الأبنودي وحليم.. حكاوى عدى النهار وخصام ما بعد النكسة
كما نعرف جميعًا أن الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي قد كتب العديد من الأغنيات للعديد من المطربين أبرزهم عبد الحليم حافظ، محمد منير، محمد رشدي وفايزة أحمد وغيرهم، وكان لعلاقة الأبنودي بالمطربين حكاوي مختلفة وممتعة أبرزهم حكاوى علاقته بعبد الحليم حافظ، الذي أحبه الأبنودي حبًا جمًا وكتب له أكثر من ١٥ أغنية أبرزهم عدى النهار، أقول التوبة، أحلف بسماها، أحضن الحبايب و المسيح.
كان الشاعر عبدالرحمن الأبنودي يحب صوت عبدالحليم كما أحبته الجماهير المصرية وكان يعلق صوره في غرفته، قبل أن ينتقل للقاهرة ولم يقابل العندليب أبدًا إلا حين اختطفه حليم بطريقة فكاهية ليكتب له الأبنودي أول أغنياته.
"وأنا كل ما أقول التوبة يا بوي، ترميني المقادير يا عين
وحشاني عيونه السودة يا بوي ومذوبني الحنين يا عين"
كانت أغنية "أقول التوبة" أول تعاون بين الأبنودي والعندليب، وقد كان الأبنودي ذات يوم يسجل في الأستديو مع بليغ حمدي وإذا برجُلين يرتدوا النظارات السوداء والبذلات السوداء يقتحموا الأستديو ليطلبوا من الأبنودي أن يمشي معهما بصمت، تخيل وقتها الأبنودي أنهما تابعين للشرطة أو أنه صدر قرار باعتقاله، فصار معهما حتى وصلا إلى بيت عبدالحليم وقتها كان أول لقاء يجمعهما، صرخ الأبنودي "هو أنت عبد الحليم، يعني أنا مش مخطوف، نشفتوا دمي!" ضحك العندليب وطلب منه أن يكتب له قصيدة يغنيها بلهجة الأبنودي المُحببة فكتب له "أقول التوبة" ولحنها بليغ حمدي وكان ذلك عام 1965.
حين سمع عبدالرحمن الأبنودي العندليب يغني "أقول التوبة" في إحدى حفلاته ثارت ثورته وتبرأ من الأغنية بسبب لحنها السيء" واصفاً إياها بموسيقى السيرك أو الملاهي الرخيصة " وأوضح فيما بعد أن في ذلك إهانه للتراث وللهجته.
وعلى النقيض تمامًا من أغنية "أقول التوبة" جاء موال النهار، تعاون العندليب والخال الأكثر شهرة وحبًا من الجماهير العربية كلها، كانت "عدى النهار" هي أول أغنية غناها العندليب بعد حرب 1967 ولحنها بليغ حمدي أيضًا.
"عدّى النهار و المغربية جايّة
تتخفّى ورا ضهر الشجر
و عشان نتوه فى السكة
شالِت من ليالينا القمر"
يقول عبدالرحمن الأبنودي عن موال النهار في حوار له نشر في الثمانيات : موال النهار هذه الأغنية كانت من أكثر اسباب احترام الشعب العربي والمصري لي بعد النكسة، وهي الأغنية الوحيدة التي رصدت واقع وهموم، وهى الوحيدة التي شهدت أنه كانت وان هذه الهزيمة كان لابد أن تقع بحكم أوضاعنا ، احترامهم لي تسببت فيه هذه الأغنية كما لم تفعله لي قصيدة أخرى من قصائدى الجيدة وهذا يبرهن على أن فن الأغنية ليس غنا تافهًا بای صورة من الصور.
وأكمل :نجحت موال النهار هذا النجاح وأثرت في الناس بهذا القدر ومنحتنى هذا الاحترام أن أنساق وراء أغنيات سياسية ،أوأغنيات مناسبات سرعان ما تكنسها الأحداث الجديدة ،أو حدث لبعض الانتهازيين الذين صنعوا أغنيات سياسية قضت على معظمها أحداث جدت في المنطقة العربية، فلا أظن أن الزمن سوف يفلت أغنيات مثل موال النهار مرة أخرى.
ظهرت كلمات الأبنودي مرة أخرى أكثر حماسية وتجليًا في "أحلف بسماها" يشدو بها العندليب بعد النكسة ليحث كل أرجاء مصر على استرجاع سيناء الحبيبة ولن نبالغ لو قلنا أنها من الأغنيات الوطنية العلامة البارزة جدًا في كل مانتغنى به حتى يومنا هذا.
وعن حب الأبنودي للعندليب يقول في إحدى حوارته المجمعة عام 2007 ،أن عبد الحليم لم يكن مجرد مطرب - حتى لو قلنا أنه أفضل المطربين - لكنه كان مواطنا مخلصًا نقش تاريخ الأمة في الفترة التي عاشها على قلوبنا وعقولنا، أو أتاح لنا - نحن الشعب - أن ننقش هذا التاريخ على حنجرته الذهبية، لتكون المحصلة غناء نبيلًا يمكن أن ترصد من خلاله أحلام الأمة ما تحقق منها وما أحبط، ومحاولاتها التي نجحت والتي أخفقت أيضا، ولم تكن موهبته في حنجرته فحسب، لكنه تمتع أيضًا بلياقة عقلية ووجدانية رائعة، تمتع برؤية ووعي جعله قادرًا على تحديد خياراته والدفاع عنها.
وفي حوار آخر له في الثمانينات ذكر الخال أنه قد قال يومًا أن صوت عبد الحليم حافظ هو جريدة توزع في العالم العربي أكثر مما توزع كافة الجرائد العربية مجمتعة وهو قول
حقیقی . . لكن هذا لا يمنعني من التناقض معه بعد النكسة مباشرة حين أراد أن يتخلى عن هموم الوطن لنستمر في عمل أغنينات عاطفية متجاهلين النضال الذي كانت تخوضه أمتنا في ذلك الوقت.
ومن أهم المواقف الطريفة بين العندليب والخال يقول الأبنودي: "مرة قلت لعبد الحليم حافظ: ألا يزعجك أني كتبت لك كل هذه الأغاني الوطنية وأنك لم تفكر في أن الأغنية هي مصدر رزقي الوحيد؟ ألم يزعجك أنني أعمل معك منذ ستة أشهر متصلة من دون أجر؟ «فرد بمكر: سمعتك وأنت تقول في الراديو أن المطرب بالنسبة إليك ليس أكثر من جريدة تنشر قصيدتك على صفحاتها، وها نحن نشرنا لك قصائدك في «جريدة عبد الحليم» أوسع الصحف العربية انتشارا، وأظن أن الواجب أن تدفع أنت لي!. فضحكا الأثنان ولم يتطرقا للموضوع مرة أخرى.
ظلت علاقة وطيدة وثيقة بين الشاعر الكبير المبدع والمطرب المرهف صاحب الصوت العذب حتى اختلفا حين قرر عبدالحليم أن يفتح أدراجه بعد النكسة ويغني أغنيات عاطفية ولم تكن دماء الجنود في سيناء قد جفت بعد، وقتها قال الأبنودي أن هناك شرخًا قد وقع في علاقتنا وظل حتى موت عبد الحليم حافظ، لكن لم ينفي هذا الخلاف أبدًا الحب والحنين الذي ظل الخال يكنه للعندليب حتى وفاته.