مصر روح رمضان
يأتي شهر رمضان المبارك، وتأتى معه روائحه الذكية الإيمانية في كل مكان، حيث نستعيد أنفسنا وعلاقتنا الطيبة بخالقنا وأحبائنا وكل من نتلمس فيهم محبتنا في الله الرحمن الرحيم.
معه نستعيد ذكرياتنا مع من أحبونا بصدق ومن كل قلوبهم، ذكرياتنا وتفاصيلها التي تحاصرنا بمجرد أن يطل هلاله على رؤوسنا بفرح. ذكريات لا تسقط أبدا مهما مرت السنوات وطالت الاعمار، بل هي حصيلة ما عشناه، وأجمل ما عشناه وأغلاه. ذكريات ستظل مضيئة، تومض في قلوبنا طالما ظلت تنبض. ذكريات مسكونة بوجوه والدينا، سر وجودنا، وجوه ظلت لسنوات طويلة لصيقة بملامحنا ودواخلنا وكل ما نصبو إليه بالحياة من آمال وطموحات وأحلام في صبانا.
وجوه لقلوب سقتنا من حنانها بفيض غامر، وبطيبتها ولهفتها وخوفها علينا بلا توقف. وجوه لعقول أنارت طريقنا وخطواتنا، ومنحتنا الأمن والأمان تحت أضواء محبتها، وألهمتنا أفكاراً عملنا بها ونجحنا من خلالها، وبتنا نفتخر أننا نتاج صنعها.
وجوه وأرواح علمتنا المبادئ الأخلاقية القويمة التي اتخذناها أساسا ونهجاً لحياتنا مع الآخرين.. وجوه أهدتنا قيم وتراث الأجداد لنحافظ عليه بامتداد أعمارنا، بل ونمنحه لأبنائنا وأجيالنا القادمة ليقوموا بواجبهم تجاهها كما فعلنا.
خلال أيام رمضان النورانية نعيش عودة الروح الدافئة من جديد في حنايا بيوتنا العامرة بأصحابها ومحبة أفرادها، وما لذ وطاب من الموائد الرمضانية الملونة بأشهى وأطيب أصناف الطعام والشراب التي يتميز بها شعبنا الحبيب، والذى يقوم كل بيت فيه باستعداد خاص لرمضان في كل شيء قبل ظهور هلاله بأيام عديدة، من تجهيز زينة رمضانية بديعة تعلق على واجهات البيوت والشرفات، وفي كل شوارع مصر وحاراتها الشعبية الغناء، والقرى والمدن والمحافظات، زينات شعبية ويدوية يصنعها الأطفال من قصاصات المجلات المزركشة التي تلصق ببعضها البعض بعجينة الدقيق، وصولاً إلى زينات أغلى سعراً تشترى جاهزة من المكتبات لامعة بكل الألوان والأشكال. هي زينة بلون الفرح الذي يغمر الأجواء الرمضانية التي تشكل المشهد الخاص به والمتفرد بربوع مصر كلها، حيث تشكل لحظة آذان الإفطار شكلاً أخر من الفرحة العارمة المنثورة بكل أرضها وبيوتها، تسبقها ملامح لا تتغير أبدا علي مر الزمان، تبدأ من صوت الإذاعة المنطلق بهيبة عذبة لصوت النقشبندي بابتهالاته الرمضانية الشهيرة الصادحة بكل أركان القلب والمنزل، وحديث الشيخ الشعراوي الذي كان يمنحنا الشعور بالسكينة والأمان وهو يقرأ ويفسر آيات القرآن الكريم بانسيابية مؤثرة عبر الشاشة الفضية التي تربينا عليها، وبالطبع مع صوت آخر خارج من المطبخ أثناء إعداد الكنافة والقطايف والزلابيا الذي لا تخلو المائدة اليومية منها، مع قمر الدين الشراب الأشهر بالشهر الكريم، إلى جانب صوت فرحة الأطفال التي تتملكهم بهذه الأجواء فيزيدونها سعادة بألعابهم ومرحهم، وأخيراً صوت المدفع العتيق قبل صوت المؤذن، ليختمما كل هذه التفاصيل الإنسانية البديعة تكتمل مع بدء تناول طعام الإفطار مع إحساس غامر بمحبة وطاعة الخالق، بعدها كنا نجتمع أمام فوازير نيللي ومن بعدها شريهان، اللتين انقطعتا منذ سنوات طويلة عن تقديم الفوازير، وحل محلها كم هائل من المسلسلات بعضها محتمل والآخر لا يحتمل لدقيقة واحدة، وكان الناس بعد الفوازير يجتمعون لصلاة التراويح التي ينتهون منها وبداخلهم سلام نفسي عميق، ثم تدور الساعات ونبدأ بانتظار المسحراتي معلناً عن موعد تناول السحور، وقدوم يوم جديد من الصيام لننام سعيدين على صوت ابتهالات الفجر التي يجيء من مساجد مصر العريقة، ومن بينها مسجد الحسين الذي يقع بقلب أشهر منطقة تاريخية وسياحية بقاهرة المعز التي تعج بأكبر وأجمل مشاهد رمضان حتى الصباح، فتجذب إليها الزائرين من كل أنحاء العالم لمعايشتها عن قرب بشوارع وحارات الحسين والمعز والأزهر والجمالية وغيرها بأعداد لا تعد ولا تحصى، شوارع وحارات عتيقة وتاريخية ترتدي زينة رمضان في أبدع حليها، وكأنها تقول: ليس هناك أي مكان آخر بالعالم تشعر فيه بروح رمضان الحقيقية والمبهرة إلا بأرض مصر المباركة، مصر الخالدة التي قد تمرض أحياناً، وتعاندها الظروف، لكنها لا تموت أبداً.