في ذكرى ميلاد مؤسس «دار الهلال».. شوقى ضيف يكتب: تاريخ آداب اللغة العربية
يعد جورجي زيدان علامة بارزة في الصحافة المصرية، وهو أحد رواد الصحافة في الوطن العربي، ولد زيدان لأسرة مسيحية فقيرة، في عين عنب في جبل لبنان، عام 1861، كان له 5 اخوة، هم متري، واجيا، إلياس، يوسف وإبراهيم، عانت أسرته من الفقر وظروف صعبة، ربما مكنته لان يكون صامدا أمام عثرات الحياة في مستقبله، واستطاع أن يكون جورجي زيدان الذي لا يجهله أحد اليوم.
تنشر "الهلال اليوم" مقال الدكتور شوقى ضيف
بقلم الدكتور شوقى ضيف
ليس بين المشتغلين بالأدب العربى وتاريخه من ينكر الجهود
الخصبة التى نهض بها الأستاذ جرجى زيدان فى العشرة الثانية من هذا القرن، فقد درس
آدابنا فى عصورها المختلفة درسا منظما، لم يكتف فيه بقراءة آثارها ونصوصها
العربية، بل مد بصره إلى ما كتب عن هذه النصوص والاثار فى بيئات المستشرقين،
يسنده فى ذلك حذق باللغات الفرنسية والألمانية والإنجليزية، فلم يترك للقوم مصنفا
مهما فى عصره إلا طلبه، ولا مجلة علمية إلا وقف عليها وأفاد منها أكبر الفائدة
واستغلها خير ما يكون الاستغلال .
وكان من أهم ما استغله وانتفع به كتاب «تاريخ الآداب العربية»
لبرد كلمات ، وسمى فى غير صحيفة من كتابه «المؤلفات الغربية» التى رجع إليها وعول
عليها، كما سمى بعض المجلات العلمية وخاصة مجلات الجمعيات الآسيوية، وتمثل ذلك
كله وحوله إلى هذه المادة الغزيرة القيمة التى يتضمنها كتابه «تاريخ آداب اللغة
العربية» بأجزائه الأربعة الجامعة، وهى أجزاء أحكم ترتيب أبوابها وتنسيق فصولها .
ولا تكاد تلم بهذه الأجزاء حتى ترى المؤلف يأخذ نفسه بأساليب
البحث الحديث .. فهو يدرس العلل والأسباب السياسية والاجتماعية التى أثرت فى
آدابنا على مر الأحقاب والعصور، وهو يفرد فصولا طوالا لحياتنا العقلية بجميع
فروعها العلمية ، ليتبين أصداءها فى الحياة الأدبية ، فالأدب الخالص ليس شعبة
منقطعة عن شعب الحياة والفكر فى الأمة، بل هو فاعل فيها ومنفعل بها، لا يتم تاريخه
ولا تصوره بدونها . ويتسع بصر المؤلف فى الدراسة ، فيعرض من حين إلى حين للآداب
الغربية، وخاصة الآداب اليونانية ، مؤمنا بأن دنيا الآداب جميعا واحدة وأحكامها
العامة واحدة، لأنها تستقى من موارد واحدة ، هى الحياة الإنسانية بكل ما اختلف
عليها من صروف على هذه الشاكلة مضى جرجى زيدان يدرس آدابنا العربية على نهج سديد ،
وأكبر الظن أن ذلك هو السبب فى احتفاظ كتابه - منذ صدوره إلى اليوم - بقيمته
العلمية . ولكن هل وقف تاريخ آداب لغتنا عند هذه الصورة التى رسمها المؤلف، فلم
يتغير ولم يتطور؟ الحق أنه تغير وتطور، كما يتغير ويتطوركل تاريخ بفضل ما يستكشفه
المنقبون والباحثون، وأن ما استكشف فيه منذ العقد الثانى من هذا القرن، وهو تاريخ
تأليف هذا الكتاب، أكثر من أن ندل عليه، فقد ظل المستشرقون يقومون بجهودهم
واستكشافاتهم فيه، وانضمت إليهم أجيال من شبابنا الذين تخرجوا فى الجامعات المصرية
وغير المصرية مسلحين بأدوات العلم الحديث، فنقبوا فيه واستكشفوا كثيرا من مجاهله،
وأكبوا على نشر دواوينه ومصنفاته التى لم تكن قد عرفت، وبالتالى لم تكن قد خضعت
للبحث والدراسة واستنباط الحقائق الأدبية.
وأنت اليوم أينما وليت وجهك فى مكتبتنا العربية وجدت أبحاثا
وآثارا لا عهد لنا بها من قبل، وهى تارة تختص بشاعر من الشعراء أو كاتب من الكتاب
أو عصر من العصور أو إقليم من الأقاليم العربية، وتارة تتسع فتضم غير شاعر وكاتب
وعصر وإقليم، ثم هى تارة تؤرخ وتصف، وتارة تنقد وتضع المذهب أو المذاهب الفنية فى
الشعر والنثر، غير ما بعثناه ونشرناه من نصوص وآثار أدبية كثيرة لا تكاد تحصي.
وليس معنى ذلك أن «تاريخ آداب اللغة العربية» لجرجى زيدان
استنفد أغراضه، وإنما معناه أنه أصبح فى حاجة إلى أن يعيد باحث النظر فيه وفى
فصوله، ويلحق به ما جد على هذا التاريخ من تطور وتغير، بحيث تتم الفائدة منه ويكمل
النفع به. وهذا هو الذى دفعنى مخلصا إلى كتابة بعض تعليقات وحواش عليه تستكمل
معانيه الأدبية والتاريخية والإسلامية وتؤديها على حقوقها ووجوهها ، مع تصحيح بعض
أفكاره وألفاظه وضبط أشعاره.
والفضل فى هذا الصنيع يرجع إلى السيدين إميل وشكرى زيدان، فقد
ألحا على فى القيام بهذا العمل خدمة للمتوفرين على دراسة الأدب ووفاء منهما لذكرى
والدهما وبرا به وبآثاره . واستجبت لهما خدمة للعلم وتحقيقا لما كان يصبو إليه
الباحثون من إخراج هذا الكتاب فى طبعة جديدة منقحة ...
والله الهادى إلى سواء السبيل
تاريخ التأليف فى هذا الموضوع
لم يكن تاريخ آداب اللغة معروفا عند الإفرنج قبل نهضتهم
الأخيرة فى التمدن الحديث . وما لبثوا حين تنبهوا له أن ألفوا فيه، وأصبحوا وما من
لغة من لغاتهم إلا وفيها كتاب أو غير كتاب فى تاريخ آدابها.. ولما استشرقوا أخذوا
فى درس اللغة العربية، وكتبوا فى تاريخ آدابها غير كتاب سيأتى ذكره.
أما العرب فالمشهور أنهم لم يؤلفوا فى تاريخ آداب لسانهم،
والحقيقة أنهم أسبق الأمم إلى التأليف فى هذا الموضوع مثل سبقهم فى غيره من
الموضوعات .. فإن فى تراجم الرجال كثيرا من هذا التاريخ لأنهم يشفعون الترجمة بما
خلفه المترجم من الكتب ، ويبينون موضوعاتها، وقد يصفونها. وأول كتاب خصصوه للبحث
فى المؤلفين والمؤلفات «كتاب الفهرست» لابن النديم (سنة 377هـ) وهو يشتمل على آداب
اللغة العربية من أول عهدها إلى ذلك العصر مرتبة حسب الموضوعات . ولم يقتصر ذلك
الكتاب على آداب العرب الأصلية، ولكنه تضمن ما أحدثوه من العلوم الإسلامية
واللسانية أو ما نقلوه عن اللغات الأخرى بالتفصيل مع تراجم المؤلفين والمترجمين
والشعراء والأدباء .. ولولاه لضاع أسماء كثير من الكتب النفيسة، ولأعوزنا تراجم
كثيرين من الأدباء والشعراء والعلماء .. فهو ذخيرة أدب وعلم ، وقد طبع فى ليبسك
سنة 1872 ، ثم طبع فى مصر.
ولم يظهر بعده كتاب يستحق الذكر قبل كتاب «مفتاح السعادة
ومصباح السيادة» ويعرف بموضوعات العلوم لطاشكبرى زاده المتوفى سنة 968هـ رتبه حسب
الموضوعات أيضا ، وذكر فيه 150 فنا ومنه نسخة خطية فى دار الكتب المصرية.
يليه كتاب «كشف الظنون عن أسامى الكتب والفنون» لملا كاتب
جلبى المتوفى سنة 1067هـ، وهو معجم مرتب على الأبجدية حسب أسماء الكتب ، وبلغ ما
حواه منها نحو 15.000 كتاب مع أسماء أصحابها ووفياتهم وتواريخ أهم العلوم. وقد طبع
عدة طبعات، أهمها طبعة ليبسك ولندن (سنة 1835- 1858) فى سبع مجلدات، معها ملحق فيه
ذيل أحمد منيف زاده، وفهارس مكاتب دمشق وحلب ورودس والمغرب وفهرس السيوطى وابن
خليفة الأندلسى وبعض مكاتب الآستانة. وله طبعات أخرى فى الآستانة ومصر .
وأخيراً كتاب «أبجد العلوم» لصديق القنوجى من أهل هذا العصر ،
وهو كتاب ضخم عول فيه صاحبه على من تقدمه ورتبه على الموضوعات . وقد طبع على الحجر
فى الهند سنة 1296هـ فى ثلاثة مجلدات كبيرة.
على أن هذه الكتب وأمثالها تعد من المآخذ الأساسية لدرس آداب
اللغة . ولكنها لا يصح أن تسمى تاريخا لها بالمعنى المراد بالتاريخ اليوم . ولم
يتصد أحد للتأليف فى تاريخها على النمط الحديث قبل الإفرنج المستشرقين ، فهم أول
من كتب فيه من أواسط القرن الماضى ، لكنهم لم يوفوه حقه إلا فى أول هذا القرن.
وسنأتى على أسماء مؤلفاتهم فيما يلى .
أما فى العربية، فلعلنا أول من فعل ذلك. ونحن أول من سمى هذا
العلم بهذا الاسم «تاريخ آداب اللغة العربية» فنشرنا منه فصولا صدر أولها سنة 1894
فى عدد الهلال التاسع من السنة الثانية، وآخرها فى أواخر السنة الثالثة . وقد
انتهينا فيه إلى تاريخ آدابها فى عصر الانحطاط ، ثم شغلنا عن إتمامه ووعدنا القراء
بالعودة إلى هذا الموضوع ، على أن نفرد له كتابا خاصا مع التوسع والتدقيق ..
فقضينا بضع عشرة سنة ونحن لا تقع لنا شاردة إلا قيدناها وملاحظة إلا حفظناها
وتدبرناها ، والقراء يطالبوننا به .. فأعلنا أخيرا عزمنا على القيــام بوعدنا وها
نحن فاعلون.
الغرض من هذا الكتاب
نعنى بتاريخ آداب اللغة العربية تاريخ ما تحويه من العلوم
والآداب، وما تقلبت عليه فى العصور المختلفة، أو هو تاريخ ثمار عقول أبنائها
ونتائج قرائحهم، وهاك أهم أغراضنا منه:
1 - بيان
منزلة العرب بين سائر الأمم الراقية من حيث الرقى الاجتماعى والعقلي.
2 - تاريخ
ما تقلبت عليه عقولهم وقرائحهم ، وما كان من تأثير الانقلابات السياسية على آدابهم
باختلاف الدول والعصور.
3 - تاريخ
كل علم من علومهم على اختلاف أدواره من تكونه ونشوئه إلى نموه ونضجه وتشعبه
وانحلاله حسب العصور والأدوار.
4 - تراجم
رجال العلم والأدب مع الإشارة إلى المآخذ التى يمكن الرجوع إليها لمن يريد التوسع
فى تلك التراجم.
5 -وصف
الكتب التى ظهرت فى العربية باعتبار موضوعاتها ، وكيف تسلسلت بعضها من بعض ، وبيان
مميزاتها من حيث حاجة القراء إليها ووجه الاستفادة منها.
6 - لا
نهتم من هذه الكتب إلا بما لا يزال باقيا منها ، ويمكن الحصول عليه .. فإذا كان
مطبوعا ذكرنا محل طبعه وسنته ، وإذا كان لم يطبع أشرنا إلى المكاتب الكبرى التى
يوجد فيها- نعنى المكاتب الدولية فى أوروبا أو غيرها ، كالمكتبة الملكية فى برلين
، ومكتبة المتحف البريطانى فى لندن ، والمكتبة الأهلية فى باريس ، والمكاتب
الدولية فى فبينا وغوطا وأكسفورد ومنشن وليدن وغيرها ، ودار الكتب المصرية فى
القاهرة ، ومكاتب أيا صوفيا وكوبرلى وبايزيد أو غيرها فى الآستانة.. حتى إذا أراد
أحد الوقوف على شيء من الأصول الخطية ، طلبها فى فهارس تلك المكاتب .
وبالجملة فإن غرضنا الرئيسى أن يكون لهذا الكتاب فائدة عملية
فضلا عن الفائدة النظرية ، بحيث يسهل على طلاب المطالعة معرفة الكتب الموجودة ومحل
وجودها وموضوع كل منها وقيمته بالنسبة إلى سواه من نوعه .. فهو أشبه بدائرة معارف
تشتمل تاريخ قرائح الأمة العربية وعقولها وتراجم علمائها وأدبائها وشعرائها ومن
عاصرهم من كبار الرجال ، ووصف المؤلفات العربية على اختلاف موضوعاتها . ومتى تم
الكتاب ألحقناه بفهرس أبجدى للأعلام والموضوعات ، فيصير معجما للعلم والعلماء
والأدب والأدباء والشعر والشعراء ، ولما جادت به قرائحهم من التصانيف أو المنظومات
ووصف كل منها ومحل طبعه أو وجوده.
تقسيم الموضوع وأبوابه
ترددنا كثيراً فى الخطة التى نتخذها فى تقسيم هذا الكتاب ،
بين أن نقسمه حسب العلوم أو حسب العصور .. ومعنى قسمته حسب العلوم أن نستوفى
الكلام فى كل علم على حدة من نشأته إلى الآن ، على أن نبدأ بأقدمها فنذكر تاريخ
الشعر مثلا وتراجم الشعراء وما تقلب على الشعر من أول عهده إلى الآن . ونفعل مثل
ذلك بالخطابة وغيرها من آداب الجاهلية ، وهكذا فى العلوم الإسلامية كالفقه
والتفسير والنحو واللغة ، والتاريخ والجغرافيا وغيرها . أما قسمته حسب العصور
فيراد بها الكلام عن أحوال العلوم معاً فى كل عصر على حدة ، وهذا الذى اخترناه ..
فقسمنا هذا الكتاب إلى تاريخ آداب اللغة العربية قبل الإسلام وتاريخها بعده ،
وقسمناها فى الإسلام إلى عصور حسب الانقلابات السياسية لبيان ما يكون من تأثير تلك
الانقلابات فيها .. فبدأنا بعصر صدر الإسلام ، فالعصر الآموى ، فالعباسى ،
فالمغولى ، فالعثمانى ، فالعصر الحديث ، وقسمنا كلا منها إلى أدوار حسب الاقتضاء .
وسيتضمن هذا الكتاب أربعة أجزاء، هذا أولها.
موضوع هذا الجزء
يشتمل هذا الجزء على تاريخ آداب اللغة فى العصر الجاهلى ، وفى
عصر صدر الإسلام ، والعصر الآموى .. أى من أول عهدها إلى سنة 132 هـ ، فبدأنا
بمقدمات تمهيدية فى : ما هو المراد بآداب اللغة ، ومن هم أسبق الأمم إلى العلم ،
وما هى مصادر آداب اللغة على الإجمال . وأتينا بآداب اللغة اليونانية على سبيل
المثال .. ثم عمدنا إلى آداب العرب قبل الإسلام، فقسمناها إلى الجاهلية الأولى
القديمة، والجاهلية الثانية فى القرنين الأخيرين قبل الهجرة. وصدرنا الكلام بفصول
فى الفرق بين لغة الجاهليتين، ودرجة ارتقاء عقول العرب ، والمرأة فى الجاهلية .
وتقدمنا إلى الآداب الجاهلية فقسمناها إلى :
1 - الآداب
العربية ، ويدخل فيها اللغة والشعر والخطابة والأمثال والنسب ومجالس الأدب
والأخبار ونحوها.
2 - العلوم
الطبيعية، وتحتها الطب والبيطرة والخيل ومهاب الرياح.
3 - العلوم
الرياضية ، أردنا بها الفلك والميثولوجيا والتوقيت.
4 - ما
وراء الطبيعة ، ويدخل فيها الكهانة والعيافة والقيافة وتعبير الرؤيا والزجر وغير
ذلك .
وأخذنا فى الكلام عن كل علم على حدة ، فبدأنا باللغة ..
فذكرنا تاريخها قبل الإسلام، وما دخلها من الألفاظ الأعجمية، وكيف كانت لما جاء
الإسلام، وفروعها ومميزاتها عن سائر اللغات .. ثم الأمثال وأنواعها وما ألف فيها .
وانتقلنا إلى الشعر ، وهو أهم تلك الآداب.. فأفضنا فى درسه ، وبحثنا فى هل عند
العرب شعر تمثيلى ، وكيف بدأ العرب ينظمون، وما هو أصل وزن الشعر عندهم وأسباب
نهضة الشعر فى الجاهلية ، وأهمها استقلال عرب الحجاز من اليمن وحروبهم فيما بينهم.
وبينا عدد الشعراء بالنظر إلى القبائل ، وبالنظر إلى الأقاليم ، وتأثير الإقليم فى
قرائحهم ، ثم عقدنا فصلا فى خصائص الشعر الجاهلى وأحوال شعرائه . وتسهيلا لدرسهم
وتفهمهم ، قسمناهم حسب أغراضهم إلي: أصحاب المعلقات ، والشعراء الأمراء ، والشعراء
الفرسان، والشعراء الحكماء ، والشعراء العشاق ، والصعاليك ، واليهود ، والنساء
الشواعر، والشعراء الهجائين، ووصاف الخيل، والموالي، وسائر الشعراء، وذكرنا مميزات
كل طبقة، وأشهر شعرائها، وتراجم وأمثلة من أقوالهم وما صارت إليه دواوينهم،
والمآخذ التى يرجع إليها فى معرفة أخبارهم.. ثم تقدمنا للكلام على سائر علوم
الجاهلية.
وفى عصر صدر الإسلام، بدأنا بذكر التغيير الذى أحدثه الإسلام
فى نفوس العرب، وما كان من تأثير ذلك فى آدابهم ولا سيما الشعر والخطابة.. ثم
كتبنا فصلا فى الشعر والرسول ، وآخر فى الشعر والخلفاء الراشدين وما حدث من العلوم
فى هذا العصر مع تاريخ الخط.
وقدمنا الكلام فى العصر الآموى بمميزات ذلك العصر، وما اقتضته
سياسة بنى أمية من التفريق بين القبائل واصطناع الأحزاب وتأثير ذلك فى آدابهم ..
فبدأنا بالعلوم الشرعية كالقراءة والتفسير والحديث والفقه مع تمهيد فى البصرة
والكوفة. ثم العلوم اللسانية: النحو والحركات والإعجام ثم التاريخ والجغرافيا.
ورجعنا إلى ما صارت إليه آداب الجاهلية فى ذلك العصر وهى اللغة والشعر والخطابة ،
وتكلمنا عن أسباب رواج الشعر ومميزاته. وقسمنا هذا العصر إلى ثلاثة أدوار . وقسمنا
شعراءه إلى شعراء السياسة وشعراء الغزل والشعراء الخلعاء والسكيرين والشعراء الأدباء
. وقدمنا الكلام فى فحول ذلك العصر . وقسمنا شعراء السياسة إلى أحزاب أهمها :
أنصار بنى أمية وأنصار آل المهلب وأنصار العلويين والخوارج وغيرهم. وأتينا بتراجم
الشعراء من كل طبقة وأمثلة من أقوالهم حسب أغراضهم وأدوارهم مع ذكر دواوينهم ومآخذ
أخبارهم . وختمنا الجزء بفصول فى قرائح الشعراء وشياطينهم والقراءة فيهم. وأخيراً
تحدثنا فى الخطابة والخطباء ، والإنشاء ، وبه تم العصر الآموى وهو آخر الجزء الأول.
مقدمات تمهيدية
ما هو
المراد بآداب اللغة؟
آداب اللغة وعلومها .. والمراد بتاريخ آداب اللغة - تاريخ
علومها أو تاريخ ثمار عقول أبنائها ونتائج قرائحهم ، فهو تاريخ الأمة من الوجهة
الأدبية والعلمية . ولكل أمة تاريخ عام يشمل النظر فى كل أحوالها، ويتفرع إلى
تاريخ سياسى وآخر اجتماعى وآخر اقتصادى وآخر أدبى أو علمي. فالتاريخ السياسى يبحث
فيما مر على الأمة من الفتوح والحروب، وما توالى عليها من الدول وأنواع الحكومات
ونحو ذلك . والتاريخ الاجتماعى يبين الأدوار التى تقلبت فيها تلك الأمة من حيث
عاداتها وأخلاقها . والتاريخ الاقتصادى يتناول النظر فى تاريخ مالية تلك الأمة
وثروتها وأحوالها الزراعية والصناعية وغيرها. وقس على ذلك سائر ضروب التاريخ .
ومنها التاريخ الأدبى أو العلمى ، وهو يبحث فى تاريخ الأمة من حيث الأدب والعلم ..
فيدخل فيه النظر فيما ظهر فيها من الشعراء والأدباء والعلماء والحكماء ، وما دونوه
من ثمار قرائحهم أو نتاج عقولهم فى الكتب ، وكيف نشأ كل علم وارتقى وتفــرع عملا
بسنة النشوء والارتقاء.
والتاريخ العام إن لم يشمل تاريخ آداب اللغة ، كان تاريخ حرب
وفتح وسفك وتغلب واستبداد ، إذ لا يستطاع الوصول إلى فهم حقيقة الأمة أو كنه
تمدنها أو سياستها إلا بالاطلاع على تاريخ العلم والأدب فيها .. فهو شارح للتاريخ
يعلل الأسباب والحوادث بعللها الحقيقية . فإذا قرأنا تاريخ أمة وعرفنا ما توالى
عليها من الأحوال السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية، واستخرجنا أسباب
تمدنها ورقيها أو تقهقرها وسقوطها .. مهما علمنا من ذلك كله، فإن الأسباب لاتزال
غامضة حتى نعلم تاريخ علوم تلك الأمة وهو تاريخ عقولها وقرائحها ، فتنجلى لنا
العوامل الأصلية فى أسباب رقيها أو سقوطها . فإن ما تخلفه من الآثار الأدبية ينم
عما كانت عليه من الارتقاء العقلى أو الميل القلبى وسائر أحوالها من الاعتدال أو
العفة أو التهتك ، ومن الهمة أو الخمول ، إلى غير ذلك من الآداب والأطور - وإنما
الأمم الأخلاق ما بقيت - على أن تاريخ آداب اللغة لا يكون وافيا إن لم يوضح
بالتاريخ السياسى .
وأهل التمدن الحديث يجعلون البحث فى آداب اللغة من أهم
الوسائل لتفهم تاريخها السياسي، ويقسمون ذلك التاريخ إلى أطوار على مقتضى ما تقلب
عليها من الأحوال الأدبية ، ويقيسون ما تبينوه من الأطوار الماضية على ما سيكون ..
فيتنبئون بمستقبل الأمة متى عرفوا الطور الذى بلغت إليه فى أيامهم، وبالقياس على
الماضى ، يقولون إن هذه الأمة هى الآن فى دور الحماسة الشعرية مثلا، ولا تلبث أن
تنتقل إلى العصر الأدبى ، ثم العلمى فالفلسفى .. إلخ..
فتاريخ آداب اللغة هو تاريخ عقول أبنائها ، وما كان من تأثير
ذلك فى نفوسهم وفى أخلاقهم . ويدخل فيه تعيين ما بلغت إليه الأمة من الرقى العلمى
وامتازت به من سواها .. وبيان تاريخ كل علم وما تقلب عليه من الأحوال ووصف ما
خلفوه من الآثار المكتوبة من حيث فوائدها ، وكيفية تفرعها أو تخلفها بعضها عن بعض.
أسبق
الأمم إلى العلم
من هو أول من قال شعراً أو أول من رصد الكواكب، أو اخترع
الكتابة، أو وضع الأعداد؟ من قسم السنة إلى أشهر ، والأشهر إلى أسابيع ، وهذه إلى
الأيام فالساعات؟ نعرف مثلا أن أول من رصد الكواكب الكلدانيون ، ولكن من الرجل
الذى بدأ بالرصد؟ إن ذلك ذهب فى ثنايا القرون المتباعدة، كما ذهبت أسماء مكتشف
الملح ومخترع النار وصانع الإبرة والمغزل ونحوهما من الأدوات القديمة. والسبب فى
ذهاب تلك الأخبار أن الإنسان عاش أدهارا.