د. محمد أبو الفتوح
رأس نفرتيتي (أو ميريت آتون) من الكوارتزيت – متحف برلين
قطعة نحتية فائقة الجمال تنفيذاً، وملامحاً، رغم كونها غير مكتملة، وغير ملونة إلا إن لون الحجر وطبيعته أكسبتها بعدا جمالياً لا تنكره عين ولا يخطئه نظر. ولعلها تؤكد ما كان لصاحبتها من جمال، فقد كانت نفرتيتي، الجميلة اسماً ووصفاً وحقيقة، كانوا ينادونها نفرتيتي "الجميلة التي أقبلت"، وكأنما أقبلت مع الضياء في الشروق أو مع نور القمر في هدأة الليل أو مع نسمة الفجر الرقيقة أو في سكون السحر، وكان اخناتون "الروح الحيَّة لآتون"، ذلك الذي وسم نفسه بالـ "عائش فى الحقيقة" متيَّماً بها وعاشقاً لها.
قال متغزلاً فيها، مَظهراً وجوهراً، صوتاً وصورة: "جميلة الوجه، سيدة السعادة، التى يسعد الإنسان عند سماع صوتها، سيدة الرشاقة والجاذبية، المحبوبة الكبرى، التى يسرُّ طبعُها ربَ الأرضين، بهيجة بتاجها، زائدة الجمال سيدة الأرضين". لم يكن وحده من كان يبصر جمالها الظاهري والباطني، فجمالها لم يكن لتخطئه عين من يراها، فقد وصفتها النصوص القديمة بأنها: "وارثة كل البركات.. المحبوبة التى تملك كل الحسن.. ذات الطلعة المتألقة بجمالها وجواهرها.. والمحبوبة من آتون.. نبع الحب وزوجة الملك الأثيرة.. نفرتيتي.. الخالدة إلى الأبد".
والحق أنها كانت تفيض شباباً وحيوية، القوام ينبض رشاقة.. رأسها يرتفع فوق عنقها النحيل مثل زهرة اللوتس النابتة من رحم الماء، ملامحُها قصيدةٌ شعر تعزف موسيقى داخلية وخارجية الإيقاع، عيناها حقول قمحٍ أخضر تكتحل سوسناً.. والشفتان كرمتان.. تطوِّقان فماً رقيقاً.. والوجنتان تفاحتان.. والأنف نبيل.. والذقن بديع المثال.
يحتوي متحف برلين على آلاف القطع الأثرية المصرية، لعل أهمها المجموعة الفريدة من المنحوتات والنقوش والقطع الأثرية التي تنتمي إلى الفن الآتوني، أو فترة اخناتون (الأسرة الـ 18، الفترة من 1340-1335ق.م)، ولا ينافسه في ذلك سوى المتحف المصري في القاهرة.
وإذا كان التمثال النصفي، أو الرأس الملون، للملكة نفرتيتي، بملامحها لأنثوية الحالمة، وعيونها المطعمة وألوانها المعبرة الناطقة تعد من أروع الأمثلة على مقتنيات المتحف من هذه الفترة التاريخية المهمة من تاريخ الفن المصري القديم، فإن الرأس غير المكتمل المصنوع لها، أو لابنتها "ميريت آتون"، من حجر الكوارتزيت لا يقل أهمية وقيمة وجمالاً عن الرأس الملونة تلك المصنوعة من الحجر الجيري.
تم العثور على هذا الرأس، المميز في تفاصيله ونحته، عام 1912م، مع العديد من التماثيل الصغيرة والأعمال النحتية الأخرى، التي اكتشفت في ورشة النحت الخاصة بـالنحات " تحتمس" بمدينة أخناتون "أخيتا تون" المهجورة (تل العمارنة- المنيا) خلال عمليات التنقيب التي أجرتها بعثة الحفائر الألمانية التي عملت في هذا الموقع في الفترة من 1911-1914م، تحت رئاسة عالم الآثار لودفيج بورشارد Ludwig Borchardt .
وعلى الرغم من صغر حجم الرأس، وكونه غير ملون، وغير مكتمل، إلا أنه يحمل سمات فنية وجمالية عالية، جعلت منه قطعة نحتية فريدة، وكونه ينتمي للملكة الجميلة نفرتيتي، التي تصورها تماثيلها ونقوشها كنموذج لجمال الأنثى، ونموذج للملكة الجميلة محبوبة الشعب، حيث يؤكد هذا الراس القيم الجمالية التي اشتهر بها الفن الآتوني، واشتهرت بها تماثيل نفرتيتي، ومنها التمثال النصفي الملون في متحف برلين، الذي أشرنا له من قبل، والرأس غير المكتمل من الحجر الرملي في المتحف المصري. فجميع تماثيل نفرتيتي، والنقوش الجدارية لها، غالباً ما تظهرها بملامح رشيقة؛ فعظام الوجنتين مرتفعتان، والعينان مائلتان، والحواجب مقوسة، والفم ممتلئ، والعنق نحيل، وترتفع قليلاً لأعلى في المقدمة مما يكسبها هيبة وقاراً، وجميعها تم تنفيذها بصورة تقدمها كشخصية ملكية مثالية، ربما بدت فيها نفرتيتي مختلفة تمامًا عن صورها في الحياة الواقعية.
من المرجح أن هذا الرأس، الذي يرى البعض أنه ربما لابنتها "مريت آتون"، تمَّ نحته من حجر الكوارتزيت، هو صخر متحول عن الحجر الرملي يتميز بصلادة عالية؛ ليتم تثبيته على تمثال مركب، كما يتضح من المنطقة المحززة في الجزء العلوي من الرأس، والتي من المرجح أنها كانت معدَّة لتركيب تاج بها أو غطاء رأس (باروكة) من شعر مستعار، حيث يتم ربطه أو ربطها باللسان الموجود في الجزء العلوي من الرأس. ولا نعرف ما كان سيبدو عليه التمثال النهائي عند تجميعه بالكامل، وفي أي سياق كان من المفترض وضعه، ومع ذلك، تتضح فيها بعض الخطوط التوجيهية السوداء حول العينين، وعلامات الحواجب، وإحدى السمات الغريبة التي يمكن ملاحظتها هي أن الشفاه قد تم رسمها بظل أحمر قبل اكتمال رأس التمثال. ومن الواضح أن هذه الرأس تعطينا فكرة عن عملية نحت التماثيل المركبة من أكثر من جزء وكيف كان النحاتون يجمعونها.
لا ندري كيف خرجت هذه القطعة النحتية من مصر، هل خرجت خلسةً، وبطريقة خداعة مثلما حدث مع أختها الملونة، أم بطريقة شرعية عن طريق اقتسام نتائج الحفر كما كان متبعاً في ذلك الوقت، أم بطريق غير هذا وذاك، ولكن المؤكد انها لا زالت مع أختها بعيدة عن أرضها، رهينة الأمس والزجاج والجدران، لا شيء غير الصمت يكسنها، لا سطوة الضجيج حولها، ولا احتفاء الضوء الغامر بها يؤنسها كلا ولا أناقة المكان ولا كثرة الزوار.