أمينة السعيد.. الابنة الوفية للتنوير المغدور
تلميذة هدى شعراوي، ابنة التنوير
المغدور، يعرفها أغلبنا بأنها الأولى دائما: من أوُليات من دخلن الجامعة: أول دفعة
فتيات 1931 دفعة لويس عوض ورشاد رشدي بكلية الآداب التي كان عميدها د. طه حسين،
وتعتبر أول فتاة تعمل بالصحافة في مصر (لأنها احترفتها أثناء دراستها بالكلية)،
نعرفها أيضًا كأول رئيسة تحرير لمجلة مطبوعة كبيرة وعريقة هي مجلة
"حواء"، ويعرفها أغلب العرب أيضا كواحدة من أوائل من تبنين قضايا المرأة
ودافعن عن حقها في الحرية وفي المساواة بالرجل، وظلت تتحمل بشجاعة نتائج قناعاتها ومواقفها
حتى نهاية حياتها.
كانت أمينة ابنة للتنويري الشهير بمدينة
المنصورة الطبيب. أحمد سعيد الذي كان من المؤمنين بضرورة تعليم المرأة حتى أرقى
مراحل التعليم، لذا اهتم بتعليم جميع بناته، كما كان مؤثرا في أفكارهن وتطلعهن
لغدٍ أفضل، وبالأخص ابنته: أمينة، التي تزوجت من تنويري معروف هو الدكتور عبد الله
زين العابدين عام 1937 فاستمرت حياتها وفق النهج النضالي الذي اختارته من أجل
التنوير وتحرير المرأة.
ولكن، لا يمكنك الحديث عن أمينة
السعيد كمقاتلة شجاعة وقوية ضد التخلف وضد التمييز، قبل أن تذكرها كإنسانة عاشقة
للحياة، مرحة، متفائلة، جسورة، عشقت الحياة وأحبت التعبير بالكلمة، فاجترحت بشجاعة
فن التمثيل وأدت أدوارا متنوعة وهي طالبة، أحدها في مسرحية المرأة الحديدية لتوفيق
الحكيم، وغيرها، وحققت نجاحا كبيرا، كما عملت بالإذاعة المصرية لكنها آثرت طريق
الكلمة المكتوبة (صحافة أولا ثم الأدب متأخرأ عنها)، حيث عملت وهي طالبة بالعديد
من المجلات منها "الأمل، كوكب الشرق، آخر ساعة، والمصور، وبعد تخرجها عملت
بمجلة "الهلال" ومنها للعمل لفترة بالإذاعة ثم عادت إلى مؤسسة "دار
الهلال". تحكي لأحد البرامج التليفزيونية وهو برنامج "كاتب وقصة"
من تقديم السيدة. سميرة الكيلاني (محفوظا لحسن الحظ على يوتيوب)، وأمينة السعيد بالمناسبة
متحدثة ذكية ولماحة ومرحة بحق، تحكي أن إلحاح والدتها عليها جعلها تقف بمبنى
الإذاعة "على أيديهم: الموظفين"، حتى يحرقوا تسجيلات مسلسلاتها كاملة
"لأن والدتها اعتبرت قيامها بالتمثيل عارًا، رغم أنها كانت تحب التمثيل جدا، تقول
إنها ندمت على هذا ندما شديدا، لا تخجل من الاعتراف بالخطأ، بل تؤكد تعلمها من
أخطائها، يبدو لي هذا في الغالب لأنها اعتادت أن تعيش متسقة مع نفسها ومع أفكارها
مائة بالمائة (صاحبة قول واحد، واضح، مباشر، متحرر، شجاع.. مهما يكن مكلفًا).
لفتني في كتب ابنة التنوير المغدور عدة خصائص:
أولاها: اختيارها للغة والأسلوب: لأنها مناضلة من أجل التنوير، فقد حرصت على الكتابة المباشرة الواضحة،
وقد صقلتها بسلاسة الأسلوب والقدرة على التدفق التلقائي، ما أهلها ليكون لها جمهور
قراء عريض، ولكي يصل قلمها المتميز لهذا الجمهور، فقد ثبتت لنفسها مقالا أسبوعيا
في مجلة "حواء" ضم أهم الإشكاليات التي تحتاج تصديًا واعيًا وهادئا بنفس
الوقت. ولننظر فقط إلى العناوين المهمة لكتاباتها وصياغتها الجذابة:
_نريد ثورة نسائية
_هدى شعراوي التقدمية المحافظة
_لا برلمان بدون نساء
_ليس في العمل أنوثة أو رجولة
_حاجتنا الى تعليم نسائي خاص
إضافة إلى أنها لم تنسَ الهموم
اليومية للمواطنين البسطاء:
"خففوا الضرائب".
وعندما كتبت عن قوانين الأسرة كان
تناولها بسيطا، واضحا، حاسما، كهذا:
حول قوانين الأسرة بين المؤدين
والمعارضين: لو كانت دعوتنا مناهضة للدين لما دعا إليها الإمام محمد عبده ومن بعده
رجال كالمراغى والمدنى.
أما الخاصية
الثانية بكتاباتها: في اختيارها لما تقوم بترجمته:
فقد ترجمت كتاب معجزة الحب: للمؤلف Barry Neil Kaufman: عن مرض التوحد، ومعاناة المصاب
وعائلته معًا وعن عدم وجود علاج له سوى بمعجزة وحيدة هي العلاج بالحب، لتؤكد حسها
الإنساني والتربوي الملتزم.
كما ترجمت "نساء صغيرات" للويزا
ماي ألكوت في مجلدين: وهي تصور معاناة النساء في ظروف الحرب وعظمتهن بنفس الوقت،
فهؤلاء الفتيات الصغيرات عمرا استطعن، مساعدة الآخرين والقيام بمهام ملحة وكبيرة
ومنقذة، من أجل إنقاذ الآخرين، استطعن أن يتخلين عن الراحة والأحلام الوردية التي
تعايشها نظيراتهن، ولهذا حققن، رغم الصعوبات، ما كان عليهن القيام به من واجبات
جسيمة فرضتها عليهن الحرب وغياب الرجال.
ثالث مزاياها الكتابية برأيي أنها اختارت
أن تكتب عن شخصيات عالمية مائزة بشكل ما، تكتب حيوات رموز التحديث في الأدب
العالمي "حسب زمنهم" مثل كتابها "من وحي العزلة" عن تشارلز
برونتي وأخواتها: حياتهم وآثارهم الأدبية، واتخذت مقتبسا كمقدمة عبارة ر. ويلسون:
لبعض النساء إرادة قوية تزيح الجبال، وهذه القوة التي أخرجت آدم من الجنة؛ وتناولت
بالكتاب عزلتهم وحرمانهم من الرعاية والسعادة ثم نداء العبقرية الذي جعلهم يقدمون
دُررا للأدب العالمي.
ثم كتابها (بايرون) حياة حافلة لشاعر
كبير، كان نصيرا لحرية الشعوب، اختار التفكير الحر المطلق حتى وإن خالف المسلمات، كما
عاش حياة معقدة وقاسية فيها الكثير من العلاقات الملتبسة، أما موهبته الشعرية فكانت
تقوى ويقوى معها اختلافه وأعداؤه ومحبو شعره.. (لا آسف على ما فعلت، قدر أسفي على
ما كنت أستطيع أن أفعله). ولا يفوت أمينة السعيد أن تستعرض من خلال حياته وزمنه
نظرة المجتمع القاسية للمرأة.
أما رابع
وأهم خواصها الكتابية: أنها في مؤلفاتها الأدبية: القصة والرواية: لم تكتفِ
بكشف الأمور العامة في تناولها لظاهرة التخلف الاجتماعي وظلم المرأة، بل أراها
تنحو نحو خيار آخر يميزها، إذ تركز على الكتابات
النفسية ذات الخلفية الاجتماعية موضحة كيف تتسبب الضغوط الاجتماعية واستبدادية
المجتمع في شروخ الذات المتدرجة، وصولا
إلى انشطارها وتعدديتها المرضية اللاواعية.
في كتابها القصصي (ديبز الطفل الذي
فقد نفسه) تكتب (إن العبرة الكبرى في نجاح العلاج تتوقف على استعداد الأهل
للاعتراف بخطئهم وقبولهم مبدأ الرضوخ لأوامر الطبيب فيما يختص بعلاج أنفسهم مثل
علاج أبنائهم وبغير ذلك لا نجاة للأبناء). وفي روايتها (ثلاثة وجوه لحواء): بأسلوبها
المباشر والسلس بآن، تجعلك تتابع القراءة دون ملل، لحكاية مريضة بأحد اضطرابات
الشخصية الناتج عن الظلم المجتمعي، وتظهر من خلال السرد أنه تم التعرف على المرض
علميا" حيث كان يُعرف سابقا" بالتلبس بالشياطين، وفي "نساء
عاريات" تعرض بعض الاضطرابات النفسية لبعض السيدات من عيادات الأطباء
النفسيين والتي تكشف عن مشكلات في التربية منذ الصغر وعن معاملات الآباء أو الأمهات
المجحفة لبناتهن التي تترسب في وجدان الطفلة بطريقة بشعة.
كانت أمينة السعيد، من أبرز الأصوات
النسائية المُطالبة بتحرير المرأة بعد هدى شعراوي و سيزا نبراوي ودرية شفيق، وكانت
من المطالبات بإلغاء المحاكم الشرعية، وممن طالبن بتعديل قانون الأحوال الشخصية،
ومنح المرأة المزيد من الحقوق السياسية، ولم تعبأ باتهامات الظلاميين لها بأنها تُسخِر
مجلة "حواء" للهجوم على الإسلام 2003، أو باتهامها بأنها داعية التحلل
2008. لم تهادن ولم تضعف أمام أي تهديد.
أمينة السعيد التي سافرت مع هدى
شعراوي إلى العديد من المؤتمرات العالمية، منحها جمال عبد الناصر، وسام الاستحقاق
من الدرجة الأولى 1963، وأرسلها في بعثة مع د. عبد القادر حاتم للولايات المتحدة
لشرح موقف مصر في عدد من المواقف السياسية، وفي 1979 حصلت على جائزة الكوكب الذهبي
الدولية تقديراً لجهودها وشخصيتها، ومنحها أنور السادات وسام الجمهورية في يوم
الصحفي 1981، كما منحها المخلوع "مبارك" وسام الثقافة والآداب 1992؛ واصلت
نضالها من أجل التنوير والمساواة بين الجنسين، حتى رحيلها فى 13 أغسطس 1995.