رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


السيسي وبِدَايَةُ العَشْرِيَةِ المِصْريَةِ البَيْضَاء (2)

24-1-2021 | 21:18


د.شريف درويش اللبان

 منذ أن تولى الفريق أول عبد الفتاح السيسي منصب وزير الدفاع والقيادة العامة للقوات المسلحة تجذَّرت فكرة عدم تدخل الجيش في الشأن السياسي بعد أن ذاقت القوات المسلحة الأمَرَّين منذ تحملها - ممثلةً في المجلس الأعلى للقوات المسلحة - عبء إدارة البلاد حتى سلمت السلطة للرئيس المدني المنتخب، وبدت القوات المسلحة أكثر مهنية وأكثر اهتمامًا بالتدريب والتطوير تحت قيادة الفريق السيسي، وتم تكليف أحد القيادات الوسطى الشابة بالقوات المسلحة ليكون متحدثًا عسكريًا باسمها، وتم إنشاء صفحة للمتحدث العسكري للتواصل مع المواطنين ووسائل الإعلام لتوضيح مختلف الأمور المتعلقة بالقوات المسلحة.

ورغم اهتمام القوات المسلحة بمهنيتها ومهمتها الأساسية في الدفاع عن مصر ضد أعدائها، إلا أنها لم تهمل دورها كمدرسة للوطنية المصرية من حيث الاهتمام بالشأن الداخلي الذي كان من الملحوظ أنه آخذ في التدهور في ظل حكم مرسي وجماعة "الإخوان" المتأسلمين، فبعد أزمة الإعلان الدستوري الذي أصدره مرسي في نوفمبر 2013 وأحداث الاتحادية في ديسمبر 2012 واحتقان الشارع والقوى السياسية، حاول الفريق السيسي دعوة كل القوى باسم القوات المسلحة للمصالحة الوطنية، وهو ما رفضته جماعة "الإخوان". وعندما قرر مرسي معاقبة مدن القناة بفرض حظر التجول، ورفض الأهالي تطبيق الحظر، ورفض الجيش إطلاق رصاصة واحدة على أي مواطن مصري، مما زاد من اللحمة الوطنية بين الشعب والجيش.

وتأتي إشارة أخرى من القوات المسلحة على تردي الأمور من تصريح الفريق صدقي صبحي رئيس هيئة الأركان المصرية وقتئذٍ على هامش فعاليات مؤتمر ومعرض الدفاع الدولي "إيدكس 2013" في شهر فبراير، قال فيها إن القوات المسلحة التي ظلت في مركز السلطة لعشرات السنين، ستتجنب التدخل في السياسة، لكن يمكن أن تقوم بدور إذا "تعقدت" الأمور، ولكن الأمر لم يصل بعد إلى مستوى الإضراب أو العنف الشديد، متمنيًا أن تحل التيارات والقوى السياسية المتنافسة نزاعاتها بالحوار، مشيرًا إلى أن الجيش لن يدعم أي حزب سياسي، ولكنه يمكن أن يساعد أحيانًا في حل هذه المشكلة، ويمكن أن نلعب هذا الدور إذا تعقد الموقف، وقال مقولته الشهيرة: "إذا دعانا الشعب المصري فسوف نكون في الشارع في أقل من الثانية".

وذكر محللون أن الجيش يمكن أن يتدخل فقط إذا واجهت مصر اضطرابًا يماثل الانتفاضة التي أسقطت مبارك وسيحاولون أن ينهوا حالة الضرر الذي لحق بسمعة الجيش خلال الفترة الانتقالية الفوضوية التي تولى فيها الجيش المصري المسئولية.

 وتأتى تصريحات صبحي أقل حدة من التي أدلى بها وزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسي يوم 29 يناير 2013، عندما قال فيها إن الاضطراب السياسي يدفع الدولة إلى حافة الانهيار، وأن الجيش سيظل الكتلة الصلبة المتماسكة والعمود القوي الذي ترتكز عليه أركان الدولة.

ورغم الفرص التي أضاعها "الإخوان" في التوافق مع القوى السياسية طوال عام كامل، وسعيها الدؤوب نحو أخونة الدولة المصرية، إلا أن القوات المسلحة منحت الرئيس مرسي المهلة تلو الأخرى للتوافق، إلا أنه أضاعها أيضًا، ليتمرد عليه 33 مليون مصري لتنطلق ثورة 30 يونيو في كل أرجاء مصر، فما كان من جيش مصر إلا أنه لبَّى نداء الشعب لحماية البلاد من مواجهة محققة لا يعلم مداها إلا الله.

 وفي رأينا أن الجيش - مرة أخرى - لبَّى نداء الشعب مساء الأربعاء 26 مارس 2014 بإعلان المشير عبد الفتاح السيسي ترشحه لرئاسة الجمهورية لحماية البلاد من كل أعدائها في الداخل والخارج، ليحقق بذلك رغبة ملايين المصريين الذين فوَّضوه المرةَ تلو الأخرى بأن يكون على خط المواجهة هو وجنوده مع أعداء الوطن      .  

والمتأمل في عصريْ مبارك ومرسي يجد ضمن أوجه التشابه الكبيرة بينهما أنهما كانا خبيريْن بحق في صناعة الإحباط واليأس وتوزيعه على الشعب المصري ليل نهار؛ فمبارك حاول توريث ابنه حكم مصر بما فيها وبمن عليها في صورة منقولة من إقطاعيات القرون الوسطى دون اعتبار لهذا الشعب أو مؤسساته، كما أن مرسي حاول تمكين جماعته من مفاصل الدولة المصرية فيما عُرِف بالأخونة، فكان الشعب لهما بالمرصاد، حيث انتفض في ثورتيْن متتاليتيْن ضد حكمهما وأزاحهما من سُدة السلطة، وأزاح معهما كل تراث القهر واليأس والإحباط.

وبدأت منذ الثالث من يوليو 2013، مع إعلان "خارطة المستقبل"، صناعة جديدة في مصر لم تشهدها طوال ما يزيد عن ثلاثة عقود وهى صناعة الأمل.. الأمل في الغد.. الأمل في بكرة.. في حياة كريمة وآمنة ومستقرة لكل المصريين على اختلافهم رجالًا وشبابًا ونساءً.. وهو الأمل المفقود الذي لم يجده الشباب في عصريْ مبارك ومرسي فكانوا هم طليعة الثورتيْن اللتيْن أودتا بهما إلى غياهب ظلمات التاريخ الذي لن يذكرهما بخير بين صفحاته.

ولعل اختيار المشير السيسي لمسمى "خارطة المستقبل" كان بدايةً موفقة لتدشين خطوط إنتاج صناعة الأمل في الوطن المحبَط لتعطيه جرعة من التفاؤل في المستقبل.. فيما هو آتٍ ويُنسيه كل ما مضى من سوْءات. ولم يكتفِ السيسي بهذا فقط، بل أنه أطلق شعارًا عبقريًا يمنح الشعب مزيدًا من الأمل وهو "مصر أم الدنيا.. وهتبقى قد الدنيا"، وهو شعار يخاطب جينات الدافعية والإنجاز لدى المصريين، والتي غالبًا ما يتم استنهاضها في الأوقات الحرجة والعصيبة من عمر الوطن، وجدنا هذه الجينات تعمل بكامل طاقتها في أثناء العدوان الثلاثي على مصر في 1956 وفي أثناء حرب أكتوبر 1973، وأدرك السيسي أنه قد آن الأوان لاستنهاض هذه الجينات وحثها على العمل والإنتاج للانطلاق بسفينة الوطن إلى الأمام.

وبالفعل لم يخيِّب الشعب المصري أمل المشير السيسي، حيث انطلق هذا الشعب يعمل في رصف الطرق وإنشاء الكباري وإصلاح ما أفسده "الإخوان" في ميدانيْ "رابعة" و"النهضة"، وما حرقوه من جامعات وكليات وما دمروه من مديريات أمن وأقسام شرطة ومتاحف وكنائس، ليثبت هذا الشعب أن إرادة الحياة والعُمران لابد أن تنتصر على الرغبة في الموت والدمار.

ليس هذا فقط، بل إن المؤشرات الاقتصادية تحسنت كثيرًا منذ ثورة 30 يونيو 2013 ليرتفع التقييم الائتماني لمصر مرتيْن متتاليتيْن من قِبل منظمات اقتصادية دولية، كما صعد مؤشر البورصة المصرية لأول مرة منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008 إلى ما يزيد على 8000 نقطة، كدلالة قاطعة على الأمل في مستقبل الاقتصاد المصري في الفترة القادمة، وهناك بعض خبراء الاقتصاد الذين يذهبون بأنه إذا أعلن المشير السيسي ترشحه للرئاسة، فإن هذا المؤشر سيرتفع 1000 نقطة دفعة واحدة، وسيستمر في ارتفاعه حتى يصل إلى قرابة 11000 نقطة مع نهاية العام 2014، وهو ما يمكن ترجمته إلى عشرات المليارات من الجنيهات.

وبعد أن خفتت معدلات الإنجاز أو تلاشت في عهد الإخوان، وجدنا حركةً دؤوبة تدب في أوصال الدولة المصرية لم تشهدها منذ زمنٍ طويل، فهذه مشروعات لإسكان الشباب، وتلك مشروعات للنهوض بالمناطق العشوائية، وثمة مشروعات يتم إنجازها لمحطات توليد الكهرباء لتدخل الخدمة قبل حلول الصيف، علاوة على افتتاح المرحلة الثانية من الخط الثالث لمترو الأنفاق مع الإعلان عن توفير اعتمادات المرحلة الثالثة التي تم افتتاحها مؤخرًا.

ومن يحاول قراءة بيان المشير عبد الفتاح السيسي الذي أعلن فيه ترشحه للرئاسة في فترته الأولى يستطيع أن يؤكد المعاني السابقة الواردة من حيث حرص القائد على شعبه مثلما كان حريصًا عليه طوال عمله بالقوات المسلحة طوال 45 عامًا، وثقته الكاملة في هذا الشعب وقدراته؛ لأنه يعلم جيدًا أنهم أحفاد الفراعنة الذين ملأوا الدنيا حضارةً وعمارةً وعلمًا. إن القائد والجيش طالما شكَّلا ثنائيةً مهمة داخل قلوب المصريين منذ "مينا" موحد القطرين و"أحمس" قاهر الهكسوس ومرورًا بـ"سيف الدين قطز" قاهر التتار و"صلاح الدين الأيوبي" محرر بيت المقدس من الصليبيين وانتهاءً بـ"جمال عبد الناصر" قائد ثورة يوليو و"عبد الفتاح السيسي" باعث نهضة مصر الجديدة.

لقد استطاع السيسي في هذا البيان أن يمنح الأمل كعادته للمصريين، وهو ليس بالأمل دون عوامل أخرى تسانده، ولكنه الأمل الممزوج بالعمل، فالرجل لم يقل إن معه عصا موسى السحرية التي يستطيع أن يحوِّل بها الحياة إلى الفردوس المفقود، ولكنه دعا الجميع للعمل والتكاتف واستنهاض همم المصريين التي تظهر وقت الشدائد؛ ولأنه القائد فسيكون أولنا – كما قال – وسيبذل الجهد والعرق بغير حدود من أجل هذا الوطن.

ومن يحلل بيان المشير السيسي - قبيل ترشحه لفترته الرئاسية الأولى- من الناحية الإعلامية من حيث لغة الجسد ونبرة الصوت والمستوى اللغوي والزي الذي يرتديه واللقطات المقربة close-up shots، يجد أنه كان موفقًا في كل ذلك، بما يعكس صورة إعلامية جيدة لرئيس مصر المستقبل، بما يؤدي في النهاية إلى تدعيم الصورة الذهنية الطيبة له في نفوس المصريين؛ فلغة الجسد جاءت بسيطة دون تكلف أو تشنج وإن كانت تعكس القوة من خلال بعض الحركات الخفيفة لليد على المنصة التي يتحدث منها، كما أن نظرات العينيْن كانت توحي بالتواصل والحب لهذا الشعب، وكذلك بالتأثر البالغ نظرًا لأنها المرة الأخيرة التي سيظهر بها بالزي العسكري ليذهب إلى الحياة المدنية مدافعًا وحاميًا للمصريين مثلما كان يوفر لهم الحماية بزيه العسكري. كما أن نبرة الصوت كانت هادئة وواثقة ودافئة دفء علاقته الطيبة والحميمة بهذا الشعب، بل ومتواضعة ورصينة في وقتٍ واحد، وانعكس هذا التواضع بأن حملته الانتخابية كانت دون إسراف تقديرًا لما تمر به البلاد من أحداث، وبأنه يمد يده لجميع المصريين دون إقصاء، وكانت اللغة موفقة تمامًا فهي خليطٌ من الفصحى التي تعكس رقيًا لغويًا يناسب المثقفين، كما أنها الفصحى المبسطة المخلوطة في بعض الأحيان بالعامية المصرية، بما يؤدي إلى تواصل جيد مع المواطن المصري البسيط.

 ولا شك أن ظهور المشير في بيانه بالزي العسكري يوحي بالانتماء إلى المؤسسة العسكرية وهى مدرسة الوطنية المصرية، علاوة على المرجعية العسكرية للقائد والرئيس، والتي يمكن أن تقود سفينة الوطن إلى بر الأمان وسط هذه الأمواج المتلاطمة التي تتقاذفها من كل مكان. كما أن اللقطات المقربة تجعل المشاهدين ينفذون إلى قلب الرجل ويتفاعلون مع قَسَمَاتِ وجهه ونظرات عينيْه، وهى أمورٌ مهمة في التواصل الإعلامي، بل إن إحدى الدراسات الأمريكية أكدت أن اللقطات المقربة أدت إلى التصويت للمرشحين بشكلٍ أكبر من استخدام اللقطات المتوسطة أو البعيدة

وفي النهاية أقول إن الشعب المصري كان يحتاج إلى زعيم وقائد يتمتع بكاريزما وحضورٍ طاغٍ يؤمن به وبرؤيته لمستقبل هذا الوطن لكي تعود عجلة الحياة إلى الدوران، ويُستأنف البناء في المشروعات التي لا يتوافر لها التمويل اللازم، ويجد الشباب فرصة عمل ومسكن ملائم، ويعود الأمن إلى ربوع الدولة وأطرافها، ودعونا ممن يقول إن عهد الزعامات قد ولَّى ليبرر تولي أشخاص، لا طعم لهم ولا لون ولا وجود ولا خبرة، رئاسة دولة كبيرة كمصر، ولكن يجب أن يعلم السيسي أيضًا أن الجزء الأكبر من الزعامة سوف يكون مردها إلى رئاسته لمصر التي كانت وستظل زعيمة للمنطقة العربية برمتها، ولها دور محوري على الساحة الدولية.

إن السيسي ظاهرةٌ فريدة لن تتكرر.. وسوف تثبت فترته الرئاسية الثانية للمصريين وللعالم ذلك، وسوف تكون العَشْرِيَةُ الجديدة التي بدأت منذ أيام مع مطلع عام 2021 بمثابة سنوات الخير والرخاء لمصر والمصريين.. وانتظروا إنّا منتظرون.