«خطوات لعينة».. قصة لـ أسماء حسين من مجموعة «فسحة بويكا»
تنشر "الهلال اليوم"، قصة "خطوات لعينة"، للكاتبة أسماء حسين، من مجموعتها القصصية "فسحة بويكا" الصادرة عن دار "فصلة" للنشر والتوزيع في طبعتها الأولى يناير 2018.
خطوات لعينة
أن تُسلم رأسك للمخدة وعينيك للرقاد وتحت وسادتك يقبع كتاب "المسخ" لكافكا هو أمرٌ بالغ الصعوبة بل قد يصل حد الإستحالة!
ما يجعلك تفكر حول تشبث الحشرة غريغور بإنسانيته الذي دفع العائلة للانزعاج والعنف حتى أخته التي كانت حريصة على طعامه، الأب الذي حاول أكثر من مرة سحقه ونسي غريغور الشاب الذي طحن نفسه في عملٍ كريه لأجل راحته، فيما عدا أمه التي بقيت محايدة، لم تنس أنه غريغور.
النفس البشرية لا يمكنك أن تخمن كيف تفكر أو تتوقع كيف تفكر، هل تفكر بطريقة المبدأ الفيزيائي " لكل فعل ردة فعل مساوية له في المقدار معاكسة لها في الإتجاه "؟.. فمثلا، لا يوجد إحصاء دقيق حول العالم يشرح كيف يسير المرء وراء هوسه. وهذا قد يفسر ما حدث مع صاحبنا ذلك النهار.
بدأ النهار حين دخل شارع الحرية لشيءٍ ما ونسيه، لكنه رآها أمامه بحذائها المعكوس وأصبح يفكر فيها بغرابة، فجأة إمتد إنزعاجه من حذائها حدًا لا يطاق وأصبح يسير خلفها في أروقة الشوارع الجانبية وهمه الأوحد والأخير أن يصل لطريقة يعدل فيها من وضع حذائها الذي يثير أعصابه. وكأنما تلك المهمة هي المهمة الأخيرة في حياته. يستكمل خطواته بقفزات واسعة وأمامه تسير المرأة بشالها الملفوف حول رقبتها، تتهادى في خطواتها وخصلات شعرها المنساب تصب كماء علي ظهرها، تتأرجح مؤخرتها النحيلة المشدودة تأرجحًا يبدو مدروسًا لشدة تناسقه، ويكاد يصرخ داخله كيف تتمكن من السير بثقة هكذا بهذين النعلين المقلوبين؟ يجز على أسنانه ويجد في المشي ورائها. لكنها تغوص داخل الشارع التجاري. الطقس حار وخانق وتلك اللعينة تمشي أمامه بنعلين متنافرين بكل الثقة الممكنة لامرأة في غنجها، تتأرجح الشتائم في عنقه ويستطعم ريقه المر العطشان، ويزدرد عطشه ولا يستطيع بلع حنقه من المرأة التي تمشي بثقة بهذين النعلين بل تتوقف أمام محل إكسسورات وتجرب الخواتم والأساور وتنتقي الخلاخيل وتقلبها بين يديها بتأنٍ. يدعو الله أن تجرب خلخالًا وتخلع حذائها لتنتهي هذه المعاناة. سيصرخ قبل أن ترتدي الخلخال ويقول لصاحب الكشك نصف السكران أن نعليها معكوسان ويجب أن تعدلهما فورًا. لكنها ترمي الخلاخيل بعصبية وتبصق على الرجل بشتيمة ما، لقد لمس يدها. في الحقيقة أجده ليس ملومًا بالمرة. فبلا ريب أن رسغيها ليّنان بَضّان كمنظر كاحليها من الخلف. اللعنة على هذه المرأة، لماذا أتت في طريقي هذا اليوم؟ تصعد سلالم تلة الشارع التجاري وترفع تنورتها البنفسجية الطويلة لتتضح ساقاها المشدودتان الممتلئتان باتساق مذهل وبض وشهي، لكنه لايستطيع أن يوقف مخه للتفكير الكافي في هاتين الساقين الجميلتين. إن حذائها مقلوب! تقترب من مقدمة الشارع، شعاع الشمس المهدد بالمغيب يرمي إنذارًا أخيرًا ويشوش نظري ونظرها فيما هي ترفع يدها اليسرى أمام عينيها وألمح إلتماع الذهب في بنصرها، مرتبطة إذن ! اللعنة عليها وعلى حبيبها الغبي الذي يعشق إمرأة ترتدي الحذائين معكوسين. لابد أن قدمها اليسرى تماثل اليمنى واليمنى تماثل اليسرى ليصلح استمرار هذا الوضع! كيف يمكن أن يصير ذلك! لاريب أنها مخلوق شيطاني متحور في هيئة امرأة بذلك الجمال، أو كائن فضائي متنكر بشكل فتاة لا يعرف بطبعه الفرق بين الفردة اليمنى واليسرى للآدميين! تسري رعدة غريبة فيّ، تشبه إهتزاز الشرارات الكهربية وأحس بها حتى في أظافري، ويستحيل ريقي لكتلة يابسة كالعلقم والفتاة تروح وتجيء وتقهقه وهي تتكلم في الهاتف النقال، وترمقني بخبث وتشكك. هذه الوقحة الوضيعة، لقد دمرت يومي كله! أحملها الذنب كاملًا، فلولا نعليها المعكوسان في استفزاز معلن لما جرني هوسي إلى ملاحقتها على ذلك النحو المحرج، فكرت أن أقترب منها وأخبرها أن تكف عن الثرثرة في الهاتف وأن تدخر الغنج والقهقهة للحظات وتعدل من وضع حذائها، إلا أن الرعدة تزداد شدتها كلما اقتربت، أتذكر وجود سيجارة في جيب القميص الأمامي وأشعلها، والرعدة لا تفارق أصابعي الممسكة بالسيجار ولا شفتي النافثتان الدخان بقوة ظاهرية. فيما ترتعد مفاصلي ومعدتي، وأحس قلبي يرتعد إرتعادًا جنونيًا بسبب عشوائية تلك البغيضة. أحسم أمري مرة أخيرة وأتقدم منها وفي نفس اللحظة تتوقف سيارة ملاكي رخيصة، ملطخة بالأوساخ وينزل منها شاب أسمر يفوقني ب 20 سنتيمترًا في الطول على الأقل، وتكلمه الفتاة وهي تشير وتنظر إلي، اللعينة، إنها تنصب لي فخًا طوال الطريق، وقبل أن يندفع والشرر يتطاير من عينيه أواصل خطواتي المهزوزة كمومياء نحوهما وأهمس كغراب حيث أن جفاف حنجرتي وصل حده الأقصى، فأشير له ويدي تتردد بالهواء فيما هو يتقدم والسباب يتطاير من فمه، وبينما يقول: "ماذا تريد منها يا ابن الكلب؟". أفلح في إخراج صوتٍ غريب له طعم الحديد الصدئ: "إن حذائاها معكوسان" وأشير لأقدامها ليلتفت مشدوهًا لرؤية قدميها أخيرًا، ثم يعاود النظر لي. أما أنا فلم أعلم بعد ذلك سوى عن الدم المتدفق في فمي، والسماء السوداء المشتعلة بألف نجمة ساقطة في عيني، وصوت عظامي وهي تصطدم بالرصيف أثر قبضاته المتلاحقة تختلط بتضرعاتها الحنون ليتوقف، اللعينة اللعوب، لو أنها تشفق عليّ بحق فلتخلع الآن حذائيها وتصلح جريمتها فورًا.