تنشر "الهلال اليوم"، الفصل التاسع من رواية "بورتوسعيد" للكاتب الروائي الدكتور سامح الجباس، والصادرة عن دار "شرقيات" للنشر والتوزيع، وجاء الفصل بعنوان "شارع محمد صالح حرب".
شارع محمد صالح حرب
" بدأ النيل المبارك بفيضانه يبشرنا بانتفاء حمأة القيظ و النجاه من تهدد الوباء لأن بزيارته
يزداد أملنا بالنجاة من غائلة تلك النازلة وقانا الله منها "
( الهلال – العدد الثانى عشر – السنة الاولى – اغسطس 1893 )
حتى ماء البحر تغير طعمه. تغير لونه.
أم أنا التى تغيرّت ؟
سنوات لا تُعد بحساب البشر قضيتها هنا. أعوم,أغطس إلى أعماق لم يصلها بشر من قبل. فى أشد الأنواء أظهر لأُعيد اتزان بلانس صيد ستبتلعه الأمواج. أحياناً أحمل غريقاً ليطفو برأسه على سطح الماء، لم يرنِ أحد, كلهم يتخيلون كيف أبدو؟ يتكلمون على طول شعرى ولونه. عن جمالى الفاتن. عن صوتى الخلاب الذى يُذيب أقسى القلوب. سمعت أنهم يرسموننى على واجهات بيوتهم، فتاة جميلة عارية الصدر طويلة الشعر لها ذيل سمكة طويل. من قال أن هذا شكلى؟ كثير منهم أحبنى دون أن يرانى. يعرفون أننى هنا، ولكنهم لا يعرفون أننى أراقبهم. منذ سنوات لا أعرف عددها كنت أراهم يأتون إلى الشاطىء.
الرجل يحمل الشمسية وكرسيان كبيران للبحر,وخلفه زوجته تحمل الكثير من علب الطعام تجرى بين أقدامهم بنات وأولاد يركلون الكرة ويحملون مضارب الراكيت.
من مكانى وسط البحر كنت أرى الأفق يمتد أمامى لا تقطعه إلا بعض العمارات ذات الأدوار الثلاثة أو الخمسة. فرحة الأطفال ونزول الشباب إلى البحر بعوامة سوداء، كانت اطاراً داخلياً لاحدى السيارات يُشعرنى بمدى أهمية البحر فى حياة أهل المدينة، زاد عدد رواد البحر عاماً بعد عام وارتفعت العمارات كثيراً كثيراً حتى أنها حجبت شوارع المدينة عن عيناى، تحولّ ماء البحر من اللون الأزرق الذى أحبه إلى اللون الرمادى لكثرة مايلقونه فيه من مخلفات.
يأتون للانتقام من البحر. أشعر بهذا وأراه كل يوم فيما يتركونه خلفهم بعد رحيل الشمس. قاذورات. فضلات آدمية. روائح أهرب منها أميالاً فى عمق البحر، قسّموا الشاطىء وفصلوه بأسوار وحواجز لا أفهم السبب منها. فرّت كائنات كنت أحبها مثل الترسة من أمام المدينة وهجرتها إلى الأبد. فقط أصداف القواقع الميتة تخرج فى شباك الصيادين فيُلقونها بلا اكتراث على شاطىء البحر، ظهرت القناديل وسبحت وسط الأكياس التى تملأ البحر. لسعت ظهورهم وأقدامهم، هى تكرههم لما فعلوه بالبحر وتحاول الانتقام منهم على طريقتها. تأتى بأعداد كبيرة إلى شاطئهم. لا تهرب ولا تبتعد على الرغم من سخونة المياه. تُطاردهم بالقرب من الشاطىء معرضة حياتها للخطر اذ يدفعها الموج اذا اشتد إلى رمال الشاطىء فتموت.
حتى أنا لم أعد أظهر على الشاطىء كثيراً. لم أعد استمتع برؤيتهم. وحيدة فى عمق البحر أسبح أراقب السفن الكبيرة التى تخرج أو تدخل إلى القنال الذى سمعت من أجدادى أنهم حفروه.
ما الذى دفع بى من جديد إلى شاطئهم؟ ماسر تلك الرغبة الملحة التى تدفعنى لتأمل المدينة من جديد؟ ماسر ذلك الشعور بالخوف الذى أشعر به؟