رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


الشاعرة الرومانية نينا كيسيان.. تجربة شعرية فريدة

7-4-2021 | 13:22


الشاعرة الرومانية نينا كيسيان

محمد الحمامصي

تقدم الشاعرة الرومانية نينا كيسيان تجربة شعرية فريدة في ارتباط نسيجها الإنساني مع الطبيعة والمفردات الحياتية التي تتعايش معها، حيث نرى لتجليات علاقة الذات بحيوات العالم من حولها، ومن هنا تأتي نصوصها على بساطتها عميقة في جمالياتها وما تحمل من دلالات، وقد قدم الشاعر والمترجم العراقي هاشم شفيق مختارات للشاعرة تحت عنوان "لمست الغابة بشفتي" صدرت أخيرا بمقدمة له عن مؤسسة أروقة للنشر والدراسات والترجمة، أضاء فيها جوانب مهمة سواء في سيرتها أو عالمها الشعري.

 

وكيسيان "2014-1924" ولدت في جالاتي، إحدى المدن الرومانية، لوالد روماني كان يعمل مدرسًا ومترجمًا، ولأمٍّ تعمل مغنية في كورس، في حين كان عمرها عامًا واحدًا، انتقلت عائلتها إلى براشوف في المجر، وهناك اختلطت بالأطفال وامتزجت مع لغات عدة، منها المجرية والألمانية، وحين بلغت الشاعرة الثانية عشرة عادت العائلة من جديد إلى العاصمة الرومانية بوخارست، وأنهت نينا كيسيان دراستها الثانوية في العاصمة بوخارست، ثم انتقلت إلى الجامعة لتدرس فقه اللغة - الفيلولوجيا في كلية الآداب جامعة بوخارست.

 

ويشير شفيق في مقدمته أنه في تلك الأوقات ارتبطت كيسيان بعلاقة حب رومانتيكية مع الشاعر الروماني فلاديمير كولن، فتزوجت منه، كان كولن شيوعيًا، استمرت العلاقة لمدة ست سنوات، وبعد غيابه تزوجت ثانية من شخص كبير في السن إلى حد ما، هو ألكساندرو ستيفانسكو ولكنه كان معروفًا ككاتب ومحرر في الوسط الثقافي، هو الآخر رحل عن الدنيا عام 1984 في مدينة نيويورك .

 

ويلفت إلى أن كيسيان رشحتْ لجائزة نوبل، بعد تأليفها أكثر من ستين كتابًا بين شعر ونثر وأدب أطفال، أول مجموعة شعرية نُشرت لها كانت في عام 1947، بعدئذ ترجمت أشعارها إلى لغات أجنبية عدة، منها الإنكليزية التي ننقل منها قصائدها إلى العربية، وهي حسب ظني المرة الأولى التي يتم فيها ترجمة نصوص هذه الشاعرة المؤثِّرة والفريدة إلى لغتنا في كتاب مستقل، فضلاً عن هذا كلّه، هي أيضًا مؤلفة موسيقية لمقطوعات لحنية، سيمفونية، وناقدة سينمائية عملت في الصحافة، وأقامت أودها من ريع كتبها، حيث كانت تعيش في مدينة نيويورك وكانت تحاضر ايضًا في بعض جامعاتها. ترجمت نينا كيسيان لشعراء عديدين، وهم الشعراء الذين أحبتهم وربطتهم بها وشائج إبداعية وجمالية وإنسانية وكشفت أشعارهم عن نغمات إيقاعية شبه أبدية من أمثال شكسبير، أبولونير، بريشت، باول سيلان، موليير وماياكوفسكي.

 

ويقول شفيق "في عام 1958 دُعيت آنيه كاتز المعروفة بنينا كيسيان إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتُدَرّس العلوم الجمالية للنصوص الإبداعية في جامعة نيويورك، في تلك الأثناء تزايد التوتر في جمهورية رومانيا الاشتراكية فخضع البلد والشعب إلى خنق واسع للحريات واضطهاد مريع للفرد عبر رهاب واضح، وتنكيل بيّن لحرية المعتقد والتفكير والرأي والأحلام الفردية. وصلت الأنباء إلى نينا كيسيان حاملة رسائل مرعبة عن الديكتاتورية وجرائم رئيسها آنذاك شاوشيسكو، وكان أبرز هذه الأنباء اعتقال صديقها الكاتب جورج آرسو واقتياده من قبل أجهزة مخابرات النظام الديكتاتوري ليموت في إحدى زنزاناتها تحت التعذيب. في حمأة هذا الوضع كتبت نينا كيسيان نصوصًا ورسائل وقصائد مناهضة للديكتاتورية ونددت في لقاءاتها ومؤتمراتها بالأوضاع البوليسية في بلدها رومانيا ترافق ذلك مع نيلها طلب اللجوء السياسي واختيارها نيويورك بلدًا للعيش والإقامة والكتابة.

 

وحول جماليات الفنية لنصوص كيسيان يوضح شفيق أنه في النتاج الإبداعي الخلاق لـ "كيسيان" يتوارى السياسي بعيدًا لتظهر أطيافه عبر شبكة من الدلالات والرموز، هنالك فن كبير في قصائدها ولغة شعرية بالغة الجمال والأناقة، لغة مشذبة، يكون الاختزال سندها وعمادها الأوّل، كذلك الحلم المحمول على غيمة فانتازية هو المدخل لعوالم نينا كيسيان الشعرية الشفيفة، عوالم تشحنها مخيلة بارعة في توليد الصور والمشاهد والمعاني الدالة على رؤية تغترف من نبع يفيض بالرؤى والإحالات والتأويل الذي سيلحظه قارىء نينا كيسيان، من هنا حاولت قدر الإمكان إيصال رسالتها الفنية والتعبيرية المزدوجة إليه، وشعرها أيضًا هو شعر الحب والوحدة والعزلات الكبيرة، عزلة تحملها نداءات وإشارات غامضة إلى المجهول، أو إلى الأشواق الراسبة في الروح، علَّها تغسل الهجران وساعات القحط والجفاف الضارب في قاع الكينونة، فقصيدة مثل "صانع المطر" تصل بروقها إلى المراد، لتوقظ الكائنات الحية النائمة، وتلامس أعماقها بذلك التخليق الذي يعمل عمل السحر في نسيج القصيدة وعملها الشبكي المنسوج بأناة ماهر خلاق".

 

ويضيف "من هنا نجد نينا كسيان تحرّك ما آل إلى الانكفاء والانزواء بعيدًا عن النظارة، ذلك الذي بدا موغلاً في ذاته، متحسسًا دواخله ومعانيه الداخلية. إن هذه القصيدة تحفر في العمق ناحتة مغزاها كأيقونة "ها أنتذا يا صانع المطر، عيناك تغسلان حنجرتي، وفمكَ يتفتّحُ في وركي كزهرة ندية زرقاء". أما في قصيدة "الشعرية وفن الجدل" فنراها تمزج الذاتي بالموضوعي، الحسي بالتجريدي، السحري بالواقعي، لتنسج سجادتها الشعرية، لتحبك هذا التطريز اللبق بين الفن والديالكتيك، لتصنع حياكتها البديعة، المنتسجة من الموحي والدال والمُحبَّب وهي تخاطب الآخر:

"إذا كنت مهتمَّا بالطيور، بالأشجار والأنهار،

اقرأ مراجع الكتب، ولا تقرأ قصائدي،

فأنا لم أفهرس طائرًا،

شجرةً، أو نهرًا،

أنا فقط أكدتُ ذاتًا".

 

بينما نجدها في قصيدة "المصباح المنضدي، تتحدث عن الحب بطريقة سيميائية فيها المزيد من الإشارات، المزيد من الانزياح، فهي تخلخل الراسخ وتمنحه الحركة والتموج الدلالي الخليق بفيوض المعاني المستترة في أمشاج النص الشعري وأبعاده التي ترتقي بالإيحاء ليغدو ملموسًا وحقيقيًا كقولها:

"أيها المصباحُ المنضديُّ

أنتَ هيَّأتَ لي

حفلة شايٍ،

وأنا حقّاً أتيتُ

بيد ناتئة العظم

وقلم من طين،

أتيتُ من العالم السفليِّ،

كان طائر المستنقعات اللينة،

يخفقُ عند قدمِكَ".

 

ويقول شفيق "بيد أن كيسيان في قصيدة "غليان" نراها تسعى إلى توكيد لغة الحياة اليومية، والانهمام الجلي بالأشياء التفصيلية، ساعية إلى تحويل الحسي إلى موضوع إنساني متسامٍ، يتساوق مع تطلعات ومساعي الأنثى المُحبَّة، تلك الأنثى التي لا تريد أن تحول حبها وحياتها وآامالها وأمنياتها إلى حرائق عيانية، بل تحاول وتشدد على الأنثوية وتجليات الذات، وفي الوقت عينه تحاول أن ترسخ مفاهيم جد سريالية لا بل تسعى إلى تثبيت الفنتازي المنبثق من فورة التفاصيل وتجسيداتها الحيوية، بالغة الجمال والفتنة، وها هي تقول:

"وعدت نفسي ألا أذوب ثانية في قِدْر الطبخ،

ولكنْ ما العمل؟

 شئتُ أم أبيتُ، فإني داخل القدْر،

على خدي لعابُ البصل

وعصارة الكرفس".

 

وللتوكيد على سياق التهكم وحس المفارقة في شعرها، المغلف بأسلوب الدعابة السوداء، تعمد إلى التناظر غير المنطقي، التهكمي والميال إلى الظهور بمظاهر غرائبية، تنحو نحوًا كوميديًا تارة وأخرى جوهريًا مليئًا بالتوريات والاستعارات الساطعة واللامعة كقولها في قصيدة "بالتساوي" حين تميل إلى نسق المُلحة المُداعِبة:

"كلما ارتديت ملابسي

وازدهيتُ كطاووس

ترتدي أنتَ الملابسَ

وتزدهي مثل كنغر،

أكلما اتخذتُ لنفسي شكلاً

كأن أدخلَ المثلث،

تكتسب أنتَ شكل بيضة".

 

ويختم "هكذا هي قصائد نينا كيسيان عبارة عن أيقونات ملوّنة بالرغائب والعلامات والصور الموحية، إضافة إلى درجة التنغيم التي تلوح على بنيتها الميلودية، مفيدة من بهجة موسيقية تعتمل وتمور في جوانحها، هي المؤلفة الموسيقية، العارفة بخبايا هذا الفن الرهيف - التوأم أو الركيزة الأساسية لعملية الإبداع الشعري حيثما كان. جميع قصائد هذا الكتاب تندرج ضمن هذا التصنيف المشار إليه أعلاه، أي باختصار إنها قصائد مشغولة بإتقان وتفان كبيرين، جديدة وغريبة وحالمة، تستفز فينا اليقين والطمأنينة والقناعات أنى كان نوعها، قصائد فيها خبرة وصدق ومعاناة روحية، فضلاً عن رونقها الفاتن، ودهشتها التي تبطّن تضاعيفها الداخلية، ناهيك عن حبكة النسيج الشبكي الممتد في أعماق القصيدة، على نحو لافت وخلاق وجوهري".

 

نماذج من نصوص كيسيان

** غليان

وعدتُ نفسي،

بأنْ لا أذوبَ ثانيةً

في قدْر الطبخِ،

ولكنْ ما العمل؟

شئتُ أم أبيتُ

فإني داخل القِدْرِ،

على خدي لعابُ البصل،

وعصارةُ الكرفس،

هأنذا مطهوّةٌ

على نحو بطيء.

 

** قُبل

 قبلاتنا بالمئاتِ

بالآلافِ

حتى بالملايين،

من يعرف ذلكَ،

أنا أبداً لم أعددهم، فاكهتي

سناجبي

قرنفلاتي

أنهاري

سكاكيني،

 

يمكنني النومُ في فمكَ،

أُغني

وأموت هناك،

مرّاتٍ

ومرّاتٍ،

ذلك الفمُ هو ميناء عميقٌ،

يفرغ حمولته

بعد رحلةٍ طويلةٍ،

حتى الآنَ لا أزال أتوقُ إليه

لكي أبلغه.

 

قبلاتنا كانت معارك ثقيلة،

بطيئة وصعبة، حيث الدم،

الصوتُ والذاكرةُ

كلاهما اشتركا في ذلكَ،

 

آهِ

كم كنتَ غيوراً،

أنا الماءُ الذي شربتَهُ،

أنا الكلماتُ التي نطقتَها

عبر تنهداتك الزرقاء،

إنها غيرةُ الجائر،

إنها الفاصلُ الوداعيّ لفمينا.