رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


دروس نافعة من زيارة بابا الفاتيكان

3-5-2017 | 13:44


بقلم –  د. مينا بديع عبد الملك

“المجد لله فى الأعالى، وعلى الأرض السلام، وفى الناس المسرة” تلك الأنشودة الملائكية الخالدة التى ترددت فى مطلع القرن الأول الميلادى، أحس بها المصريون على أرض مصر عندما وطأت أقدام بابا السلام أرض السلام.

الزيارة التاريخية الرائعة التى أمتعنا بها فى مصر بابا الفاتيكان كانت بها العديد من الدروس النافعة. أول هذه الدروس أنه ملتزم تماماً بما تقرر فى مجمع نيقية المسكونى المنعقد عام ٣٢٥م والذى حضره ٣١٨ أسقفاً من جميع أنحاء العالم، حينما نصت قرارات المجمع على أن “البطريرك هو أسقف مدينة كرسيه” ومن هنا نجد أن اللقب الذى ارتبط بمنصب بابا الفاتيكان هو “أسقف روما”. فعلى مستوى العالم توجد خمسة كراسى رسولية، أقدمها كرسى الإسكندرية، كرسى روما، كرسى أنطاكية، كرسى أورشليم (أو القدس)، كرسى القسطنطينية. لذلك نجد بابا الفاتيكان التزم بلقب “أسقف روما”. أما الدرس الآخر المُستفاد منه فقد ورد فى إشارة عابرة ذكرها فضيلة شيخ الجامع الأزهر عندما ذكر فى كلمته عبارة “الفردوس المفقود”.

“الفردوس المفقود” Paradise Lost تلك ملحمة الشاعر الإنجليزى “جون ميلتون” (١٦٠٨ – ١٦٧٤م) التى سجلها الشاعر الإنجليزى ببراعة فى عصر تدهور فيه الأدب.

كان “ميلتون”يعمل بالتدريس فى لندن ولكنه كان تدريساً من نوع جديد إذ كان يقوم على فكرة ضرب المثل ويتعدى التلقين وتقديم المعلومات إلى تشجيع طلبته على أن يعيشوا حياة تنشد القيم المثالية والسعى لتحقيق هذه القيم عملياً، فكان كثيراً ما كان يدعو إلى المذهب “الرواقى” فى دروسه وهو ضبط النفس، والتحرر من الانفعالات المتطرفة، وتحكيم العقل دون إفراط أو تفريط، واتخاذ الاعتدال سبيلاً فى كل شىء. فى يونيو ١٦٤١ اشترك “ميلتون” فى معركته ضد أساقفة الكنيسة الإنجليزية، فأصدر أول كُتيب له بعنوان “سبب حكم الكنيسة” وفيه قال:

(إذا شئنا للدين أن يتحلى بالنقاء والروحانية والبساطة والتواضع مثل الكتاب المقدس فينبغى أن يتحلى القساوسة بهذه الصفات جميعاً، وهكذا إذا قام نظام القساوسة على الدرجات الدنيوية من سلطان وتشريف وأحكام دنيوية نراها بعيوننا فسوف يحيل الطاقة الباطنة والنقاء اللذين نجدهما فى الكتاب المقدس إلى المادية الظاهرة للقانون ومن ثم فسوف تتبخر العبادة الباطنة وتخرج فى صورة مادية فارغة ومظاهر من البهرج والترف).

«جون ميلتون» يرى أن الكتاب المقدس يتضمن نوعين من النصوص أولهما هو النص المكتوب، أى الكلمة التى نقرؤها وهذا هو النص الظاهر. أما النص الآخر فهو باطن، أى أنه روح القدس الذى يعمل فى قلوب المؤمنين. وهنا جوهر الحرية الحقيقية، إذ لا يصير الإنسان عبداً لآراء الآخرين دون أن يفهم الكلمة المكتوبة ظاهرياً وباطنياً.

البابا فرنسيس هو بالحقيقة «جون ميلتون» الجديد رافع راية تحرير الدين من التسلط والنصوص المضللة. فقد رأينا فى سلوكياته التحلى بالنقاء والروحانية والبساطة والتواضع، فقد استبدل زى باباوات الفاتيكان بزى بسيط جداً بعيدا عن أى زخرف، واستبدل الصليب الذهبى الذى كان يوضع على صدر باباوات الفاتيكان بصليب بسيط من الحديد، وفى تنقلاته يستخدم سيارة «فيات» غير مصفحة حماية من جرائم الإرهاب لأنه وضع فى قلبه: (إن لم يبن الرب البيت فباطلا يتعب البناؤون، وإن لم يحفظ الرب المدينة فباطلا يسهر الحارس) بينما سيارات الأساقفة الأقباط التى حوله جميعها ضد الرصاص وغالية التكاليف!! أيضاً كان يسير فى وسط شوارع القاهرة وزجاج نافذة السيارة مفتوحاً، هو لا يخشى الموت فى سبيل نشر السلام وتصحيح المفاهيم عن الأحوال الأمنية فى مصر. أيضا رفض – كرئيس دولة – أن يقيم فى أى مقر رئاسى بل أقام فى مقر السفارة الإيطالية بالقاهرة، وفى الفاتيكان رفض أن يقيم فى قصور باباوات الفاتيكان بل أقام فى بيت بسيط يحمل اسم «بيت مرثا» – مرثا هذه فى زمن السيد المسيح كانت أخت لعازر الذى أقامه السيد المسيح من الأموات بعد دفنه بأربعة أيام وشقيقتها مريم التى دهنت قدمى السيد المسيح بالطيب قبل صلبه - وهو البيت الذى يقيم فيه الآباء الرهبان لأنه يعتبر نفسه راهبا موقعه تحت أقدام شعبه. استقبل الجميع من جميع الأديان والطوائف بالمحبة الأخوية الصادقة والعناق الحار، حتى عندما اخترقت موكبه فتاة مصرية صغيرة لتحيته وطلبت منه الصلاة من أجلها، لم يمانع أن يقدم لها التحية وهو بداخل سيارته وطلب منها قائلاً: (صل أنتِ من أجلى). كما رأيناه عند وصوله وعند سفره كان يحمل حقيبته الخاصة بنفسه. أيضا وقف ليصلى على فتاة مريضة قدموها إليه. هذا سلوك إنسان يعى تماماً تعاليم الكتاب المقدس بدون ترفع وبدون فرعنة، إذ أعلن صراحة أن الإنسان مشكلته تكمن فى الذات المترفعة أو يعانى من اليأس والقنوط، لكن المؤمن الحقيقى الذى لديه حياة تسليم لله يثق أن الله يدبر كل أمور حياته.

وعلى أرض مصر فى الفترة (١٩٥٩ – ١٩٧١) رأينا وعشنا مع تلك النوعيات من الباباوات ممثلة فى البابا كيرلس السادس البطريرك ١١٦ الذى كان يقود شعبه يوميا بالصلاة فى الخامسة صباحا ثم فى المساء الخامسة مساءً. كانت سيارته تجوب شوارع الإسكندرية حاملة علمى مصر والبطريركية وزجاج النافذة مفتوح ويبارك ويحيى المصريين – أقباطا ومسلمين – الذين كانوا يصطفون على جانبى الطريق سواء فى شارع الكنيسة المرقسية بالأزبكية بالقاهرة أو شارع كنيسة الأقباط بالإسكندرية. وكثيراً ما كان يستقل القطار ما بين القاهرة والإسكندرية وبالعكس، ومن نافذة القطار كان يطلع من النافذة ويبارك المصريين المصطفين بمحطات القطارات المختلفة لنوال بركة البابا الجليل. كان يومياً يجلس مع شعبه فى السابعة صباحا – بعد انتهاء الصلوات – ليباركهم ويستمع إلى احتياجاتهم ومشاكلهم. كان يحرص على زيارة المرضى – بمختلف دياناتهم – بالمستشفى القبطى سواء بالقاهرة أو الإسكندرية. كان ملبسه بسيطاً جداً ومأكله بسيطا ولم يكن يهتم بالإعلام ولا بالتصريحات الصحفية، إنما كان يترك الأمر للسكرتارية التى تدلى بالتصريحات المطلوبة. عاش فقيراً ومات غنياً بالحب.

تلك الدروس المُستقاة من تلك الزيارة التعليمية الرائعة لجميع المصريين بجميع دياناتهم وطوائفهم وأعمارهم وثقافتهم، والتى أعادت إلى أذهاننا صورة فترة باباوية البابا كيرلس السادس. وجدنا فيه إنسانا يجول يصنع خيرا، فلم ينتهر شخصا ولا ابتعد عن الاستماع لاحتياجات محتاج حتى ولو بكلمة تشجيع. إنه بالحقيقة هدية السماء للبشرية المُعذبة فى أيام مضطربة جداً.