رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


سميرة موسى.. هذه المُلهمة

25-12-2020 | 20:58


توقفت في الفترة الأخيرة عن تصفح الفيسبوك وسط تصاعد الأصوات التي تعلو كل فترة في مهاجمة النساء، والحط من قدرهن بحجج واهية يتم تعليقها على "شماعة الدين" أحيانا و"شماعة المطبخ والحمام" مع الاستشهاد بآيات وأحاديث مقطوعة من سياقها، وتجاهل ذكر الإنجازات التي قدمتها المرأة خاصة المصرية لبلادها ووسط حدة الاشتباك والمعارك الكلامية في التعليقات بين الرافضين التعرف على تاريخ مصر، والحاسدين والشامتين، قررت التوقف عن الجدل والعودة لتصفح أوراق التاريخ، فنحن اليوم في أمس الحاجة لدعم المرأة والوقوف إلى جانبها والحفاظ على مكتسباتها، ووضع التشريعات التي تنصفها وقطع كل يد تمتد لإفساد عقلها وانتزاع مكانتها وعلمها وحريتها، وهو ما وضعه الرئيس عبدالفتاح السيسي نصب عينيه ويصرّ عليه منذ توليه رئاسة مصر.


وسط هذا المشهد العبثي المحبط كان عليَّ أن أنسحب، واستدعي في مخيلتي الدكتورة سميرة موسى عالمة الذرة الشهيرة التي تلقت كامل الدعم من مجتمعها المصري، وتخيلتُ لو كانت سميرة على قيد الحياة، أو قدّر لها أن تولد في هذا الزمن ولديها حساب على فيسبوك كيف كانت ستتصرف؟

ما الذي كانت ستواجهه هذه الشابة التي ولدت في مطلع القرن العشرين غير التركيز على تنورتها القصيرة التي كانت تحيكها لنفسها، واتهامها بالفجور لأنها لا ترتدي الحجاب وتجيد العزف على العود بل وكتابة النوتة الموسيقية أيضًا، وستمتد الشتائم إلى والدها موسى علي أبو سويلم الذي ترك ابنته تسافر وحدها خارج القطر المصري دون وصايته وإشرافه على صلاتها وصومها ومراقبة سلوكها للتأكد من عفتها!

دعونا نتخيل أن سميرة منشغلة بأبحاثها أو تقرأ كتابا اختارته من مكتبتها الضخمة وغير متفرغة للرد على منتقديها، وفجأة يظهر تنبيهًا لوجود تعليق على صفحتها على فيسبوك من شخص ما يقوم بتعنيفها نفسيا، ويحقّر من طموحها وإنجازاتها العلمية ويتنمر بها لأنها أصبحت في سن الخامسة والثلاثين ولم تتزوج!

هذه هي المعارك التي ستواجهها سميرة، لن يهتم أحد بأبحاثها وأهميتها، ولا بالسنوات التي أفنتها في حلم من أجل بلادها، ولن يحصد والدها المستنير غير الانتقاد والعتاب لتخليه عن بيته وقريته في زفتى والهجرة إلى القاهرة ليدعم ويحقق أحلام ابنته العبقرية في التعليم والتحاقها بالمدرسة وينشر لها كتابا في الجبر وعمرها 16 سنة، سمته "الجبر الحديث" والذي أهدته إلى أستاذها الفاضل محمد أفندي حلمي، وطبع منه والدها 300 نسخة على حسابه الخاص.


الحقيقة أن سميرة كانت تخوض في زمانها معارك أشرس بكثير من مشاكلنا المتأخرة الآن، ربما الزمن يتحرك بالعكس ونحن الآن في زمن ماض، فلولا الأب ما كانت سميرة موسى عالمة ذرة تعرف أكثر مما يجب، وتدفع حياتها ثمنا لعلمها وتختفي أبحاثها لأن أعدائها الذين نجحوا في اغتيالها أكثر أهمية وخطورة، من بعض شباب اليوم الذين لم يتثقفوا ولم يتعلموا، وانجرفوا وراء شعارات مضللة وغير حقيقية عن الإسلام والفضيلة، ولا يرون من المرأة سوى وظائفها الحيوية في الإنجاب ثم يقومون بطمس معالمها ووأدها بالأحجبة والجهل. 

سميرة موسى اسم يقترن بالقوة، بالأسرار والغموض، والحرية والثورة، هذه الفتاة قضيتها حياة أو موت، حلمها هو مصر، فمن حسن طالعها أنها ولدت في مناخ ثورة 1919 الليبرالية التي غيرت وجه الحياة في مصر والتي لم تأت بالبرلمان والدستور والأحزاب وحرية الصحافة فقط وإنما جاءت بأفكار مساواة المرأة بالرجل، وحقها في الاختيار والتعليم أيضا.

فقد جاءت الثورة بدستور 1923 الذي نص لأول مرة على أن التعليم الأولي إلزاما للجنسين دون تفرقة وبعد عامين، أي في عام 1925 عرفت قريتها سنبو الكبرى أول مدرسة ابتدائية، وهو أيضا العام الذي فتحت فيه مصر الجامعة.

 كانت سميرة هي أول من دخلت المدرسة، وهي أيضًا أول عالمة ذرة مصرية، وأول معيدة في كلية العلوم بجامعة فؤاد الأول التي أصبحت جامعة القاهرة فيما بعد.

لم تدخل سميرة في صراعات مع مجتمعها ووالدها لتحقق ذاتها، لقد كانت محظوظة منذ مجيئها إلى الدنيا، فوالدها الذي يعشق الشعر لم يبخل بجهد أو تفاني، لقد ترك خلفه كل شيء وعندما رحل إلى القاهرة اشترى فندقا في منطقة الحسين ليدر عليه ربحا ويستطيع الإنفاق على أسرته وابنته، إلى جانب والدها، اهتمت بها الناشطة النسوية نبوية موسى وألحقتها بمدرستها الخاصة، وأنشأت لها معملا خاصا، وبعدما تخرجت والتحقت بكلية العلوم، أولاها العالم الكبير علي مصطفى مشرفة عناية خاصة بعدما لاحظ نبوغها فتفوقت وحصلت على بكالريوس العلوم وكانت الأولى على دفعتها، ودافع مشرفة عن تعيينها معيدة بالكلية بشدة، وتجاهل احتجاجات الأساتذة الإنجليز ضد تعيينها لأنها امرأة، فواصلت مشوارها وحصلت على الماجستير ثم سافرت إلى لندن لتحصل على الدكتوراة في زمن قياسي لا يتعدى 17 شهرا، وأثناء تواجدها في بريطانيا توصلت إلى معادلة مهمة تُمكّن من تفتيت المعادن الرخيصة مثل النحاس، ومن ثم صناعة القنبلة الذرية وهو الأمر الذي أنذر بنهايتها المأساوية فيما بعد.

كانت المصرية المستنيرة كأي شابة طموحة لديها حلم، ليس هناك من يقف في طريقها، تتلقى الدعم من كل المحيطين بها، فلا حدود للأحلام لن تتوقف، خاصة وأن هذه الأحلام دافعها هو السلام، كراهية الحرب والموت، كانت تؤمن بأن زيادة ملكية السلاح النووي يسهم في تحقيق السلام، لأن أي دولة تتبني فكرة السلام لابد وأن تتحدث من موقف قوة. لقد تأثرت بويلات الحرب وتجارب القنبلة الذرية التي دمّرت هيروشيما وناجازاكي في عام 1945، وانتبهت لسعي إسرائيل بامتلاك أسلحة الدمار الشامل وسعيها للانفراد بالتسلّح النووي في الشرق الأوسط، فقامت بتأسيس هيئة الطاقة الذرية بعد ثلاثة أشهر فقط من إعلان الدولة الإسرائيلية عام 1948. 

ودعت باستمرار للخطورة إهمال التسلح النووي، وكانت حريصة على مجاراة هذا المد العلمي المتنامي. كما نظمت مؤتمر الذرة من أجل السلام الذي استضافته كلية العلوم، وشارك فيه عدد كبير من علماء العالم.

بالإضافة إلى الجانب السياسي كانت تحلم بأن تسهم تجاربها في الذرة لدخول المجال الطبي وعلاج مرضى السرطان، ولكن الحلم لم يكتمل إذ تلقت الشابة الثلاثينية دعوة للسفر إلى الولايات المتحدة في عام 1952، لإجراء أبحاث في معامل جامعة سانت لويس بولاية ميسوري الأمريكية، وقبل عودتها بأيام استجابت لدعوة لزيارة معامل نووية في ضواحي كاليفورنيا في 5 أغسطس، وفي طريق كاليفورنيا الوعر المرتفع اصطدمت سيارتها بقوة مع سيارة أخرى، وسقطت في وادٍ عميق، وقد تمكّن سائق السيارة من القفز من السيارة ونجا بحياته، واختفى ولم يظهرولا يعرفه أحد، وتبين بعد ذلك أن هذا السائق كان يستخدم اسما مستعارا، وأن إدارة المعامل النووية لم ترسل أي سائقين لاصطحابها.

لقد تلقت سميرة طعنة الغدر والخيانة، ورحلت عن الحياة واختفت أبحاثها إلى الأبد، وظل سر اغتيالها مشوشاً حتى عام 2012، حينما اعترفت ريتا ديفيد توماس حفيدة الفنانة اليهودية راشيل إبراهام ليفى المعروفة في السينما المصرية باسم راقية إبراهيم فى أحد التصريحات الصحفية، إلى أنها عثرت على يوميات جدتها مخبأة في مكتبة منزلها بكاليفورنيا، وأكدت أن جدتها كتبت في يومياتها عن خيانتها لسميرة موسى ومن ضمن اعترافاتها أنها استطاعت تصوير شقة سميرة وسرقة المفتاح ونقشه على "صابونة" وأعطته لعميل من الموساد فى مصر، وبعد أسبوع قامت راقية وسميرة بالذهاب إلى سهرة في دار الأوبرا مما هيأ للموساد دخول الشقة وتصوير أبحاثها ومعملها الخاص، ثم تعاونت مع الموساد لتعقب وتصفية سميرة موسى في كاليفورنيا.