بقلم – د. حسين عيسى
عاش الشعب المصرى بمختلف طوائفه أحداثا هائلة عبر ٦٠ شهرا ساخنا، وقد انطلق هذا الشعب فى يناير ٢٠١١ وفى يونيو٢٠١٣ ليبحث عن تحقيق أهداف ثوراته المتعاقبة من الحرية والعيش والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية.
واليوم إن قمنا بسؤال أى مواطن مصرى عن رؤيته لمصر التى يتمناها ويريدها خلال الفترة القادمة فقد تفاجأ بإجابات عديدة لا تخلو من الاضطرابات والتناقض والضبابية....وقد شغلت نفسى كثيرا بالبحث عن إجابة هذا السؤال المهم فلم أجد أفضل من هذه الإجابة: نريد مصر دولة ديمقراطية مدنية حرة مستقلة ... وأتصور أننا جميعا يجب أن نتكاتف لتحقيق هذا الهدف الجامع الشامل الذى يجب أن يحظى بتأييد واسع غير مسبوق فى تاريخ هذا البلد العظيم وليسمح لى القارئ العزيز أن أفسر قليلا محاور هذا الهدف.
مصر دولة:
لا أريد أن أشغل القارئ بمفاهيم ومصطلحات وتعريفات الدولة ولكن أتصور أن الدولة المصرية الحديثة تتسم بعدد من الخصائص أهمها:
دولة القانون:
فكل من يعيش فى ظل الدولة يحترم ويطبق القانون ويعتبر أن تطبيق القانون ونشر ثقافة سيادة القانون هو خير ضمان لحقوق وواجبات الفصائل والقوى السياسية المختلفة.
(٢) دولة العدالة:
لا توجد على هذا الكون العدالة البشرية المطلقة؛ ولكن هناك دائما العدالة النسبية والتى تتأثر بالظروف والعوامل المحيطة وقيم ومعتقدات المجتمع ... ومصر كدولة عصرية حديثة يجب أن تمتلك الآليات اللازمة لتطبيق العدالة بمختلف صورها وأشكالها مما يساهم فى دعم وتأكيد قيم المواطنة.
(٣) دولة الكرامة:
يجب على الدولة أن تحافظ على كرامة المواطن داخل وخارج الحدود، فكرامة المواطن من كرامة الدولة وأعلم أن هذا التوجه قد تم انتهاكه كثيرا فى العقود الماضية؛ ولكننا الآن نتحدث عن مصر الجديدة التى لا تسمح بالاستهانة بكرامة أى مواطن أيا كان انتماؤه السياسى وآراؤه الشخصية ولا يخفى على القارئ العلاقات المتشابكة بين هذه الخصائص الثلاثية، فدولة القانون تساعد على قيام دولة العدالة مما يؤدى إلى تحقيق مفهوم دولة الكرامة ... كما أن وجود دولة الكرامة سوف يساعد على احترام القانون من ناحية وتحقيق العدالة من ناحية أخرى.
مصر دولة ديمقراطية:
تتعدد تعريفات الديمقراطية ولكننا لن نجد أبسط من هذا التعريف العميق السهل الذى يقضى بأن الديمقراطية هى حكم الشعب بالشعب وللشعب ... فالشعب يحكم نفسه بنفسه ومن خلال آليات هو الذى يضعها التى تضمن احترامها وتطبيقها على مر الأجيال، والهدف من وراء ذلك ليس كسب إعجاب الأطراف الخارجية أو تحقيق دعاية سياسية؛ ولكن الهدف الأساسى هو رفع مستوى جودة الحياة لمواطنى مصر فى مختلف المجالات وهنا يجب أن نفرق بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاقتصادية.
فالديمقراطية السياسية لها أهدافها وآلياتها الواضحة من خلال الاستماع إلى إرادة الشعب فيما يخص النظام السياسى الذى ينبغى تطبيقه مع إعلاء مبادئ سيادة القانون مع التأكيد على ضم جميع القوى والتيارات السياسية المدنية للعملية الديمقراطية وأن نلتزم جميعاً بثوابت وقواعد الممارسة الديمقراطية المنصوص عليها فى الدستور ..... أما الديمقراطية الاقتصادية والتى أهملناها طويلاً فتقضى بضرورة استطلاع رأى الشعب بمختلف فصائله ومجموعاته السياسية والاجتماعية فى مختلف السياسات والآليات الاقتصادية التى تقترح أى حكومة تطبيقها لتحقيق الأهداف الاقتصادية الكلية المتفق عليها ....
لا أن تفاجئ الناس بقرارات وخطوات اقتصادية ما أنزل الله بها من سلطان ولا تعبر إلا عن فكر من اقترحها وتشرع فى تنفيذها بناءً على افتراض وهمى بأن الناس سعيدة بهذه القرارات والخطط ... فتأتى المفاجأة من سوء الأداء وضآلة النتائج بسبب عدم أخذ رأى الناس من البداية وعدم الاقتناع بتعدد وتنوع الآراء الذى يمكن أن يحقق نتائج مبهرة غير متوقعة.
مصر دولة ديمقراطية مدنية:
ونأتى إلى مفهوم مدنية الدولة وهو المفهوم الذى تمت إساءة استخدامه طويلاً فى السنوات الأخيرة .... وفى رأيى أن مفهوم الدولة المدنية يرتكز على مقومات أساسية أهمها ما يلى:
عدم الخلط بين الدين والسياسة ... هذا الخلط المتعمد الذى أدى فى معظم الدول التى حدث بها إلى المزيد من الانقسامات والفتن والمؤامرات السياسية والاجتماعية.
وعدم قيام أحزاب سياسية على أسس أو مرجعيات دينية؛ لأن الممارسة العملية أثبتت أن ذلك يؤدى إلى خلل كبير فى منطقية الحوار السياسى بين أطراف اللعبة السياسية، فهناك طرف يطرح أفكارا وتوجهات بشرية ترتبط بمصالح وأهداف سياسية معينة ويأتى الرد من طرف آخر يقوم على مرجعية دينية تغلق باب الحوار والتعايش والاجتهاد من أساسه ... يخيل لى أن ثمة حوارا بين طرفين باستخدام لغتين مختلفتين.
مصر دولة متدينة بطبعها والميراث الحضارى الثقافى الإسلامى يضرب بشدة فى جذور هذه الأرض، هذا بالإضافة إلى الميراث الحضارى الثقافى القبطى بطبيعة الحال وتبنى عدم خلط الدين بالسياسة لا يتعارض مع وجود تشريعات وقوانين وجدت ضالتها المنشودة فى أحكام الشريعة الإسلامية مع الأخذ فى الاعتبار بالظروف والعوامل المتغيرة ومصالح المواطنين ككل على اختلاف دياناتهم ومعتقداتهم.
تمثل مدنية الدولة التطور الطبيعى لتطبيق مفاهيم الديمقراطية والشرعية والمواطنة وهى تتناغم مع الاتجاهات الدولية الحديثة لنظم الحكم المختلفة.
مصر دولة ديمقراطية مدنية حرة:
كانت الحرية أحد أهم أهداف ثورتى يناير ويونيه والتى نادت بها قوى الشعب المختلفة ... والحرية لا تعنى الفوضى واللامسئولية بل هى فى جوهرها قمة الالتزام والمسئولية، فليس من الحرية فى شيء أن أعتدى على حرية الآخرين أو أعطل مصالحهم أو أهدد أرزاقهم، فهناك ما يسمى بالحرية المسئولة التى تسمح لجميع الأطراف بأن تعبر عن الرأى بكل الحرية فى إطار سلمى ودون الاعتداء على الأرواح أو الممتلكات، وعلينا أن نبحث عن الصيغة السحرية المقبولة التى تجمع بين حرية إبداء الرأى وعدم تهديد الأمن الاقتصادى والاجتماعى للمجتمع بأسره.
مصر دولة ديمقراطية مدنية حرة مستقلة:
يداعب مفهوم الاستقلال خيال كل أفراد الشعب ... وكم كنا نعتقد جميعاً فى عهود سابقة بأن مصر دولة مستقلة دون أن نسأل أنفسنا عن ماهية ملامح وحدود هذا الاستقلال الذى أتصور أن يكون على النحو التالى:
استقلال الإرادة السياسية بعيداً عن الضغوط الإقليمية والدولية التى قد تسعى إلى تحقيق أهداف خاصة تتعارض مع الأهداف والمصالح العليا للبلاد.
الاستقلال لا يتعارض مع القناعة بأن مصر دولة محورية لها نقاط تماس متعددة مع محيطها العربى والإسلامى والإفريقى والشرق الأوسطى وهذا يلقى على النظام السياسى بأعباء تبنى سياسات ومواقف تتكافل وتتفاعل مع مصالح هذه الاتجاهات المتعددة.
عدم استقواء أى فصيل سياسى بقوة خارجية أجنبية، مما يهدد مقومات الاستقلال الوطنى ويؤدى إلى تداخل غير سياسى للمصالح والأهداف.
الاستقلال ليس مجرد شعار أجوف يتردد بحماس فى الخطب والأحاديث والمنتديات؛ ولكنه يترجم فى صورة مواد واضحة محددة فى الدستور مدعومه بآليات وسياسات ونظم وإجراءات تعكس المفهوم الرفيع للاستقلال ذي الأبعاد والاتجاهات المختلفة.
عزيزى القارئ ... عذراً إن أطلت ولكنها أفكارى التى أردت إيضاحها فى هذا الوقت العصيب من تاريخ مصرنا الحبيبة ... مصر التى نريدها دولة ديمقراطية مدنية حرة مستقلة والتى تستطيع بسواعد أبنائها تحقيق أهداف العيش والحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية.