الكفالة والتبني.. خداع أم مروءة؟!
البواعث أخت المقاصد، إلا أنهما إخوة
غير أشقاء، كما يمكن وصفهما بوجهين لعملة فكرية واحدة، ومن فئة نفس سلة العملات
الفكرية، وهما متشابهان كتوأم ملتصق، لكن من أجل توضيح البيان وإزالة أي لبس في
المعاني، يجب الفصل بينهما دون وأد أحدهما.
المعضلة أننا طالما وقعنا في خطأ
الخلط بينهما لفرط تشابههما، حتى أن البعض تعامل مع المقاصد والبواعث على أنهما مفهوم
واحد، أو كزوجين لا يجب إيقاع الطلاق بينهما.
ولا يحاول عوام البشر معرفة
الفروقات بينهما، بل الأغلبية يرادفونهما، وقلّ من يخطر بذهنه أهمية البعد فاصلة
عن ذاته للتقصي عن كنه بواعثه، كما نبتعد هنيهة عن المرآة لنستبصر أنفسنا بشكل أوضح.
المدهش أنه قد لا ننتبه لبواعثنا ولا
نلتفت لمقاصدنا وربما عشنا دهراً بلا بواعث أو مقاصد رُغم أن الأولى"البواعث"
كنه القلوب تمامًا كما النواة كنه التمور.
والبواعث تسبق المقاصد بخطوة ذاتية
داخل النفس، تماماً كأسبقية النظر للبصر،" فنَظَرَ، فبَصَرْ".
وعلى منوال العقاد الذي فرق بين
السلوى والأمل، نفرق بين البواعث والمقاصد فقد تُنسب المقاصد والبواعث لأب
واحد هو الإرادة، أما أمهما فهي الوسيلة، أخذت البواعث من جينات أبيها، قوته
وغموضه أكثر مما ورثت من وضوح أمها وقدرتها على التشكل والتلون.
بينما حظيت المقاصد من خصائص أمها
الوسيلة في التنوع، ومن حنكتها في التخفي بأشكال مستترة، أكثر مما أخذت من أبيها
المقصد، فرديته كما وضوحه.
فقد يصح تشبيه بواعثنا بالإستعارات
المكنية، فيما تنهض مقاصدنا كتصريحية، فالبواعث دوافع تحفيزية لنيل
المقاصد، فهي النواة وهي البذور لا الثمار والبقل.
هي المحركات بينما المقاصد تعد
وسائل، وإجمالاً تكون بواعثنا خفية، بينما مقاصدنا، فجلية.
فقد تقصد شابتين مجمع تجاري:
الأولى باعثها التسوق، فيما الثانية باعثها التريض، والمرأتين قصدتا المجمع ذاته،
الأولى، انتهازًا لفرصة العروض الترويجية، والأخرى للإفادة من رحابة المكان المكيف
لتسهيل التريض، إذن، فقد اختلفتا في البواعث رغم
اتفاقهن في المقاصد.
وبالمثل، تلجأ زوجتين محرومتين من
الإنجاب لكفالة أو تبني طفلاً، فتتكتم إحداهن على الصغير حقيقة أنها ليست أمه البيولوجية،
فتجعله يعيش معها الكذبة كما تغرقه معها في الخديعة، وتمثل أمام الجميع أنها تلقمه
ثديها للرضاعة أو توكل أخت أمر إرضاعه للتحايل لشرعنة الواقع. ولربما اشترته من والدته
مقابل حرمانها منه. فقد قصدت بتبنيه إشباع حاجاتها بباعث أناني حرم الوليد من
حقوقه في معرفة أصله، اقاربه وماضيه.
وبالمقابل، تقوم أخرى محرومة أيضاً
من الإنجاب بمجرد كفالته –لا تبنيه- فترعاه وتسكب عليه من مشاعر الأمومة والحنو وتستمتع
بتربيته، مع فارق جوهري هو حرصها على مصارحته بكونها ليست الأم الحقيقية. كذلك،
تولي عناية بعدم تقويض علاقته بأهله، تماماً كما فعلت " آسيا بنت مزاحم"
مع موسى، فاستحقت لقب "سيدة نساء العالمين"، وحاذته في حضرة وجود أم لرسولين
هي السيدة "يوكابد" أم هارون وموسى، وزوجة عمران حفيد لاوي بن يعقوب.
وعلى صلاح "يوكابد" ، إلا أنها لم تنل اللقب في حضرة وجود امرأة كآسيا.
فمن تكفل طفلا تتفق في بواعثها مع
من تريد تبني رضيعًا ..لكنها تختلف معها في المقاصد. حيث قصدت الثانية طريق الخديعة
والتلاعب بالأنساب والمواريث، لتعوض نقصها حتى لو لم تعنيها الأمور المادية، فيما تكتفي
من تريد الكفالة بدور الأم الثانية، فلا تخفي حقيقة أنها مجرد أم بديلة بالكفالة.
وقد طالعت يوماً فيديو سجلته فتاة متحررة
أعلنت أنها لا تعترف بالاديان، لكنها مع ذلك لا تقارع الخمر لأنها تؤمن أن الشخصية
المثيرة لا بد ان تكون قادرة على التحكم
في رغباتها أكثر اثارة من سواها من الشخصيات.
ومن ثم، فباعثها كان أن تبدو
"مثيرة " وقصدت في ذلك وسيلة لفت النظر لملكتها في التحكم في رغباتها.
نادرًا ما نفرق بين بواعثنا
ومقاصدنا، مع أن البواعث تقوم مقام "النية"
من العبادة.
ومع أن النية ثلث الدين، إلا أن بواعثنا
لا تشغل ثلث اهتمامتنا؟
فقد يستميت شابان في دراستهما،
فتتحد المقاصد في مسعاهما للإلتحاق بجامعة من جامعات القمة، رُغم اختلاف بواعثهما،
فأحدها باعثه الشغف بالبحث في المعارف والعلوم، فيما باعث زميله حيازة شهادة علمية
ترونقه وتؤهله للقفز على السلم الإجتماعي ليشعر بأفضليته على محيطه. وقد تراود هذا
الأخير أحلام يقظةً للنهارالذي سينزل فيه عميد الكلية لإستقباله بنفسه وسط تصفيق
الجميع. وربما صمم سلفاً "بطاقات العمل" المكتوب عليها لقب
"الأستاذ الدكتور عميد كلية"، لترونق رتبته العلمية.
وقد يداوم الزوج على الذهاب لمقر عمله
لتوفير حياة آمنة لعائلته وبالمقابل، ترفض قرينته الوظيفة لتبقى بمنزلها من أجل
تحقيق حياة أشد أمناً لعائلتها.
ومن هنا نتبين أن وحدة باعثهما
تحققت رغم إختلاف مقاصدهما.
وإن نتوقع أن يتبلبل البسطاء في
الخلط بين مقصد وباعث، لكن المدهش تفشي تلكم البلبلة بين بين أوساط المتعلمين وإن
كانوا أطباء. فعلى سبيل المثال هناك من يعالج مرضى الشره على أنهم مرضى سمنة، فيداوي
لمريضه العرض بإجراء جراحة طبية، فيما يستبقي على المرض الكامن وهو "الشره"
لينمو في كيان المريض؛ بل يصل الأمر ببعض خبراء التغذية بالتباهي بأنظمة غذائية تتيح
للمريض التهام وجبات تحتوي على سعرات ضخمة، ضمن نظم كيميائية ضارة لكن تخفض الوزن،
ما يشي بأن الطبيب يغذي فيروس الشره لمريضه بالقضاء على عرض السمنة مع استبقاء غول
الشره.
بقولٍ أخر، بعض خبراء التغذية يدعمون
ويضاعفون شره المريض ولا يلفتونه لضرورة علاج الشره لوجود خلل في بواعثهم الساعية لتحقيق
شهرة من خلال خفض وزن سريع.
فالطبيب النصف متعلم اصطلح مع المريض
نصف الجاهل على إزالة عرض السمنة عوضاً عن علاج داء الشره.
مثال أخر لإنسان يعود صديقه المريض
ويكون باعثه ارضاء الله، فيقصد زيارة المريض بالمستشفى، فيما يذهب إنسان آخر لذات
المقصد أو المستشفى مصطحباً زوجته لعيادة قرينة زميله، إلا أن باعثه لا يعدو أن
يكون تحميل (جميل) وتقديم سبتًا إنتظارً لأحآد.
كذلك قد يزور أحدهم زميله بدعوى
إهدائه من ذبيحته؛ فيقصد داره معلنًأ نيته الخيرية في مشاركته فضل الضحية، بينما
يكون الباعث الحقيقي هو معاينة بيت زميله الجديد لمقارنة ما قدمته الوظيفة لكليهما
من سكن. وشتان بين الباعثين على وحدة المقصد!
ومن يخلط بين مقاصده ببواعثه كمن أدى
صلاته، ناسيًا أعصر هي، ظهر، أم عشاء!
الأمر يتعلق بجديتنا وصدقنا مع من
خلقنا ومع أنفنسا لتحديد مشروعية بواعثنا وكنه مقاصدنا في دنيانا. فلا غرابة أن أول
من تُسَعر بهم جهنم يوم القيامة هم :" شهيد، قارئ قرآن ومتصدق" ،
جَمَعَهُمْ مقصد الرياء وحب السمعة بين الخلق، لا باعث إرضاء الله.
إن تحديد بواعثنا أمر ليس هينًا
لكن الأصعب هو اعترافنا بها، وإن لم نفعل، فسنكون كمن حبب إليه النفاق، فتربع بنفسه
على باكورة من خدعهم!