رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


تنظيم "داعش" ترك جروحاً غائرة في بدن العراق الثقافي ستستغرق وقتا لإزالة آثارها

23-1-2021 | 11:57


قال خبراء دوليون وأكاديميون بارزون إن الجراح التي خلفها احتلال تنظيم "داعش" لشمال العراق، على مدار ثلاث سنوات ونصف السنة، ما زالت تترك ندوباً غائرة في البدن الثقافي العراقي ونسيجه الاجتماعي وتراثه الإنساني والحضاري وفسيفسائه الثرية بالتنوع والأصالة، والتي لطالما اشتهر بها العراق على مر الأزمان، مشددين على أن الخسائر المالية والاقتصادية لهذا الاحتلال تجاوزت المليارات من الدولارات، غير أنها تتضاءل أمام الدمار الهائل الذي لحق بتراث العراق الثقافي والحضاري والإنساني، الذي لا يقدر بثمن، على يد هذا التنظيم الإرهابي.


وفي بحث أعده خبراء "معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام" SIBRI بالتعاون مع ثلاث جامعات أمريكية بارزة وجامعة عراقية، وممول من "هيئة التنمية الدولية الأميركية" USAID، يقدر الخبراء المشاركون أنه ما بين عامي 2014 و2017 لقي مئات الآلاف من العراقيين حتفهم، كما نزح الملايين أو تعرضوا للسحق والمرض والإهانة تحت نير احتلال تنظيم داعش، فضلاً عن الضحايا الذين راحوا أثناء الحملات العسكرية التي شنت لدحر التنظيم في شمال العراق.


ويقول المشاركون في إعداد البحث من خبراء وأكاديميي "سيبري" وجامعات بوردو ونوتردام وإنديانا الأميركية إضافة إلى جامعة دهوك العراقية، إن التنظيم ارتكب جرائم وحشية بشعة أثناء احتلاله لشمال العراق تضمنت مذابح وعمليات قتل جماعي لأقلية "الإيزيديين" في أراضي أسلافهم في مدينة سنجار، شمالي العراق، إضافة إلى أعمال قتل وخطف لآلاف من النساء والفتيات الإيزيديات، وكانت المذبحة البشعة التي ارتكبها التنظيم في بلدة كوجو، مسقط رأس الأديبة العراقية الإيزيدية نادية مراد الحائزة على جائزة نوبل في الأدب، من أكثر المذابح فظاعة ووحشية.


استهدف تنظيم داعش تجمعات الأقليات الذين يقطنون إقليم نينوى، شمالي العراق من المسيحيين، والإيزيديين، والشاباك، وأقلية الكاكاي، التي تعرف بأقلية اليارسان العقدية، التي ظلت لسنوات طويلة سرية تتجنب الحديث عن عقيدتها وهي جماعة تطلق على نفسها أيضاً اسم "أهل الحق"، ويتراوح تعدادهم في العراق ما بين 110 و200 ألف، وتاريخياً، احتضنت سهول إقليم نينوى جماعات ثقافية عديدة عاشت جنباً إلى جنب، وشكلت جزءاً مهماً من العراق كمجتمع متنوع الثقافات ثري بنسيجه المجتمعي والعرقي والإثني.


وتسبب دخول قوات داعش إلى المشهد في حدوث تدهور سريع ومفاجئ في الإقليم، فقد تعرض أفراد مجتمعات الأقليات للإعدام، أو الاستعباد، أو الإكراه على التحول إلى النمط الراديكالي المتشدد الذي تبناه التنظيم، وقد تمكن بعض قاطني الإقليم من الفرار قبيل اجتياح "داعش"، بينما أكره آخرون على الابتعاد عن أراضيهم وأملاكهم، وتركوا مصدر رزقهم وقوت عيشهم من الأراضي الزراعية، ومزارع الزيتون، وثروتهم الحيوانية التي تضررت بشدة جراء احتلال التنظيم.


ولم تحظ قضايا الأضرار الثقافية والخسائر المتعمدة التي لحقت بالأقليات في تلك المنطقة على يد تنظيم "داعش"، بالنقاش أو الاهتمام اللازمين حتى الآن، من وجهة نظر معدي البحث الذين أشاروا إلى أن "داعش" أمعنت في تدمير تراث المواقع التاريخية والثقافية في تلك المناطق، سواء المقابر، أو الأضرحة، أو المواقع، أو المقاصد المقدسة، ودنس أعضاء التنظيم المزارات الدينية ودور العبادة من كنائس ومساجد، ومعابد تخص الأقليات التي تقطن المنطقة. وبطريقة غير ملموسة، اتخذ التنظيم تدابيره للحد من قدرة تجمعات الأقليات على ممارسة أداء طقوسها وشعائرها الدينية، باختصار، فإن التنظيم سعى إلى حرمان المسيحيين، والإيزيديين، والشاباك، واليارسان من الحياة، من خلال تدابير متعمدة استهدفت محو تاريخ امتد لقرون طويلة من التعايش بين الطوائف المتعددة في الإقليم.


رمزية الزيتون


في تقييم مشترك أعده البنك الدولي بالتعاون مع الحكومة العراقية، قُدرت خسائر المواقع الدينية والتاريخية التي تضررت وتهدمت على أيدي عناصر تنظيم داعش وأنصاره بنحو 2ر56 مليار دينار عراقي (ما يعادل نحو 47 مليون دولار أمريكي)، إذ تم هدم أو تخريب بعض أهم المواقع الأثرية والتاريخية وأقدمها في إقليم نينوى. كما دمر التنظيم، بشكل ممنهج، المزارع، وقام بتخريب الآبار وأنظمة الري في المنطقة، وقطع الأشجار، وتم سرقة الآلات والمعدات والثروة الحيوانية ليحرم تلك المجتمعات من مصادر الرزق ووسائل العيش التي يعتمد عليها قاطنو الإقليم الأصليون.


ويقول الخبراء الدوليون إن الخسائر الفادحة التي لحقت بالنسيج المجتمعي المتنوع في إقليم نينوى لا يمكن بأي حال من الأحوال تقديرها، فهي خسائر مرعبة يصعب تصورها، على سبيل المثال، تلعب أشجار الزيتون دوراً بالغ الأهمية ومتنوع الجوانب في العديد من تجمعات الإقليم. ففي بلدة بعشيقة (به عشيقة بالكردية) شمالي الموصل، التي يسكنها أغلبية مسيحية وإيزيدية، دمر التنظيم مزارع للزيتون بعضها يعود إلى قرون مضت، وتضم عشرات الآلاف من أشجار الزيتون المثمرة، ورغم أن البلدة تحررت حالياً، فإن السعي إلى إعادة إنعاش قطاع الزيتون فيها - المتعلق بزيت الزيتون وإنتاج أصناف الصابون المصنع من الزيتون - سوف يحتاج إلى سنوات طويلة ليعاود تعافيه مجدداً.


وبعيداً عن الأهمية الاقتصادية لأشجار الزيتون، فإنها تمثل بعداً آخر بالنسبة للكثير من جماعات الأقليات في إقليم نينوى، إذ ترمز للسلام، والتعايش السلمي، والتبجيل، ففي احتفال سنوي يشهده معبد في وادي لاليش، أقدس الأماكن لدى الإيزيديين، يقوم متطوعون بكسر ثمار الزيتون التي تم حصدها على أرضية المعبد، ويُستخدم زيت الزيتون الناتج في التبرك وإنتاج الحنوط (الزيوت العطرية) المستخدمة لدى ممارستهم لطقوسهم واحتفالاتهم على مدار العام، أما المسيحيون في بلدتي تلكيف وقرقوش، فيحملون أغصان الزيتون أثناء صلواتهم وتراتيلهم في "عيد الشعانين"، أو ما يعرف بـ"أحد السعف"، الذي يسبق عيد القيامة.


ويشكل نشاط تربية الحيوانات القطاع الاقتصادي الرئيسي الثاني للعديد من التجمعات في شمالي العراق، وقد عرف أضراراً بالغة خلال الاحتلال الداعشي الذي أمعن في سرقتها وذبحها ونهبها، وعادة ما يستخدم الإيزيديون الحيوانات كأضاحي مثلما تقوم بذلك أقليات أخرى في الإقليم، ويتم تقاسم لحوم الحيوانات المذبوحة داخل المجتمعات وتوزيعها، خصوصاً على الفقراء في البلدات.


وتستخدم الحيوانات المذبوحة كأضاحي لدى الإيزيديين الذين نذروا بذبحها أثناء فترات الشدة والحاجة، كما أنها تمثل جانباً مهماً من الاحتفال بالأعياد لدى هذه الطائفة، أما بين طائفة كاكاي (اليارسان)، فإن ذبح الأضاحي يشكل جزءاً من احتفالات عقدية حاشدة، التي تتركز على التعاليم الدينية مع ترتيل الأناشيد المقدسة، كما أنها تستخدم في الوفاء بالنذور.


إعادة الإعمار.. ثقافياً


انصبت جهود إعادة الإعمار في إقليم نينوى على الأمور المادية الملموسة مثل إعادة بناء المنازل والبنية التحتية الأساسية، وإنعاش سبل الحياة للمقيمين في الإقليم. ويقول الخبراء إنه بلاشك مثل هذه الجهود كانت مهمة لتيسير عودة مئات الآلاف من الناس الذين لا يزالوا مبعدين عن أراضيهم ومنازلهم، غير أن الخبراء يؤكدون أنه إذا كان الهدف إعادة تأسيس هذه المجتمعات لآجال طويلة مقبلة، فإنه يتعين الالتفات إلى إعادة إحياء الهوية الثقافية والقدرة على ممارسة العادات والتقاليد والطقوس والاحتفالات الخاصة بالطوائف المختلفة، بما يعزز من مشاعر الانتماء لدى تلك الجماعات في نينوى والعراق.


ويحذر خبراء المعهد الدولى لبحوث السلام فى ستوكهولم من مخاطر إهمال مسألة الهوية الثقافية وحساسيتها بالنسبة للتجمعات التي تعرضت للتنكيل والقتل والتعذيب على أيدي داعش، مؤكدين أن تجاهل تلك المسألة سيؤدي إلى استمرار هجرة الأقليات إلى أماكن أخرى في العراق أو خارجه، وهو ما يمثل خسارة دراماتيكية لإرث العراق الثقافي وتنوع نسيجها الاجتماعي الفريد، وربما يرسم خطوط جديدة للتنافس بشأن السيطرة الجهوية على إقليم نينوى والسقوط في موجات عنف محتملة في المستقبل، ويسعى البحث الذي يحمل عنوان "برنامج إعادة الإحياء الثقافي لشمالي العراق" إلى فهم الاحتياجات التي تتطلبها المجتمعات في نينوى من أجل استعادة إرثها الثقافي المتنوع والفريد من نوعه بعد الأضرار الفادحة التي تعرض لها بسبب "الاحتلال الداعشي".