الإفتاء: الإسلام دين ودولة يدعو إلى التماسك بين طوائف المجتمع والبناء على الأسس المشتركة ونبذ الفتنة
أكدت دار الإفتاء المصرية، أنه لا تعارض بين
الدعوة للوحدة الوطنية وبين الشريعة الإسلامية المطهرة، والدولة في الإسلام - ولو
لم يتخذ جميع مواطنيها الإسلام دينًا لهم - فإنها تؤلف بين مواطنيها جميعًا وتوحد
صفوفهم على خير نظام لإدارة شؤون الدنيا والحياة الاجتماعية في إطار سيادة القانون.
وأضافت الدار - في فتوى لها اليوم الخميس -
أن الإسلام دينًا ودولة يدعو إلى التعايش والتماسك بين طوائف المجتمع، والبناء على
الأسس المشتركة ونبذ العنف والفتنة بين رعايا الدولة؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا
وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ
اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13].
وأوضحت أن الله سبحانه جعل التعددية سببًا
دافعًا للتعارف والتواصل لا للتصارع والتقاطع، ويقول سبحانه: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ
رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [النحل: 125]، فأمر عز وجل بدعوة الآخرين إلى سبيل الرشاد
بالكلمة الحكيمة التي تستنير بها العقول، وبالموعظة الحسنة التي تهتز لها القلوب،
وإذا تطلب الأمر الجدال لإظهار الحق فليكن بالتي هي أحسن؛ حتى لا يئول إلى التعصب
الأعمى والبغضاء، فإذا حصل البيان وظهر البرهان وعاند المخاطَب فأعرض عن قبول الحق
فحينئذٍ تنتهي مهمة تبليغ الرسالة الإلهية الأخيرة إلى البشر، وأمره إلى الله،
ولله الحجة البالغة؛ قال تعالى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ
عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾، وقال تعالى: ﴿لَا
إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: 256].
وأشارت الفتوى إلى أن الدولة في الإسلام يأمن
فيها أصحابُ الديانات السماوية على حريتهم التامة في البقاء على عقائدهم وشعائرهم،
كما أثبت ذلك التاريخُ الطويلُ لتعايشهم مع المسلمين على مر العصور في الأوطان
الإسلامية، وأنه في حالة وقوع العدوان من الآخرين على أبناء الإسلام، فالجزاء
المستحق هو المعاقبة بالمثل دون زيادة أو إفراط في الانتقام، ومع أن هذا هو العدل
إلا أن الله سبحانه رغَّب المؤمنين في الفضل، فذكر أن الصبر على المسيء خير لمن
صبر.
وأضافت الدار أن الله يضرب الله لنا مثلًا
يحتذى في الدعوة إلى البناء على المشترك المتفق عليه، فيقول سبحانه: ﴿قُلْ يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ
أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ
بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: 64]، وتطبيقًا لأسس
الاتحاد على المشتركات بصورة عملية نجد نموذجًا لذلك في قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ
أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ
لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا
آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [المائدة: 5].
وأوضحت دار الإفتاء، أن الله سبحانه وتعالى
يبين أن التعايش السلمي الذي مبناه المودة والعدالة هو الفطرة التي تنزع إليها
طبيعة المؤمن ولا تتعارض مع الدين إلا أن يترتب عليها ذلة وصغار وتبعية في الغي
والضلال، فيقول تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ
عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنفال: 61]، ويقول سبحانه:
﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ
كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا
يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: 6]، ويقول جل شأنه: ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ * لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ
فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ
وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا
يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ
مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الممتحنة: 7- 9]، فهذا كتاب الله
ينطق بالحق ويدعو إلى الخير ويؤسس لدولة العدل والمواطنة والرحمة والسلام الشامل
مع المسالمين من أتباع الديانات الأخرى من رعايا دولة الإسلام المنتمين إلى
أراضيها.
ولفتت فتوى دار الإفتاء المصرية إلى أن الفقهاء
اهتموا ببيان معنى الوطن وأقسامه؛ والوحدة الوطنية تعد رابطة سياسية واجتماعية
ينتج عنها الاستقرار والتآلف بين أهل البلد الواحد مهما تعددت دياناتهم
وانتماءاتهم العرقية، فوحدتهم عبارة عن توافقهم على التعايش والنهوض بالدولة
وتقويتها وتوحيد صف شعبها وكلمتهم في مواجهة أي خطر يهدد هُوِيَّة الدولة وسيادتها
واستقرارها، ويضاف إلى ذلك تساوي جميع من انتسبوا إلى الدولة وحاملي جنسيتها في
حفظ ضرورياتهم ونَيل احتياجاتهم ورفاهيتهم المعيشية على أساس من العدالة، فهم سواء
في حقوقهم وواجباتهم تجاه الوطن ومصالحه وقوانينه بلا تفرقة على أساس الانتماء
الديني أو العرقي ونحوه، أما ما يتعلق بالأديان وبالمؤسسات الدينية من قوانين
تنظيمية فلكل طائفة عقائدها وشرائعها التي تتمسك بها دون منازعة من الدولة أو
إجبار على مخالفة شيء منها.
وأكدت الدار، أن المجتمع المسلم لم يكن يومًا
قاصرًا على المسلمين دون غيرهم، فمنذ فجر الإسلام والمجتمع يختلط فيه المسلمون
بغيرهم؛ وقد روى أهل السير أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم - كتب كتابًا بين
المهاجرين والأنصار، جاء فيه: «إن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم،
وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتِغ -أي: يهلك -
إلا نفسه وأهل بيته، وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني
الحارث مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف، وإن
ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف،
وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتِغ إلا
نفسه وأهل بيته، وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم، وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود
بني عوف، وإن البر دون الإثم، وإن موالي ثعلبة كأنفسهم، وإن بطانة يهود كأنفسهم،
وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم».
وأوضحت الفتوى أن الدعوة إلى التمسك بالوحدة
الوطنية لا تقتضي بالضرورة معاداة الدين الإسلامي أو مخالفة أحكامه أو فصله عن
كيان الدولة أو تهميش دوره في الحياة؛ أو إزالة الفروقات والتمايز بين العقائد
والأديان؛ بل المقصود بها هو الاتحاد لإعمار الأرض، والتعاون في المتفق عليه
انطلاقًا من القيم العليا المشتركة بين الأديان المختلفة.