"حارة العباني".. ننشر الفصل الثاني من رواية "بورتوسعيد"
تنشر "الهلال اليوم"، الفصل الثاني من رواية "بورتوسعيد" للكاتب الروائي الدكتور سامح الجباس، والصادرة عن دار "شرقيات" للنشر والتوزيع، وجاء الفصل بعنوان "حارة العباني".
حارة العباني
".. ولم تزل المدينة عامرة إلى سنة ثلاث وسبعين و خمسمائة هـ حتى جاء اليها نحو أربعين مركباً مسوقة بجماعة من الفرنج فحاصروا أهلها .. وهرب أهلها إلى ثغر دمياط وتركوا المدينة فاستولى عليها الفرنج ونهبوا مافيها ثم ألقوا فيها النار فاحترقت كلها.."
( بدائع الزهور فى وقائع الدهور – محمد بن أحمد بن إلياس الحنفى)
مزيج من الكراهية والصداقة ,والغيرة والجيرة تجمع بين عُمر والسيد وزيزة. يظهران معاً فى كل مكان,لايفوّتان ماتش للمصرى,يتكلمان بحماس طوال الماتش.
" يارب يطلع وشك حلوعلينا ياسيد يا وزيزة و" نسّك " الزمالك النهاردة."
يعترض صاحبك كعادته.
" ياعم أنا ماليش دعوة لعيبة المصرى أنا ماضمنهومش. "
تهتف بحمقة.
" يا حكم يا أعمى.. دى فاول دى ؟ "
كالعادة يخسر المصرى, تخرجان ساخطين مع الجماهير.
" عليا النعمة الجون اللى دخل فينا ده جون " استروبيا "
فجأة يسألك سؤالاً أكبر من تفكيره.
" وله يا عمر؟ هو احنا ايه اللى بيجيبنا ف حرقة الدم دى ؟ "
ترفع غطاء صندوق القلب.
" ماهوالبنى آدم مننا مايعرفش يعيش من غير حاجة يتحمس لها ويجرى وراها ويعيش عشانها حياته, بس الأيام دى كل واحد انشغل ف نفسه, دخل جوه قوقعته, وقفل عليه زىّ أم الخلول اللى بناكلها. "
يعترف لك السيد وزيزة.
" انى كمان بصيت حواليا مالقيتش حلم كبير أعيش فيه فبقيت أخرّج كل حماسى وحمقتى وحرقة دمى على رجلين لعيبة المصرى, دلوقت معدش الحلم حلم بلد, دلوقت الحلم بقى إن المصرى ياخد الكاس أو الدورى عشان نهتف,ونهيّص ونسافر وراه كل ماتشاته اللى بره بورسعيد."
بمرارة متوقعة منك يا عمر.
" تصدق بالله يا سيد معدش حاجة ف الدنيا ليها طعم و لا حتى ماتشات المصرى.!"
" انا عسكرى انجليزى من فضلك ساعدنى لأرجع الى اصدقائى والحكومة الانجليزية ستدفع لك خمسين جنيهاً نقداً.. "
(نص المنشور الذى عُثر عليه فى ملابس الجنود البريطانيين القتلى فى بورسعيد - جريدة الأهرام – الأحد 11 نوفمبر 1956)
ثلاث سنوات مرت منذ تخرجت يا عمر من كلية الهندسة ببورفؤاد. حاولت أن تعمل فى أى من شركات المقاولات الخاصة ,إلا أنك لم تجد الواسطة المناسبة,فى كل عام تقول لنا الحكومة " مفيش فلوس..مفيش تعيينات " ويهاجموننا فى برامج التليفيزيون " انا مش عارف ايه الشباب الخرع اللى قاعد يقول انا مستنى تعيين الحكومة, الشباب طاقة, الشباب أمل ,أنا مش فاهم ازاى ممكن يكون واحد كل أمله ف الحياة انه يقعد على مكتب ويمضى حضور وانصراف؟ ماهو طول ماشبابنا بيفكر كده تبقى مصر عمرها ماحاتتقدم أبداً, واللى أنا بقوله ده مش كلام انشا وعندنا أمثلة كتيرة لشباب ناجح مثلاً أحمد عز أو محمد كمال ,شوفى اللى عاوز يشتغل بيشتغل, أمال نقول ايه عن الفنانات اللى بييجوا من بلد تانية عشان يشتغلوا ف مصر,عندك مثلاً الفنانة ساندى و......"
خرجت مرتين مُخفياً دستة بنطلونات جينز فى ملابسك ,ومشاركاً السيد وزيزة الذى كان يقول لك :
" الأغراب اشتروا الشقق ف الابراج وركبوا العربيات من التهريب.. طز ف كلية التجارة وشهادتها."
تأخذ الدستة من التاجر ملفوفة ,ومضغوطة بطريقة جهنمية. تخرج بها,تُزاحم سيدات من الأرياف يلففن دست الملابس على أجسادهن,تخرج احداهن مرة محجبة ومرة ترتدى النقاب الذى يضمن لها الخروج من الجمرك دون أن يتعرف عليها موظف الجمرك, ما إن تعبر بها السيارة حاجز الجمرك حتى تخلع النقاب ,وهى تتنهد بارتياح. ترى بعضهن يتضاحكن مع عساكر الجمرك الغلابة ,ويتغاضين عن لمساتهم وشتائمهم البذيئة. تقف المحترفات منهن فى الشارع المؤدى للجمرك, تُشير إلى السيارات الملاكى المحترمة, يقف لها صاحب السيارة إن كان يبحث عن صُحبة غير بريئة, تميل على الشباك المجاور له, لا تتكلم, يسألها :
" رايحة فين "
"نازلة بعد الجمرك "
" اركبى "
فجأة تجدها قد استدارت إلى الرصيف خلفها. تُخرج من مكان ما لفافة كبيرة جداً, تفتح الباب المجاور لصاحب السيارة ,وهو مرتبك ومصدوم.
يفهم أنها تستغله للخروج من الجمرك فى سيارة غير مشبوهة.
يتردد أن يُنزلها من السيارة أو أن يتوكل على الله ,وهو يدعوه أن يسترها معه فى الجمرك بهذه البلوة التى تحملها.
قابلت عند التاجر ذات مرة فتاة صغيرة تأتى من القنطرة غرب كل يوم للتهريب.
سألتها " انتى عندك كام سنة؟ "
أجابتك : " خمستاشر "
باستغراب : " وبتنزلى بورسعيد لوحدك؟ "
ببساطة تقول لك : " ف الصيف بس , بلـّم مصاريف الدراسة "
شعرت يومها أنك فى الكويت أو السعودية. هل تعيش فى نعمة دون أن تدرى؟ هل يطفح أبوك الدم من أجل لقمة العيش حقاً؟ فماذا عن هؤلاء؟ هل الأوضاع سيئة فى بورسعيد؟ أم هى الكويت أو السعودية عند هؤلاء؟ هل لقمات العيش فى بورسعيد أكثر من الأفواه؟
" أمال أهالينا متمرمطين ليه؟ "
تضربك نوةّ السؤال.
" هو فيه كام مصر فى مصر؟! "
تُسلّمها بعد الجمرك. تأخذ كارت التسليم وتعود به إلى التاجر, يناولك عرقّك, خمسة عشر جنيها عن الدستة. تخرج مرتين فقط فى اليوم حتى لا يحفظك موظفى الجمرك, لايمكنك تمييز الشريف منهم من "القـّبيض "
" ارجع باللى معاك يابن الوسخة. "
بعد أول شتيمة أقسمت يا عمر ألا تُكررها ولو مُت جوعاً.
يضحك وزيزة ساخراً :
" فيها ايه يعنى أما تتشتم عشان تمسك ف ايدك قرش؟ اللى عاوز يعيش ف البلد دى مايقولش كرامتى ولا زفت.! "
توحيد مواعيد الدراسة فى مصر وسوريا
احترس.. موجة باردة فى الطريق
اعلان :
مطبوعات كتابى تقدم لك اليوم مع باعة الصحف
أول ترجمة عربية للكتاب المشهور الذى قرأه العالم بكل لغة
ليالى بــلزاك ( قصص ماجنة)
أصرح من ليالى " بوكاشيو " الايطالية (ديكاميرون )
وأجرأ من ألف ليلة وليلة العربية
200 صفحة مزينة بالصور – الثمن 10 قروش فقط
(جريدة الأخبار – الخميس 13 مارس 1958 )
الكل فى المدينة يصطاد الفلوس بطريقته. أمواج من الفلوس تضرب شواطىء المدينة,أمواج محسوبة تصب فى جيوب معدودة. تهريب ذّريعة السمك فى المناصرة,تهريب المخدرات والملابس المستوردة فى الجرابعة. سيارات الربع نقل تقطع الطريق الدائرى القادم من دمياط مظلماً حائراً منذ سنوات بين المسئولين فى بورسعيد, ودمياط الاثنان يتهربون من إضاءته, يوقفون السيارات النقل بالأسلحة الآلية قبيل الفجر. الطريق فى ظهر نقطة شرطة المناصرة الشبه خالية, يقص عساكر النقطة البائسة الحكايات وكأنها لا تنتمى اليهم.
تتدفق الفلوس من الشرق على مصانع مشروع شرق التفريعة بعضها تموله تل أبيب, تأتى الأقمشة من هناك لتُصّنع ملابس بأيدى العمالة المصرية الرخيصة ثم تعود لتُصدرّ إلى دول أخرى ,حاملة توقيع اتفاقية الكويز, صداقة حذرة ربطت بين أصحاب المصانع البورسعيدية وبين خبراء مصانعهم الاسرائيليين.
حتى اذا كنت تحمل الماجيستير أو دبلوم الصنائع ,فسيارات الأجرة والميكروباص تنتظرك لتأخذ وردية عشر ساعات فى اليوم. سترتدى الشبشب ,والشورت والتى شيرت وتضع فى فمك سيجارة (محشوة بالبانجو اذا أردت) ستُغلـّظ من صوتك وتتعود على سب الدين مائة مرة فى اليوم. من أصول المهنة أن تكسر فجأة على السيارة التى تسير خلفك وأن تمزح مع زملائك السائقين بسب آبائهم ,وأمهاتهم اللائى زنين فيهم. يجب أن تتعلم الكثير من الحركات البذيئة تؤديها بأصابعك وأحياناً ذراعك كله. اطمئن لن يمر اليوم أسوداً عليك ,فلن يعدم الأمر من فتاة لعوب أو امرأة تتغنج عليك فى آخر اليوم, عندها ستُنزل الزبائن وتركن فى أحد الشوارع الهادئة, و" تقوم بالواجب " معها, لن يضرك أن تُعطيها عشرين أو تلاثين جنيهاً من ايراد الميكروباص, ستشخر لصاحب الميكروباص.
" هو الايراد كده, انا مغـّير كاوتش النهاردة مرتين ,وكمان الشغل نايم ولومش عاجبك أنا أقدر أركب أى عجل تانى من بكره ,وأنت ابقى البس المخروب بتاعك "
كلما زادت حصيلتك من السباب ,وكلما علا صوتك أكثر كلما أخذت حقك وحق غيرك أيضاً فى هذا البلد.
" بنك القاهرة يحيىّ بورسعيد الباسلة الأبية فى يوم نصرها ويشارك فى موكب المجد وفى فرحة الشعب الكبرى بهزيمة قوات البغى والعدوان وخروجها من أرض الوطن الطاهرة......"
(اعلان بجريدة الشعب – الأثنين 24 ديسمبر 1956 )
هل تكره البلد يا عمر؟ هل مازلت تحلم أن الغد سيكون أفضل؟ رباك أبوك فى حِجر الذكريات المشرّفة, علّمك أن تفخر لأنك ابن لمدينة وقف لها العالم احتراماً ذات يوم, نبت شاربك تحت أنفك وزال العماص عن عينيك ,عندما كبرت فلم تجد شيئاً مما قاله لك أبوك. هل كانت أساطير؟ هل تلطخت تلك الأرض التى تدوسها سيارات الجولف سكس 2011 يوماً بدماء الأجداد ؟
هل صدّ الأجداد عدوان انجلترا وفرنسا حقاً؟ اننا لا نستطيع اليوم رد بلطجية المنزلة الذين يهبطون على المدينة, فيسرقون السيارات والشقق ثم يرحلون. لا تقف تحت قاعدة تمثال ديليسبس للتقفيش فى بنت كما هو معتادفى هذا المكان, بل لترفع بصرك ,وتتخيل ذلك التمثال الضخم الذى أسقطه الفدائيون ابتهاجاً برحيل المعتدين.
أحياناً تسخط على أبوك. تفكر أنه أفسد تفكيرك, زرع فى عقلك أفكاراً ماتت منذ زمن بعيـيـيـيـيـد, دفن فى عقلك وقلبك خبيئته السرية. أذاقك طعم أيامه الحلو, ربما كان هذا هو السبب المباشر لما تشعر به من مرارة. أنت تعرف أن أباك وضع فيك بذوراً فاسدة ,فكبرت وأنت لا تعرف أن تكذب أو تُنافق لذلك يهرب منك النجاح.
انـــســـحـــبوا
رحيل فلول القوات البريطانية والفرنسية
فى حماية قوة الطوارىء
تسليم بورسعيد للسلطات المصرية
قوة الطوارىء تنسحب من المدينة خلال 5 أيام
عبد اللطيف البغدادى
تعيينه وزيراً لشئون بورسعيد
(جريدة الأهرام - الأحد 23 ديسمبر 1956 )
يقولون أنه لاراحة فى الحياة فى هذه المدينة. سنحظى بالراحة عندما نرحل إلى جزيرة " الفرما " ,هناك سننتظر القيامة مع الأحباب, سنصطاد السمك, سنغنى أغانى السمسمية التى انقرضت.
لا حكومة هناك. الحمد لله. لا غالى ولا شريف ولا نظيف ولا جمال.
هل حقاً عاش أبطال على هذه الأرض بالأمس القريب؟
بيان بالقوات الانجليزية والفرنسية المهاجمة لبورسعيد عام 1956:
1- القائد الأعلى لقوات الحلفاء جنرال سير تشارلز كيتلى
2- نائب القوات البرية للحلفاء جنرال سير هيو استوكويل
3- فرقة المشاة الثالثة.
4- فرقة لواء البارشوت السادس عشر.
5- لواء الكوماندو البحرى الملكى الثالث.
6- القوات الجوية الفرنسية.
7- فرقة الباراشوت العاشر.
8- كتيبة الباراشوت الأولى.
9- الفيلق الخارجى.
10- فرع الآليات الخفيفة.
11- كتيبة الكوماندو البحرية 3
12- القوات البحرية البريطانية.
13- وحدة حاملات الطائرات.
14- عدد 3 حاملات طائرات (200 مقاتلة )
15- عدد 4 طرادات (واحدة منهما فى البحر الأحمر )
16-عدد 13 مدمرة (اثنتان منهما فى البحر الأحمر )
17- عدد 6 بوارج (اثنتان فى البحر الأحمر )
18- عدد 5 غواصات.
19- القوات البحرية الفرنسية وتشمل :
1 سفينة حربية
2 حاملات طائرات (50 مقاتلة )
2طراد
4 مدمرة
8 بارجة
2 غواصة
20- القوات الجوية البريطانية وتشمل :
1 سرب قاذفات ( 120 قاذفة )
4 سرب قاذفات مقاتلة ( 100 مقاتلة )
1 سرب طائرات استطلاع
21- القوات الجوية الفرنسية وتشمل :
4 قاذفة مقاتلة
3 طائرة نقل
الليلة سيكون القمر بدراً وستظهر جزيرة " الفرما ". سأترصدها الليلة على شاطىء البحر, أريد أن أراها, تُرى من سأراه الليلة من موتى المدينة؟