رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


خضرة محمد خضر.. سيدة الفن الشعبي

25-12-2020 | 21:37


قصص الحب الأسطورية لا تقتصر على الغرام والرغبة فى الزواج ولم شمل الحبيبين فقط،ولكن هناك قصصا خلقت لتقف فى وجه الأنماط المألوفة للحياة وتترك لنا ثمارا نحيا عليها لقرون قادمة، منها قصة تلك المرأة التى كانت عفويتها وزهدها فى الشهرة ودأبها على العمل الجاد فى صمت أهم ما ميزها وجعل رجلا مثل زكريا الحجاوى يقع فى غرامها ويتزوجها ويغير مجرى حياته بالكامل من أجلها، بل وربما غير مجرى حياتنا أيضا ووضع على طاولتنا التى كانت مليئة بالمأكولات الغربية ما هو أنسب لنا من خير أرضنا الطيبة

 امرأة هى ليست فقط الأشهر فى عالم الفن الشعبى، ولكنها سبب من أهم أسباب انتشار هذا اللون على المستوى الإعلامى الذى أتاح لأكبر شريحة ممكنة من العالم العربى، بل والغربى، التعرف عليه بعد أن كان مقصورا على الموالد والمناسبات الشعبية.

فى البداية يجب أن أنوه أن الفن الشعبى، أو الفن التلقائى، ليس مجرد فن للترفيه والتسلية، بل أهم عنصر من عناصر الاحتفاظ بالتاريخ ونقله من عصر لعصر ومن بلد لبلد، تخيل لو لم ينقل لنا هؤلاء البسطاء المطحونون هذه السير وحفظوها فى صدورهم ونقلوها لأجيال وأجيال من أبنائهم، لكنا أصبحنا كالعميان، مجرد سلالات من البشر تأتى وتختفى تحت أى ظرف كونى وانتهى الأمر عند ذلك، ولو لم يحفر الإنسان قصصه المهمة ونقشها على الجدران لأصبح الجنس البشرى مجرد حفرية كحفريات الديناصورات، ولكن الإنسان لديه غريزة البقاء ولديه معتقد أن ترك أى أثر له فى المكان سوف يمنحه الأبدية ولو بالذِكر، لذلك اعتاد الحفر على الأشجار والحوائط وكتابة أى شيء يدل على أنه مر فى هذا المكان يوما.

خضرة محمد خضر، ولدت فى كوم حمادة محافظة البحيرة، اشتهرت محافظة البحيرة بفرق الفنون الشعبية التى كانت مهنتهم حفظ السير والتواشيح وسير الأنبياء لغنائها فى الموالد التى يجوبون بها البلاد من شرقها لغربها، ميلاد خضرة محمد خضر فى محافظة البحيرة لا يعنى بالضرورة أن جذورها الأصلية من هناك، ربما تكون جزائرية الأصل أو تونسية أو صعيدية لا يعلم هذا سوى الله، لكنك تتعجب من أين أتوا هؤلاء بكل هذه الحكايات وكيف تمكنوا من حفظها بهذا الشكل وهى تتكون من آلاف الأبيات المنغمة والمقفاه والتى لا يُعرف كاتبها على وجه التحديد فى غالبية الأمر.

لعب القدر دوره فى وصول خضرة محمد خضر وفرقتها ومن تبعها بعد ذلك إلى كل البشر على وجه الكرة الأرضية، رغم أنها لم تكن تضع هذا الأمر ضمن خُطتها ولا مخيلتها، بل وكانت ترفضه بشدة، فهى لم تكن تسعى للشهرة وربما لم يكن لديها الوقت الكافى لها، كانت المرأة فى أغلب هذه الفرق هى العنصر الأهم وتكون بمثابة القائد، فهى تحمل على عاتقها تحفيظ وتدريب أجيال  جديدة وأيضا توفير ما يكفى لسد أفواه العديد من العائلات التى تعيش من هذا العمل، عندما تجلس معهم وتستمع لهم تتعجب، كيف لطفلة أن تحفظ كل هذا وتعيده آلاف المرات وهى لا تقرأ ولا تكتب، من أين اكتسبوا هذه الأذن الموسيقية التى تحفظ كل هذا الكم من الإيقاعات والرتمات التى يتم الآن تدريسها فى المعاهد ويظن البعض أنها سهلة وبسيطة ولكنها على العكس من ذلك تماما.

هل اكتشف زكريا الحجاوي خضرة محمد خضرة أم هى التى اكتشفته؟ 

أشيع، أو كما هو معروف، أن الكاتب والشاعر والفنان الكبير العظيم زكريا الحجاوى، هو مكتشف خضرة محمد خضر، ولكن الحقيقة غير ذلك تماما، وربما هذا هو السبب الذى جعلنى أتحمس لكتابة هذه السطور، ليس تقليلا من دور زكريا الحجاوى ولا تضخيمًا لحجم خضرة محمد خضر وغيرها من نساء هذا المجال مثل (فاطمة سرحان وجملات شيحة، وغيرهما)، ولكن لتصحيح التاريخ الذى هو فى حقيقته أجمل وأمتع وأغرب من خيالنا البشرى المتواضع.

زكريا الحجاوى، كان قبل هذه المرحلة كاتبا إذاعيًا ومهتمًا بالفن والمسرح، لكنه كان بعيدا عن هذا المجال كل البعد، وربما كان يخطط لمستقبل مختلف، كان يتمتع  جيله بالمنافسة الشريفة والضمير المهنى والعمل على إتقان ما يقومون به من عمل على أكمل وجه، وهذا هو لُب الموضوع وسر الخلطة التى أفقدت جيلنا القدرة على الإبداع، لأنه اعتمد على المساعدات التى أفقدته روح المغامرة.

بدأت القصة عندما فكر المخرج الإذاعى الكبير يوسف الحطاب، فى مواكبة مشروع (المسرح الملحمى لبرخت فى الخمسينيات)، وقرر أن يقوم بنفس العمل ولكن على الصعيد المحلى، حيث كانت تتمتع مصر والوطن العربى بالعديد والعديد من الملاحم الشعبية التى يمكن أن تشكل تاريخًا كبيرًا للإنسانية للمسرح، ليس فى مصر فقط، ولكن فى العالم كله، وقرر أن يبدأ هذه الفكرة بملحمة (أيوب المصرى) وبالفعل طلب من الكاتب والإذاعى الكبير الذى أثرى المكتبة الإذاعية بالعديد من الكنوز سواء على مستوى الكتابة أو الإعداد والتأريخ محمد على ماهر، أن يكتب له سيرة أيوب المصرى كعمل إذاعى يقوم بإخراجه، ولكن الكاتب الكبير محمد على ماهر، بكل روح محبة اعتذر له، لأنه لن يقدر على كتابتها باللغة العامية التى تتناسب مع اللون الإذاعى فى ذلك الوقت، وطلب منه أن يستعين بصديقه الكاتب زكريا الحجاوي، وبالفعل قام زكريا الحجاوي بكتابتها، ولكنه كتبها أيضا باللغة العربية الفصحى، وهنا أخبره يوسف الحطاب أنه لا يرغب فى ذلك وأنه يود أن ينقلها للإذاعة كما تنقلها فرق الفن الشعبى، وقد سمعهم قبل ذلك فى مولد سيدنا الحسين، وطلب يوسف الحطاب من زكريا الحجاوي أن يستعين بكتيب يباع فى المكتبات الموجودة فى رحاب سيدنا الحسين يحتوى على سيرة أيوب المصري ولكن من خلال الأبيات التى تغنى فى الموالد، وبعد ذلك قررا أن يقارنا بين الكتيب وبين ما ذكر فى الكتاب المقدس، وبالفعل استعانا بطبيب من أصدقاء المخرج يوسف الحطاب لديه نسخة جيدة من الكتاب المقدس، ولكنه رفض إعطاءه لهما، وطلب منهما أن يجلسا فى العيادة ويطلعا على ما يرغبان فيه، وبالفعل تمت المهمة فى حوالى ست ساعات جمع فيها الاثنان ما يحتاجان إليه من معلومات وبدأ زكريا الحجاوي فى كتابة الملحمة، وقام يوسف الحطاب بحجز أستديو لتسجيل أغانى الملحمة، وكان يظن أن المهمة بهذه البساطة، فقام الفنان حسن الشجاعى الذى كان مسئولا عن الموسيقى والغناء فى الإذاعة فى ذلك الوقت بترشيح المطربَين الشعبييَن المعتمديَن فى الإذاعة وهما (الفنان محمد عمر والفنانة فاطمة علي)، وبالفعل تم حجز الأستديو وبدأ التسجيل، ولكن يوسف الحطاب وجد أداء محمد عمر وفاطمة علي لا يشبه الأداء الحقيقى للحن الذى سمعه فى المولد، وأمر بوقف التسجيل وطلب من زكريا الحجاوي أن يذهب لسيدنا الحسين وأن يبحث عن المطربة التى كانت تغنى فى المولد ووصل إليها وأتى بها بالفعل وهى الفنانة خضرة محمد خضر، وانتابتها رهبة من الميكروفون، ورفضت التسجيل وانسحبت من العمل، ولكنهم شعروا أن العمل لن يكتمل إلا بصوتها فأقنعوها أن تقف على مسافة من الميكروفون خلف الفنانة فاطمة علي وتقوم بالغناء على طبيعتها، وكانت هذه شرارة انبهار زكريا الحجاوي بهذه الشخصية وهذا اللون، واختفى عن الأنظار وغاب أيضا عن بيته مما جعل زوجته تقوم بالبحث عنه والاتصال بصديقيه محمد علي ماهر ويوسف الحطاب، فقاموا بالبحث عنه وعرفوا أنه وقع فى غرام خضرة محمد خضر وتزوجها.

إنتوا حبيتوا الفن الشعبى لكننى عشقته وتزوجته

(يا موحشك يا دنيا لما تفترى ع الطيبين.. ويا وحشك يا آدى لفترى .. أيوب إيه وهمل قوته الشر وهو كالوحوش الكاسرة)

شاع الخبر وغضبت الزوجة والأصدقاء وقاموا بعمل حيلة للالتقاء بزكريا الحجاوى لإقناعه بالعدول عن الأمر حتى أنهم أحضروا له منحة دراسية لنيل درجة الدكتوراة فى الفنون الشعبية من رومانيا لمدة خمس سنوات، ولكنه رفض بشدة ووقف أمامهم وهتف ( إنكم تدعون أنكم فنانون وتحبون الفن الشعبى ولكنكم مدعون.. أما أنا فقد عشقت الفن الشعبى وتزوجته). 

وبدأت رحلة زكريا الحجاوي مع خضرة محمد خضر التى أطلعته على كل مخزون "الحدوتة"، وأصبح عضوا فى فرقتها يجوب معهم البلاد وينقل عنهم ويكتب للإذاعة التى أثرى مكتبتها بالعديد من السير والملاحم الذى تعاون فيها مع المخرج يوسف الحطاب، وكانت بطلتها خضرة محمد خضر وفرقتها، وأصبحوا من مشاهير المجتمع المصرى والعربى الذى ظل يردد أسماءهم، ومن هنا بدأ زكريا الحجاوي فى السعي لخروج هذا العالم الذى كان مقصورًا على الموالد للجمهور، وتم لهذا السبب إنشاء قصور الثقافة فى مختلف المحافظات ليبين للعالم أن هذا الفن هو التاريخ الحقيقى وليس مجرد لون من ألوان التسلية، ولكن الزمن لم يمهله الفرصة لفعل المزيد ووافته المنية عام 1974، وظلت خضرة محمد خضر تكافح فى رسالتها وتنقلها للأجيال الجديدة، وكانت تحلم بإنشاء مهرجان سنوى يليق بهذا التجمع وهذا اللون، ولكنها لم تجد من يعاونها على ذلك، لقد أصبح العمل فى هذا اللون ليس سوى لون من ألوان الموضة استغله البعض للمكاسب الشخصية وإنشاء مراكز تحت رعاية المراكز الثقافية الأوروبية من أجل الحصول على المعونات الخارجية واستغلال ما تبقى من عمالقة هذا اللون، يسافر بهم البعض فى جولات خارجية للمكاسب أو عمل بعض الحفلات المحدودة فى بعض هذه المراكز الذى سبق ذكرها، ويأتى السياح للتمتع بها كما لو كانت جزءا من المتاحف والآثار.

ومن هنا أتمنى أن تلتفت وَزارة الثقافة لهذا الأمر، فهى بالفعل لديها مؤسسة خاصة بهذا اللون، ولكنه لا يُستغل كما يجب، أتمنى أن تبدأ فى الاستعانة بهؤلاء السيدات الفنانات العظيمات فى عمل بَرنامج فورى لتسجيل ما لديهن من كنوز وذكريات تكون بَذرة صالحة للازدهار والقضاء على استغلال البعض لتاريخ مصر العظيم وإعطاء نساء مصر حقهن الحقيقى الذى لن يقلل من حق ولا شأن أحد بل العكس، للأسف تتجه هؤلاء السيدات للاعتزال والاحتجاب عن المجتمع رغم أنهن كن يقودن عشرات الرجال وأنجبنَ وربينَ أجيالا عظيمة لم تأخذ حقها، ومنهن على سبيل المثال الفنانة فاطمة سرحان، رائدة من رائدات هذا الفن وصاحبة حنجرة ذهبية، وهى أم الفنانة سوزان عطية، التى درست هذا الفن العظيم على أيدي صانعيه، ومع ذلك تعلمت فى معهد الموسيقى العربية من الثانوى وحتى البكالوريوس، وكانت من الأصوات العظيمة التى انتهى بها الأمر للاعتزال والاحتجاب تماما عن الساحة الفنية والإعلامية حاملة فى صدرها أسرارًا لا يعلم مصيرها سوى الله.