رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


لا أعرف شيئًا

16-12-2020 | 12:28


د. حسين علي

أرسلت إلىَّ إحدى تلميذاتي رسالة تشكرني فيها على أسلوب تعاملي مع تلاميذي داخل قاعة الدرس، وأرجح أن السبب الرئيسي الذي دفع تلك الطالبة إلى أن تغدق عليَّ كلماتها الطيبة التي أثلجت صدري، هو أنني قد تخليت منذ فترة زمنية بعيدة عن «المحاضرة» كطريقة للتدريس. إذ أدركت أن «المحاضرة» أسلوب ضار جدًا بالعملية التعليمية، إذ يكون الأستاذ هو وحده الذي يتحدث، وكافة من بالقاعة من الطلاب يجلس صامتًا يتلقى العلم من الأستاذ، إنها طريقة تعتمد بشكل أساسي على «الإملاء»، ويغيب عنها الحوار، إنها أسلوب «استبدادي» من جانب الأستاذ، لأن «الأستاذ الأوحد» هو أشبه ما يكون «بالزعيم الأوحد». إن «المحاضرة» لا تهيئ العقول للإبداع، بل تؤهلها للخضوع والخنوع، لذلك حرصت على انتهاج طريقة بديلة، ورأيت ضرورة أن يعتمد الدرس الجامعي على الحوار بين الأستاذ وتلاميذه، مع الحرص على تنمية «التفكير الناقد» لدى الطلاب واستخدام أسلوب «العصف الذهني» معهم، وهى  كلها أساليب ناجعة لتنمية قدرات أبنائنا العقلية، وذلك عوضًا عن «المحاضرة».

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنني مؤمن إيمانًا راسخًا بأنه ينبغي على المرء ألا يتكبر على العلم، ولا يغتر بما حصَّله من معرفة، لأنه لم يعد من حق أحد أن يتباهى بكم المعلومات التي لديه، إذ صارت المعلومات في وقتنا الحاضر متوافرة بكثافة شديدة على الشبكة العنقودية (النت) في كافة المجالات العامة والخاصة، وبضغطة واحدة على لوحة مفاتيح الكمبيوتر يتدفق عليك كم هائل من المعلومات في الموضوعات التي ترغبها، ومن ثمَّ فإن الأهم هو «المنهج العلمي» الذي يُكْسِبه الأستاذ لتلاميذه في كيفية التعامل مع المعلومة، وتحليلها وتوظيفها، والإفادة منها.     

لقد اعتدت منذ زمن أن أردد، على مسامع تلاميذي، داخل قاعات الدرس، أننا في هذه الحياة نجهل كثيرًا من الأمور، ونغفل أشياء وأشياء، ومن ثمَّ ينبغي أن يكون شعارنا «إنني لا أعرف شيئًا !!»، وهى المقولة التي كان يرددها دومًا الفيسلوف اليوناني «سقراط». هكذا أنصح بناتي وأبنائي من الطالبات والطلبة في الجامعة، وليس من اللائق أن أنصحهم بشئ، وأسلك في حياتي على نحو مخالف.

على المرء أن يتواضع مهما ارتفع شأنه، بل كلما ارتفعت مكانته العلمية زاد تواضعه، لأن الكِبْر في العلم أمر مكروه تمامًا. فالمرء إذا ملأه الغرور، وظن «أنه يعرف كل شئ»، فسيتحول إلى عقلية جامدة متحجرة!! وإذا تيقن المرء أنه على علم بكل شيء، فسوف يتوقف عن الإنصات لرأي غيره. كيف يستمع إلى آراء الآخرين؟ إنهم لن يقولوا جديدًا بالنسبة له، فهو يعرف كل شيء عن كل شيء!!

إن الشخص الذي يملؤه الغرور بما حصّله من علم، وبما وصل إليه من درجات علمية، متباهيًا علانيًة أن مؤلفاته – من كثرتها – يمكنها أن تحجب ضوء الشمس!! ويحلو له أن يردد مفتونًا بنفسه: إنه حصل على أعلى الدرجات العلمية منذ سنوات بعيدة، متصورًا أن ذلك مدعاة للفخر بالضرورة، إن مثل هذا الشخص لن تجده يقرأ كتابًا أو مقالاً .. لماذا يقرأ؟ وهو يتوهم أنه يعرف كل شيء عن كل شيء!! ولن تجده مهتمًا بمشاهدة برنامج أو فيلم. هو يظن أنه ليس في حاجة إلى كل ذلك، لأنه يعرف كل شيء!! وهكذا ينغلق أفق المغرور علميًا، ويضيق صدره بالرأي الآخر، ويتوهم أنه وحده الذي يمتلك كل الحقيقة !!

لا أحد يعرف الحقيقة كلها! فإذا ضربنا مثلاً باللعبة الشعبية «كرة القدم» .. عندما تذاع مباراة هامة في كأس العالم، مثلاً، فإن المخرج التليفزيوني يستعين بأكثر من كاميرا لتصوير وقائع المباراة، ونقلها عبر شاشات التليفزيون.

 لنفترض أنه استعان بـثلاث كاميرات: الكاميرا الأولى؛ تكون محمولة على متن طائرة مروحية تحلق فوق المستطيل الأخضر لتصوير المباراة، والكاميرا الثانية تصور اللاعبين، عن مقربة، وهم يتسابقون ويتصارعون للاستحواذ علي الكرة واقتناصها. أما الكاميرا الثالثة والأخيرة؛ فهى مُثَبتة خلف المرمى كي تقوم برصد حركة الكرة، لتحديد ما إذا كانت الكرة قد استقرت داخل المرمى أم أنها مرقت خارجه.


وإذا تساءلنا الآن: أية كاميرا من هذه الكاميرات الثلاثة هى التي تنقل حقيقة ما يحدث في الملعب بدقة أكثر من الأخرى؟!

هل الكاميرا التي تصور المباراة من فوق سطح الطائرة المروحية، هى التي تنقل حقيقة ما يحدث في الملعب بدقة أكثر من غيرها من الكاميرات الأخرى؟!


أم أن الكاميرا التي تصور اللاعبين عن مقربة وهم يجرون ويتصارعون على الكرة هى الأكثر دقة في وصف حقيقة ما يحدث؟!


أم أن الكاميرا المُثَبتة خلف المرمى هى التي تعبر عن حقيقة الأحداث التي تقع داخل الملعب بدقة أكثر؟!


لو توقفنا قليلاً عن مواصلة قراءة المقال، وتفحصنا هذه الأسئلة، سعيًا للحصول على الإجابة الصحيحة، فماذا سنجد؟!


 سوف نكتشف أن كل كاميرا من الكاميرات الثلاث تنقل جزءًا من المشهد، إن كل واحدة منها تلقي ضوءًا على جانب واحد من جوانب الصورة، وبالتالي فإن الكاميرات الثلاث تكمل كل منها الأخرى. ولا تستطيع واحدة بمفردها أن تصور كل ما يحدث . . ومن هنا علينا أن ندرك أننا لانملك معرفةً بكل شئ . . نحن كبشر نملك جزءًا من الحقيقة، لا كل الحقيقة . . أنا أعرف جزءًا، وأنت تعرف جزءًا، وهو يعرف جزءًا . . وكل منا يكمل الآخر . . تمامًا كالكاميرات الثلاث التي تتشارك في تصوير المباراة !


فإذا كنا نتحاور حول موضوع ما، وكنا ثلاثة أفراد مثلاً، فإنه من الضروري أن ينصت كل منا إلى الآخر، ويفسح لصاحبه مجالاً للتعبير عن رأيه، إيماناً بأن كل فرد يمثل كاميرا من الكاميرات الثلاث، وبالتالي هو قد يرى جانباً من جوانب الموضوع ليس في وسع الأطراف الأخرى رؤيته، ومن ثمَّ ينبغي علينا الإفادة منه، لا أن نتشاجر معه، ونحاول كتم أنفاسه، والتقليل من شأنه وتجريحه. 


مشكلتنا في العالم العربي يمكن تلخيصها في أن كل واحد منا يظن، بل هو على يقين، أنه وحده يملك الحقيقة كاملة، وبالتالي هو دومًا على صواب! ومن لا يري رأيه ضال ومضلل، ومن ثمَّ ليس فقط ينبغي أن يُحرم من حقه في التعبير عن رأيه، بل ينبغي حرمانه من حقه في الحياة!