رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


بهيجة حافظ.. امرأة افتتنت بها الموسيقى والسينما

25-12-2020 | 21:10


قوتها، ثورتها، مثابرتها، هي المثل لأخريات قطفن من تجربتها ما يكفي كي يساعدهن في اجتياز المسافة بين الحُلم والواقع، كانت بهيجة حافظ (1908 -  1983) واحدة في زُمرة عظيمات ورائدات السينما اللاتي خُضن التجربة بشجاعة، وواجهن واقعًا اجتماعيًا وثقافيًا صعبًا: عزيزة أمير، فاطمة رشدي، آسيا، نساء هيأن حياتهن كلها للسينما، وإن تفردت بهيجة حافظ بكونها المرأة الأولى في التأليف الموسيقي عمومًا، والموسيقى التصويرية للأفلام خصوصًا.

حين دخلت الموسيقى التصويرية إلى بلاتوهات السينما، كانت مغامرة فنية وتقنية جديدة، على قدر جرأة التوغل في عالم وُلد خرافيًا وهو يفلت من قبضة الخوف أو الوقوف عند متاريس الثوابت الاجتماعية، فما بالكم لو كانت هذه الخُطوة الجريئة صنعتها امرأة؛ هي فراشة حرة ووفية لحريتها وتبصرها الفني حتى آخر مدى، بهيجة حافظ أول مؤلفة موسيقية مصرية وأول من قام بتأليف الموسيقى التصويرية للأفلام فى السينما المصرية، سواء من النساء أو الرجال، دلفت إلى هذا العالم من بوابة المخرج محمد كريم وفيلمه الصامت "زينب" (1930)، ممثلة وبطلة للفيلم ومؤلفة موسيقية، هي الأولى والرائدة بمعزوفاتها الاثنتي عشر التي تخللت السياق الدرامي، لينتبه صُناع السينما إلى ضرورة حضور الموسيقى في الصناعة، ثم ليخطو على نهجها لاحقًا موسيقيون صارت الأفلام مأهولة بأعمالهم التي منحت للسينما صوتًا يسكن الذاكرة والوجدان.

أمران جميلان يمكن ملاحظتهما لمن يحاول الاقتراب من شخصية بهيجة حافظ، أولهما أنها قوية الإرادة تقف على أرض نفسية صُلبة، وثانيهما أنها تجنح في صورها المتعددة نحو الطلوع من عمق الحُلم والرغبة الدفينة إلى رحاب الدنيا، هذان اجتمعا فيها ومنحاها من التجلي الإنساني والفني: الموهبة والمعافرة في زمن كان على أُهبَة التغيير، في البداية كانت ثورة 1919، بعد ميلاد بهيجة بـ 11 عامًا تقريباً، وما أحدثته من زلزال التمرد في المجتمع المصري والذي انسحب بدوره إلى المرأة المصرية، فكان لها حاضر مغاير، ينقلها من زمن نحو آخر، دون التورط في هواجس شخصية أو عراقيل اجتماعية متعبة وغير مُجدية، من هذه الزاوية شاركت نساء مصر في المظاهرات الشعبية وطالبن بالحرية والاستقلال، فوصفهن مثلاً شاعر النيل حافظ إبراهيم:"خَرَجَ الغوانى يحتججـن ورحت أرقب جمعهن.. فإذا بهن اتخذن من سود الثياب شعارهن.. وأخذن يجتزن الطريقَ، ودار سعد قصدهن.. يمشين فى كنف الوقار وقد أبَنَّ شعورهن.. وإذا بجيش مقبل والخيلُ مطلقة الأعِنّة.. وإذا الجنود سيوفُها قد صُوّبتْ لنحورهن".

إذن بهيجة حافظ، الطفلة حينذاك، هي ابنة هذه الثورة وابنة الإسكندرية، مدينتها المفتوحة على البحر وثقافة التعددية والاحتواء والانفتاح على الآخر، وهي أيضاَ ابنة أبيها إسماعيل باشا حافظ، ناظر الخاصة السلطانية في عهد السلطان حسين كامل، عاشق الموسيقى الهاوي عزفًا وتأليفًا، كان يعزف العود والقانون والبيانو والرِق، كما أنها ابنة أمها عازفة "الكامنجة والفيولنسيل" في منزل العائلة الأرستقراطية العامر بالأنغام والحفلات الموسيقية، هكذا لم يكن هناك ما يمنع بهيجة الصغيرة من التبصر والتأمل والإصغاء إلى هذا المزج المثير بين السياسة والموسيقى، شرقية وغربية في مدينتها الحرة واقعًا وحقيقة بلا أي مجاز، كذلك في منزلها الذي كان يجزل بالموسيقى والموسيقيين، منهم كان المايسترو الإيطالي جيوفاني بورجيزي، قائد الفرقة الموسيقية بالإسكندرية الذي قام بتدريس قواعد الموسيقى الغربية لبهيجة الصغيرة الموهوبة، قالت بهيجة حافظ إنها بدأت تعزف على البيانو وهي في سن الرابعة، كما ألّفت أول مقطوعة موسيقية وهي في التاسعة، أعجب بها والداها وأطلقا عليها "بهيجة" كما اسم ابنتهما، تبعتها مقطوعتان أخريان، هما: "من وحي الشرق"، "معلهشي"، وبينما تلقت تعليمها ما بين مدرستي "الفرنسيسكان" الإيطالية و"المير دي ديو" الفرنسية بالإسكندرية، فإنها واصلت شغفها بالموسيقى، لاسيما بعد طلاقها من زوجها الأول التاجر الإيراني الكاره للفن والموسيقى، إذ حصلت على دبلوم في الموسيقى من باريس في يناير 1930، وبعد سنة واحدة سجلت 18 قطعة موسيقية كانت تذاع عبر محطات الإذاعة الفرنسية، ما كان له تأثيره الذي لا يمكن التغاضي عنه على شخصيتها الفنية، حيث صنع منها امرأة تفيض بالقوة والوعي الحر، في ذلك الوقت المبكر من القرن العشرين، عندما كانت النساء لا يزلن يتحسسن طريقهن نحو حقوقهن في التعليم والخروج للحياة العامة.

   يبدو الحديث هنا عن بهيجة حافظ، كنوع من التذكير برائدة كانت واحدة من "سلطانات الشاشة"، كما وصفهن عنوان كتاب المؤلفة اللبنانية منى غندور عن رائدات  السينما المصرية: عزيزة أمير، اَسيا داغر، ماري كويني، أمينة محمد.. بهيجة لم تكن الأولى في مجال التأليف الموسيقي فقط، وإنما تعتبر أيضاً أول فنانة تنشئ شركة إنتاج سينمائي وتنقلت في الصناعة بين مهن مختلفة، من موسيقية إلى ممثلة وكاتبة ومخرجة ومونتيرة ومصممة أزياء، لتصعد بدون هدنة على درب طموحاتها، ما يجعلنا نتطلع إليها كشخصية مدهشة تستحق نظرة إعجاب طويلة، دونما أي جنوح لجلد الذات وتذكيرنا بالخواء الفني في أقل توصيف لما يعاني منه مجتمعنا إلى حد كبير، في ظل ظروفه الحالية والعاتية الكبر والتوسع، فليس المطلوب مننا الشعور بالذنب وقلة الحيلة، وإنما التواصل مع سيرة امرأة استطاعت أن تدبر تدابيرها، لتحقق ما أرادته دون الرضوخ لأي ضغوط، حتى لو كانت الحسرة والوجع من التخلي العائلي عنها لأنها ابنة العائلة الكبيرة التي احترفت الفن وعملت به، فبدا كما لو كان الفن، وتحديدًا الموسيقى التي نشأت عليها في منزلهم، مجرد هواية لطيفة أو جزء من ديكور التباهي داخل القصور الكبيرة والبيوت الفخيمة.

 صورة لها وهي ترتدي البرقع المصري مصحوبة بجملة: "أول مؤلفة موسيقية مصرية" على غلاف مجلة "المستقبل" التي كان يصدرها إسماعيل وهبي شقيق يوسف وهبي، لفتت نظر المخرج محمد كريم وكانت إشارتها الأولى على درب السينما ممثلة ومؤلفة موسيقية، اختارها "كريم" وهي التي لم تختبر التمثيل من قبل هواية، فكيف سيكون الأمر احترافيًا، ومع فيلم صامت يحتاج إعدادًا هائلاً لممثل حتى يتسنى له التعبير حركيًا وانفعاليًا دون التفوه بكلمة واحدة، لذا كان هذا الفيلم منعطفاً مهماً لبهيجة حافظ الممثلة وكذا الموسيقية التي صنعت كونشيرتو غربي/ شرقي في موسيقى الفيلم برهافة من يعرف أسرار الآلات الموسيقية ويحاول أن يصيغ دراما الفيلم من خلال نغماتها، فالمقطوعات التي ألفتها واستعان بها محمد كريم تعكس ولعاً خاصاً بالإيقاعات، وارتباطاً وثيقاً بنص الرواية وأحداثها كوحدة متماسكة أفضت إلى اكتمال العمل حسب مقوماته الطموحة في رومانسيتها، موسيقى تُحيط بالممثلين وأماكن التصوير الداخلية والخارجية، يشعر بها المتفرج، يشعر بما لا يسمعه من صوت الممثلين، سواء كانت عالية أو منخفضة، تمنح سامعها إحساساً قوياً بالمكان وبالتمثيل وتفتح أبواب الخيال على مصراعيها، خصوصاً مع التضافر بينها وبين الأحداث والشخصيات.

  من هنا كان مفتاح بهيجة حافظ إلى التنوع انسجاماً مع هاجسها الفني المتمثل بجعل الشاشة الكبيرة تنطق، فقامت بإنشاء شركة "فنار فيلم" مع زوجها محمود حمدي، وإنتاج باكورة أعمالها الفيلم الصامت "الضحايا" ( 1932)، شاركت ببطولته أمام زكي رستم وعطا الله ميخائيل، من إخراج إبراهيم لاما، ثم أعادته ناطقاّ في العام 1935، وغنت فيه لأول مرة ليلى مراد مع أحمد عبد القادر والراقصة حورية محمد، وضع محمد القصبجي الموسيقى التصويرية للفيلم، ثم أضافت بهيجة حافظ في النسخة الناطقة مشاهد جديدة فيها رقصات وأغنيات أخرجتها بنفسها، كما أنتجت فيلمها الثاني "الاتهام" (1934)، أول فيلم ناطق تظهر فيه بهيجة كممثلة مع عزيز فهمي وزينب صدقي وزكي رستم من إخراج الإيطالي ماريو فولبي، ووضعت أيضاً الموسيقى التصويرية له، إضافة لقيامها بدور البطولة، كان أفضل ظهور لها في هذا الفيلم وهي تعزف على البيانو وتغني، كما كتب أحد النقاد عنها واصفًا إياها ومؤكداً على حياة ملأت وجهها وزادته جمالاً بمسحة الحزن والألم، مضيفاً:" ولا عجب فالموسيقى أحسن ما تتقنه".

عن فيلمها "ليلى بنت الصحراء"(1937)، يقول صلاح مرعي كما ورد في كتاب "سلطانات الشاشة":"بهيجة بحسها الدرامي نجحت في تقطيع مشهد العُرس حين أضافت إليه موسيقى من نوع المارش الجنائزي، حيث تبدو العروس وكأنها تُساق إلى قبرها لا إلى حفل زفافها، ثم تكتمل المتعة البصرية من خلال مشاهد الراقصات في حفل الزفاف. 

كانت بهيجة تصر على عظمة موسيقاها دائما، بحيث تظل الموسيقى باستمرار لها جلالها وشدتها العالية، فطغت الموسيقى التصويرية على الصورة، ولكنها عرفت كيف توظف الأغاني توظيفاً راقياً، كان الفيلم الإنتاج الأضخم لها، ويعتبر علامة مهمة في مشوارها السينمائي، وضعت له كذلك موسيقاه التصويرية إضافة إلى مشاركتها في التمثيل، لكن تمت مصادرته، بعد مُضي عام على عرضه الأول، حيث احتجت الحكومة الإيرانية معتبرة إياه فيلمًا يسيء إلى تاريخ كسرى أنوشروان ملك الفرس القديم، لذلك صدر هذا القرار مجاملة للحكومة الإيرانية بمناسبة المصاهرة الملكية التي تمت بعد ذلك بقليل، بزواج شاه إيران رضا بهلوي من أخت فاروق ملك مصر.. هذه المصادرة تسببت بخسائر كبيرة وتوقفت منتجته عن الإنتاج سنوات حتى رُفع الحظر عن الفيلم عقب الطلاق بين الشاه وشقيقة الملك، ثم أنتجت ومثلت ووضعت موسيقى فيلم "زهرة السوق" (1947) إخراج حسين فوزي الذي لم يحالفه الحظ، فتوقفت عن الإنتاج السينمائي تماماً، بل إنها لم تظهر مرة أخرى في السينما إلا في دور قصير من فيلم "القاهرة 30" (1968)، عندما اختارها المخرج صلاح أبو سيف لتقوم بدور الأميرة السابقة شويكار.

   كالتقاء الحُلم باليقظة، كانت الموسيقى وبهيجة حافظ التي انحازت أكثر إلى عالمها الموسيقي في سنواتها الأخيرة، فأنشأت عام 1937 أول نقابة عمالية للموسيقيين استمرت حتى عام 1954، ثم حولت منزلها إلى صالون ثقافي كانت تعزف فيه على البيانو وتقدم فيه المواهب الجديدة من أدباء وشعراء وموسيقيين، كما أنشأت فصولاً لمحو الأمية وفصولاً لتعليم اللغتين الفرنسية والإنجليزية وفصولاً لدراسة فن التمثيل ودراسة الموسيقى الشرقية والغربية وعلم الاجتماع والإتيكيت والرقص الحديث، ثم رحلت في صمت، كان هو موسيقاها لرحيل سيدة كانت أشبه بالخيال، بدأت حياتها بالتأليف الموسيقي، وكانت أول مصرية تُقبل عضواً في جمعية المؤلفين بباريس، وتحصل على حق الأداء العلني لمؤلفاتها الموسيقية، كما أنها تركت لدى الإذاعة المصرية 1500 مقطوعة موسيقية من تأليفها وتلحينها وهي مصنفة في الإذاعة ضمن فئة "أ"،وسجلت كذلك للإذاعة 12 مقطوعة موسيقية شرقية وغربية: "سيريناد، ليالي الشرق، عطر الشرق، فجر التحرير".