في ذكرى ميلادها.. الأميرة أوجيني تزور مصر متخفية
في منتصف نوفمبر من كل عام، تأتي من أوربا سيدة عجوز إلى مصر، ترتدي ثياباً سوداء.. تضع على رأسهاً قبعة سوداء تخفي معظم وجهها.. لا تتحدث مع أحد إلا قليلا، تمسك بيدها شمسية تتكئ عليها أحياناً وتستظل بها أحياناً أخرى.
في صمت تذهب إلى الأقصر، تتجول بين المعابد وأطلال الحضارة المصرية وحدها، ثم تعود إلى بورسعيد وتتجول في شارع "أوجيني" مترجلة، تنظر إلى البيوت والمحال وتنظر إلى أرض الطريق، فهذا الشارع سُمي باسمها، هنا كانت تركب عربة خيول ملكية مع الخديوي إسماعيل، لترى سحر وجمال بورسعيد قبل حفل افتتاح قناة السويس، تقف طويلاً على شاطئ القناة كأنها تناجي شيء ما.
تتحدث مع ماء القناة بالنظرات، وترد عليها النسمات بالترحيب، وكأنما يقول لها الماء والنسمات، نعم.. نحن نتذكرك يا أميرة أقيمت من أجلها القصور، واحتفل العالم في ظلها على ضفتي القناة عام 1869لعدة أيام وليالٍ عند افتتاح قناة السويس.. دون أن تفتح شفتاها ترد على الماء وقد بدأت الدموع تسيل على وجنتيها، نعم أنا أيضاً أتذكركما، لذا آتي أليكما كل عام لأستعيد معكما الذكريات.. هل تتذكر مع من حملتني على صفحتك؟ فيرد الماء نعم فقد كانت تتبع سفينتك عدة سفن أخرى تحمل ملوك وأمراء من كل دول العالم، منهم فرانسوا جوزيف إمبراطور النمسا وملك المجر وولي عهد بروسيا والأمير هنري شقيق ملك هولندا والأمير عبد القادر الجزائري وسفيرا روسيا وإنجلترا بالأستانة ودليسبس ونوبار باشا والأمير توفيق ولي العهد وكثير من الأسرة العلوية.. حملت موكب سفنكم يوم افتتاح القناة وقد زُينت السفن وضفتي القناة بالأعلام ولافتات الترحيب، وزُينت شوارع مدن القناة الثلاث بالورود.
تعود السيدة إلى القاهرة ولم تغير رداءها الأسود ولا قبعتها.. وفي القاهرة تعبر كوبري قصر النيل على قدميها المثقلتان والدموع في عينيها، حتى تصل إلى قصر الجزيرة في الزمالك تحوم حول القصر.. تقف طويلاً في الخارج، تستعيد الذكريات، ترسل نظراتها إلى القصر عبر السياج الحديدي، وتقول في خاطرها أنشئ هذا القصر من أجلي، على أجمل ربوة في الزمالك، قضيت به أجمل أيام عمري عندما دخلته لأول مرة وجدته قصراً أسطورياً، بناه من أحبني على الطراز الفرنسي حتى لا أشعر بالغربة وأنا في مصر ، حتى الأثات والستائر والتحف جلبها لي من فرنسا ليسعدني، وأحضر لي أيضاً الطهاة الفرنسيون والإسبان ليعدوا لي ما أحبه ما الطعام.
تفر الدموع من عيني السيدة العجوز مرة أخرى، وترمي نظرة إلى إحدى النوافذ التي تطل على الحديقة، وتقول في خاطرها: نعم تلك نافذة غرفة نومي التي ما إن علم الخديوي إسماعيل أني أحب زهور الكرز حتى أسرع يأمر البستاني أن يزرع عدة شجيرات تحت نافذتي؛ لأسعد برائحتها ويملأ عبيرها غرفتي، هل كان كل ذلك لأني استضفت الخديوي إسماعيل عدة مرات في قصرنا الملكي أنا وزوجي عندما كان في فرنسا، هل كان ذلك كله رداً لحفاوتنا به؟ لا بل أنا متأكدة أنه كان يكن لي عاطفة سامية جعلته يقيم كل تلك الاحتفالات التي تحدث عنها العالم لمائة عام كما قال، وجعلني أميرة حفل اأفتتاح قناة السويس وحفاوته بي لم أشهدها من قبل في حياتي.
كانت تلك هي الأميرة أوجيني إمبراطورة فرنسا التي احتفى بها الخديوي إسماعيل وأنشأ من أجلها قصر شيده لها، وقد سمي قصر الجزيرة وبعد ذلك أصبح فندق "الماريوت"، وأنشأ من أجلها كوبري قصر النيل، وأيضاً حديقة الأسماك، وعندماً علم برغبتها في زيارة أهرامات الجيزة مهد لها شارع الهرم وأمر بزرع الأشجار على جانبيه حتى لا تشعر أوجيني بحرارة الشمس، وبنى لها استراحة كي تجلس فيها في منطقة الهرم لتصبح تلك الاستراحة بعد ذلك فندق "مينا هاوس".
تبدلت أحوال أوجيني بعد عودتها إلى فرنسا، فقد قامت الحرب عام 1870التي تطالب بإسقاط عرش زوجها نابليون الثالث وتركت فرنسا هاربة من باب خلفي بناءً على نصيحة سفير النمسا في فرنسا، ثم مات زوجها وابنها في عز الشباب، لتتنقل بعدها أوجيني للعيش في عدة دول أوربية، وتمر السنوات، حتى أصبحت أوجيني سيدة عجوز.
أصبح الحنين يراودها لزيارة مصر التي عاشت بها أجمل أيام عمرها؛ فحرصت على زيارة مصر عدة أعوام متتالية وهي متخفية بعد 30 عاماً من افتتاح القناة، حرصت أوجيني عند زيارتها لمصر أن تزور كل مكان قضت به بعض الوقت في شبابها مع الخديوي إسماعيل، وكأنها تستعيد ذكريات الماضي الجميلة، وفي إحدى السنوات حرصت على زيارة أولاد وأرامل الخديوي إسماعيل ومن تبقى من أسرته وزارت زوجة الخديوي عباس حلمي الثاني، وعلم الشاعر الكبير حافظ إبراهيم بزيارتها لمصر وهي تستعيد ذكريات الحفاوة في الشباب، فكتب فيها أبيات تقول "أين يوم القنال يا ربة التاج .. ويا شمس ذلك المهرجانِ .. أين مجرى القنال .. أين مميت المالِ .. كنتِ بالأمس ضيفة عند ملك .. فانزلي اليوم ضيفة في خانٍ .. واعذرينا على قصور كلانا .. غيرته طوارئ الحدثان" .
- بالأمس ذكرى ميلاد أوجيني المولودة في إسبانيا في 5 مايو 1928 وبعد رحلتها مع الحياة عادت أوجيني إلى إسبانيا مسقط رأسها حيث رحلت في 11 يوليو 1920 عن عمر يناهز 94 عاماً .