"حب منتهي الصلاحية".. قصة لـ أسماء حسين من مجموعة «فسحة بويكا»
تنشر بوابة "الهلال اليوم"، قصة "حب منتهي الصلاحية"، للكاتبة أسماء حسين، من مجموعتها القصصية "فسحة بويكا" الصادرة عن دار "فصلة" للنشر والتوزيع في طبعتها الأولى يناير 2018.
حب منتهي الصلاحية
"خيار، طماطم، ليمون
زيتون، كاتشاب، توست"
!!!
في الصباح، وجدت الورقة الصغيرة على المقعد المجاور في سيارتي، قطعة صغيرة اجتزت بعناية من دفتر مذكرات أو من دفتر توقيعات شخصي "أوتوجراف"، زرقاء اللون، ذلك اللون الأزرق الشاحب، تنظمها سطور أفقية خفيفة وتحوطها زخرفة جميلة على شكل شرائط وزهور متداخلة.
جذبني الخط الجميل "المنمنم" الخط الذي يجعل كلمة "طماطم" شهية، وحرف الطاء كمقدمة سفينة تخترق الموج الأزرق، سفينة ذات صارٍ يطول السماء، وحرف الكاف في "كاتشاب" كطائر يكاد يلامس الأرض بأحد جناحيه.
"من أين أتت هذه الورقة؟
من كتبها يا ترى؟"
محمود!! نعم، محمود، هذه الورقة تخصه، أتذكر أننا مررنا على محل بالأمس قبل أن أودعه بيته، وأظن أني لمحت في الأكياس التي عاد بها "توستًا" وسمعت صوت اصطكاك زجاجات الكاتشاب، ولكن لا يمكن أن يكون خطه، فخط محمود أعرفه جيدًا، منذ أيام المدرسة والواجبات التي كنت أنقلها منه، ذلك الخط الذي يذكرني بآثار نمل حائر.
قادني عقلي إليها، بما أن أمه عجوز وشبه أمية، وبما أن إخوته وأخواته الباقين صغار، فلا يوجد غيرها، أخته.
أذكر أني لم أكد أتبين ملامحها في لقائنا، أو على الأصح ارتطامنا الخاطف على درجات سلم منزلهم قبل أن تفر هاربة في خجل، ولا يسعني تذكر شيء عنها سوى بريق عينيها.
طويت الورقة ودسستها بين الأوراق الأخرى التي تعمر جيبي، وانطلقت إلى عملي وعقلي ملفوف بورقة صغيرة ذات زرقة شاحبة.
أي شيء يعبر عنك أكثر من هذه الورقة التي لا قيمة لها في حساب الناس؟ كم هي الأشياء التي قد يزرعها عقلك اللاواعي في هذه الورقة؟
في المساء، جذبتها من بين فوضى الأوراق التي تثقلني "فواتير، إيصالات بنوك، بطاقات عمل، أوراق دونت فيها أرقامًا أو أسماءً" وفردتها أمامي على تلك الطاولة المنعزلة في المقهى، وجعلت أتأملها وأنا أرتشف رشفات حذرة من القهوة الساخنة.
يقال أننا يمكن أن نعرف الإنسان من خطه، فما الذي يخبرني به خطها؟ ما هي هذه الأشياء المخزونة في داخلها التي تتسرب على شكل خط أنيق؟
أخبرتني الورقة الصغيرة عن روح شفافة بشفافية زرقتها الخفيفة، وأخبرتني عن رقة تجلت في طريقة نزع الورقة، ذلك الرفق الشديد الذي منح الجهة المنزوعة حدًا ناعمًا شبه صقيل.
خفة يدها ومرورها على السطر بلا اهتزاز كشفت لي عن قلب هادئ يخفق بانتظام.
وتركت أصابعي تتجول على الحروف المنقوشة بحنان بالغ.
ما كنه القلب والعقل اللذين يحولان ورقة لا وزن لها إلى كل هذه الدقة والأناقة والجمال؟
هل يمكننا أن نعثر ولو للحظة على إنسان يستطيع أن يصنع الجمال في أشياء وفي أماكن لا يلتفت لها أحد؟
توقفت قليلًا لألتقط أنفاسًا لاهثة، ولأتناول القليل من قهوة تهاجمها البرودة والخدر، ما الذي أعرفه عنكِ الآن؟
روح شفافة، رقيقة، جميلة، عقل منظم جدًا، روحي الآن تفتش عن ملامحك في ملامح أخيك، أتخيل تقاطيع وجهه الآن، أحاول منحه رقة أكثر، أمنحه شعرًا أسودًا طويلًا، شفتين ممتلئتين، خدين أنعم وأطرى، قوامًا جميلًا متماسكًا، ولكني أحصل في النهاية على "جوليا أورموند".
استقرت تلك الورقة برفق شديد في أنعم وأأمن مكان من محفظتي حيث تستقر أوراقي المهمة جدًا، واستقرت في ذهني صورة غائمة رسمتها ببطء لملامح جميلة جدًا سرقت أكثرها من وجه "جوليا" وبعضها الآخر من خيالاتي.
وفي الليل، عندما أتهادى بين اليقظة والنوم، وعيناي تتابعان حركة الأشجار التي يعكسها ضوء شارد على سقف غرفتي، لا يحتل عقلي شيئًا سواها، أتذكر ورقتها الزرقاء وهي تمحو منها الطلبات، وتنقش مكانها بذات الخط اللذيذ كلمات حب أبدلها في خيالي كل لحظة.
أتخيل نون "زيتون" مستقرة بكل ثقلها ولكن في "أحبك بجنون"، وكاف "كاتشاب" قد فرت إلى "كلي لك"، والميم والواو في "ليمون" تثبتان أمام موجة زرقاء كاسحة تمحو الحروف الأخرى وتخلف عندما ترحل "أموت فيك".
تمنيت وتلك الورقة الصغيرة ترقد بين أصابعي لو وجدت دربًا إلى أوراقها الأخرى، تساءلت عن كم الحروف والكلمات الجميلة الناعمة التي تزين دفتر مذكراتها الرقيق، تخيلته، صغيرًا بحجم كفِّي، ذا غلاف سميك غطته زينة بألوان زرقاء متداخلة، وفي مساحة رحبة في قلبه استقر اسمها ترى ماهو، نوران؟ حيث النون تتكئ على الواو برفق، وحيث الألف تكاد تسقط في أحضان الراء، والنون كثمرة ناضجة للقطاف.
تخيلت كم المشاعر التي أودعتها في بقية الصفحات، أبيات الشعر التي أعجبتها فزينتها بخطها اللذيذ، تخيلت شعرة طويلة فرت من رأسها وضاعت بين الصفحات حتى أعثر عليها وألفها حول إصبعي.
صرت أهتم بلقاء محمود عن ذي قبل، تطيب لي ثرثرته، بل أتابعها باهتمام، وأحاول أن أصطاد فيها أي إشارة ولو كانت بسيطة إليها، أحدق فيه بقوة، أفتش في ثيابه وملامحه عن أثر، أي أثر يغذي شوقي إليها.
كان الألم يمزقني عندما أجالسه، ولا فكرة تتسلط على ذهني إلا هي، كنت أذوب خجلًا عندما أضبط عينيَّ وهما تخترقانه، تمزقانه، تفتشان بكل قوة عن آخر صورة لها اختزنتها عيناه.
هل هو الحب؟
هذه العاطفة الغبية، هذا الشوق الأحمق، هل هو الحب؟ هل سلبتني عقلي وراحتي بنظرة واحدة وورقة صغيرة؟ هذا التشتت والضياع، هذه الأحلام والهواجس الآثمة، هذه الموجة الكاسحة التي تجذبني كلما فردت ورقتها الشاحبة، هذه اللهفة التي تحرقني بلا سبب.
حدثتني نفسي بأن أتخلص منها، أن أمزق بيدي آثار الأغلال التي قيدتني إليها، أن أفر، أن أفتح قلبي للهواء والحياة مرة أخرى، أن أطرد كل هذه التخيلات التي خلقتها، فاستعبدتني.
ودَّعت ورقتها كما يجب أن يكون الوداع، أخرجتها ذات مساء عندما داهمني المطر وأنا عائد للمنزل، قبلتها مودعًا، ووقفت هناك تحت أضواء الشارع الباهتة أتأمل كلماتها وهي تذوب وتختلط ثم ترحل مخلفة عجينة رقيقة، دفنتها أصابعي في الرمل الرطب لأرض مجاورة.
شفيت أخيرًا، وبدأت أتنفس بعمق، تبقى فقط حنين جارف يعاودني كلما زارني خيال صنعته في تلك الأيام، حنين ذو مذاق غريب، وشيء من ندم قليل.
أما "محمود"، فبدأت أستعيد أنفاسي أمامه مرة أخرى، وعدت أصافحه فلا تنازعني يدي، تبقت فقط تلك النظرة المخبولة التي تتفحص يديه في كل مرة يخرج فيها من المنزل.