا.. فإذا هو أكذب البرية".

وكان الجاحظ يؤمن بأهمية الشك الذي يؤدي إلى اليقين عن طريق التجربة، فهو يراقب الديكة والدجاج والكلاب ليعرف طباعها، ويسأل أرباب الحرف ليتأكد من معلومات الكتب.. قال أرسطو: إن إناث العصافير أطول أعمارًا، وإن ذكورها لا تعيش إلا سنة واحدة... فانتقده الجاحظ بشدة لأنه لم يأت بدليل، ولامه لأنه لم يقل ذلك على وجه التقريب بل على وجه اليقين.

كما هاجم الجاحظ رجال الحديث، لأنهم لا يحكّمون عقولهم فيما يجمعون ويروون، ويقول: ولو كانوا يروون الأمور مع عللها وبرهانها خفّت المؤنة، ولكن أكثر الروايات مجردة، وقد اقتصروا على ظاهر اللفظ دون حكاية العلة ودون الإخبار عن البرهان.

فهو لا يقبل ما يرويه الرواة من أن الحجر الأسود كان أبيض اللون واسودَّ من ذنوب البشر، فيقول ساخرًا: “ولماذا لم يعد إلى لونه بعد أن آمن الناس بالإسلام؟!”.

يرفض الجاحظ الخرافات كلها، وينقد من يرويها من العلماء أمثال أبي زيد الأنصاري، فيقول: إن أبا زيد أمين ثقة، لكنه ينقصه النقد لأمثال هذه الأخبار التي يرويها عن السعالي والجن، وكيف يراهم الناس ويتحدثون إليهم ويتزوجونهم وينجبون؟.

وكان الجاحظ يرفض وضع صحابة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مكانة أعلى من البشر، بحيث لا يحق لأحد أن يتعرض لأعمالهم ويقيمها وينقدها، فهو يرى أن من حق المؤرخ أن يتناول أعمالهم بميزان العقل، لأنهم بشر كالبشر يخطئون ويصيبون، وليسوا ملائكة، وإذا كانت صحبتهم للرسول -صلى الله عليه وسلم- تعطيهم حق التوقير فإن هذه الصحبة نفسها تجعل المخطئ منهم موضع لوم شديد؛ لأنه أخطأ رغم صحبته وقربه من الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

ورفض الجاحظ بشدة القول بأن سب الولاة فتنة ولعنهم بدعة”، وعجب من أن الذين يقولون بذلك الرأي مجمعون على لعن من قتل مؤمنًا متعمدًا، ثم إذا كان القاتل سلطانًا ظالمًا لم يستحلوا سبه ولا لعنه ولا خلعه، وإن أخاف العلماء وأجاع الفقراء وظلم الضعفاء..، فالجاحظ -كمعتزلي- كان يرى ضرورة الخروج على الإمام الظالم في حالة وجود إمام عادل، مع الثقة في القدرة على خلع الظالم وإحلال العادل محله، دون إحداث أضرار أكثر مما يتوقع جلبه من المنافع.

وكان الجاحظ يؤكد أن العقل الصحيح أساس من أسس التشريع.

الجاحظ ونظرية التطور

ومن خلال مركزية العقل ومنهج الشك والتجريب استطاع الجاحظ ان يضع بذور نظرية التطور والانتخاب الطبيعي للأنواع التي قدمها دارون، وهي النظرية التي تدعم إدراكنا الحديث للتعقيد المتزايد للحياة، بدءًا من الكائنات الحية الأولية، حتى الكائنات البحرية والحشرات والزواحف والثدييات، وصولا إلى الجنس البشري.

ورغم ما لاقى تشارلز داروين مؤسس هذه النظرية التقدير حديثا لجهوده بشأن وضع وتطوير هذه النظرية في المملكة المتحدة نجد إسهامات ألفريد راسل والاس- وهو عالم بريطاني آخر- في وضع هذه النظرية في الوقت نفسه الذي أعلن فيه داروين عنها، حيث تشارك العالمان في نشر أول أبحاثهما في هذا الصدد في عام 1858 م.

وفي كتابه "من مكة إلى الميتاداتا"، الصادر عن نهضة مصر، يضيف مايكل هاملتون مورجان، ومع ذلك كشفت المخطوطات العربية القديمة عن أن هذين العالمين الإنجليزيين لم يكونا أول من تناول هذه الفكرة، ففي العراق منذ 1200 عام مضت، وتحديدا في مدينة البصرة في العراق، كان هناك رجل ذو شخصية لافتة للنظر، يدعى أبا عثمان عمرو بن بحر الكناني البصري- عرف بالجاحظ- أعرب عن النظرية نفسها!

فكان الجاحظ أول شخص يتحدث عن نظرية التطور أو الانتخاب الطبيعي للأنواع ويسجلها وذلك في عام 830م عندما قدم عمله الرائع "كتاب الحيوان".

ويتابع المؤلف: كتب "كونواي" في عام 1941 موضحا أن مقتطفا واحدا من هذا الكتاب يمثل بحق المدخل الوحيد ذا الصلة بموضوع الانتخاب الطبيعي الذي تطرق له العرب قبل العصر الحديث، واستشهد من الترجمة الإسبانية لـ"كتاب الحيوان" بالسطور التالية: "يخرج الجرذ ساعيا على رزقه، ويتمكن بمهارة من الحصول على طعامه، حيث يتغذى على الجميع الحيوانات الأقل قوة منه" وفي المقابل، "يتعين عليه تفادي الثعابين والأفاعي والطيور الجارحة التي تبحث عنه لتفترسه" والتي تتفوق عليه قوة.

كذلك فإن البعوض "يعرف فطريا الدم هو الوحيد الذي يبقيه على قيد الحياة" ومن ثم عندما يرى البعوض حيوانا، "فإنه يعرف أن جلد الحيوان، قد خلق لإطعامه".. وهكذا.

الجاحظ وسلاسل الغذاء

وينقل المؤلف ما كتبه الجاحظ في ترجمة أخرى: "تدخل الحيوانات في صراع من أجل البقاء والوجود والحصول على الموارد والغذاء، وتجنب افتراس الغري لها، ومواصلة تكاثرها، فتؤثر العوامل البيئية على الكائنات حتى تتطور لديها سمات جديدة تضمن لها البقاء، وبالتالي تتحول إلى أنواع جديدة، فالحيوانات التي تبقى على قيد الحياة من أجل التكاثر يمكن لها توريث هذه السمات الجديدة لنسلها".

ويشير مؤلف الكتاب إلى أن الجاحظ تطرق لوصف سلاسل الغذاء، ويتابع – على الرغم من أن هذا الباحث – الجاحظ- استطاع أن يعلم نفسه بنفسه، فقد كان فكريا سابقا لعصره بحوالي 1000 عام فيما يخص أفكاره بصدد كيفية تطور الحياة على الأرض.

ويشير مورجان إلى أن أفكار الجاحظ الظهور لمدة ألف عام إلى أن جاء عصر داروين فاستغرق سنوات من العمل واستكشف من العمل واستكشف الطبيعة في الرحلة التي دامت خمسة أعوام على متن سفينة البيجل وصاغ في نهاية المطاف نظريته المعروفة باسم الانتخاب الطبيعي للأنواع أو التطور التي نشر أول أبحاثها في عام 1858م.

ويختتم المؤلف: وعلى الرغم من أن الإعراب عن نظرية داروين قد ظهر بصورة أكثر جاذبية وبهاء مما قدمه الجاحظ، ناهيك عن قدر الدعم الذي لاقته هذه النظرية على مدار سنوات من جانب الأبحاث المركزة والبيانات الداعمة، فقد تجد بداخل نظرية داروين أن أفكار الجاحظ تلقي بظلالها منذ 1000 عام مضت.