رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


تمام الكلام

12-4-2021 | 19:20


هويدا عطا

هويدا عطا

الرحلة الأصعب

ما زلت أشعر بدبيب أناملك الرقيقة الدافئة البيضاء تتخلل شعري الغارق في لونه الذهبي كأشعة الشمس الغاربة، وتنساب برقتك التي عهدتها منك إلى غرتي لتصفيفها كما كنت تحبين، بنفس شكل تسريحة فيروز الطفلة المعجزة، والتي اشتهرت بها أنا أيضا بين قريناتي في زمن طفولتي وصباي، وربما حتى وقت قريب.

صباحك لم يكن يشبهه أي صباح من قبل، الآن هو صباح بلون فراقك القاسي، وغياب رقتك الطاغية، ونور يغمر وجهك المسجى على قلبي حتى الآن، حينما استسلمت للموت بكل يسر وهدوء وطمأنينة، وكأنك تعمدت أن تغفو روحك بعيدا عن ناظري، كي تهربي من أسري وحرصي عليك وعشقي لك، فلا أنت تتحملين فرارك.. لأنك تعلمين أنني سأصير مجذوبة في بعدك عني، ولا أنا سأتحمل بشراً غيرك بقلبي، وكيف أستبدلك وأنت صانعتي وعليمة سري وأفكاري الحائرة قبل أن أسطرها، وكلماتي قبل أن أنطقها.

المشهد لم يكن يليق إلا بك أنت فقط، فلم أشعر قلبي كبيراً للغاية من قبل مثلما أحسسته بتلك الساعات العاصفة، حينما اتسع كمحيط ليسكن تابوتك فيه بكل قسوة ومحبة معا، في أصعب رحلة قمت بها بحياتي. رحلة استغرقت ساعات السفر الشاق من القاهرة إلى مدينتي التاريخية جرجا، المركز الأشهر بمحافظة سوهاج، المدينة التي كانت من قبل هي المحافظة مسقط رأس مينا موحد القطرين وإيزيس وأزوريس ومقصد التجار والأعيان.

ساعات رغم طولها إلا أنني طالما استمتعت بها من قبل، فأنا من عشاق تفاصيل وحكايا الترحال والسفر بكل ما فيه من غرائب الخلق وعجائب الخالق، لكن الساعات الممتعة تحولت في معيتك الأخيرة إلى جبال ثقال جاثمة على صدري الذي كان ما زال يشعر بدفء جسدك، وأنفاسك الذكية، ومع هذا كنت أتمنى أن لا تتوقف أبداً، وأن أظل حاضنة تابوتك ما بين قلبي وذراعي إلى ما لا نهاية، حتى وإن كنت بلا حياة جسدية لكن روحك كانت ما زالت تفيض بكل حياة.

تلك الرحلة الرهيبة بدأت من أمام بيتي بحي المعادي، البيت الذي أحببته يا أمي حتى الموت فيه، وأتساءل حتى هذه اللحظة الآنية: هل أنا غالية عليكِ إلى درجة أن تفضلي بيتي عن بيتك الذي سكنتيه عمرك كله ولم تخرجي منه إلا قليلا، لتختمي فيه أنفاسك وعمرك، وتتركي رسالة عميقة كنهر من حب، وإن كانت بدون حروف، لكنها مليئة بكل ما عرفته البشرية من أبجدية الكلمات وغموضها الساحر العجيب.

هل كانت روحك معلقة بي إلى حد إطلاقها لبارئها بين جدران عشي الواهي الذي زرتيه قليلا وتمنيت استمراره المستحيل؟ .

آااه يا زهر الرمان.. لكم تعبت كثيراً بحياتك القصيرة حتى اقتطفت مبكراً منها قبل أن الهناء بها، فحينما بدت تطل عليك نسمات السعادة أغلقت بابك سريعا في وجهها دون قصد، ووليت راحلة دون عودة. 

الآن لا مفر لك من الهروب من ناظري وذاكرتي. ستظلين سجينة محبتي وحنيني لاستعادة رؤياك وسماع سردك الشهي بصوتك العذب النقي، وجمال طلعتك وخلقك الثري، ولكم أضناني البعاد عنك، هذا الشقي، فامنحيني صبرا وأملا جديدا بلقائك البهي. وهل هناك فرصة للقاء جديد يا زهر الرمان حتى ولو في أحلامي التي ما عدت تزورينها منذ سنوات إلا نادراً.

 قولي لي ما لذي أبعدك عني وأغضبك مني؟ فأنا ما زلت أسقي وريقات ريحانتك وياسمين ذكرياتك معاً بحنيني إليك  ودعائي لك وقراءة ما تيسر من الآيات، رحمة ومحبة لروحك الطاهرة كما طلبت مني بصوت واهن وعيون حزينة قائلة برقة وصوت خفيض: فلتقرئي لي القرآن لا تنسي يا هويدا، فرددت عليك بفزع شديد خوفا عليك من شبح الموت المهيب: لماذا تقولين لي هذا يا أماه؟ ثم رددت علي: ومن غيرك سيقرأه علي يا ابنتي.

اطمئني يا كل الرمان وزهوره الجميلة، ما زلت علي العهد والوعد، ما زلت أتنفسك وصباحك الحزين بصوتك الحاني، وطلبك الأخير والأغلى، ما زلت أقرأك سطوري المضيئة، وأكتبك حروفي الثمينة بلا انقطاع.