رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


قيمة الاستقامة

4-5-2021 | 20:09


د. أسامة فخري الجندي,

من المعلوم أن الإنسان لا ينال السعادة، والطمأنينة، والحياة الطيبة، والتوفيق، والفوز بالآخرة إلا إذا استقام على منهج الله عز وجل أمرًا ونهيًا، إذن فأداة تحقيق كل ما يرجوه الإنسان من خير في الدنيا والآخرة إنما يكون في الاستقامة.

وهذا ما أكدّه الله عز وجل، حيث قال: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [سورة فصلت : 30].

والمتأمل للآية الكريمة يدرك تمام الإدراك ما أعدّه الله عز وجل لمن استقام على أمره، من طمأنينة القلب وعدم الخوف أو الوجل مما هو آتٍ، أو الحزن لما هو فات، وهل يمنع الإنسان من السعادة إلا مثل هذا الخوف والحزن؟

فكل مَنْ تحقّق بالاستقامةِ فقد ضمن الله عز وجل له التمتعَ بالأمن وعدمَ القلق، والسكينة والطمأنينة، وأصبحت بواعث نفسه مهيَّأة لاستقبال ثمار استقامته على منهج الله عز وجل وعدم الميل والانحراف عنه.

ومما لا شك فيه أن أبوةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت قائمة على ذلك، فهو صلى الله عليه وسلم كان يعامل أولاده وأحفاده وأولاد المسلمين بمطلق الرحمة، إلا أنه كان يُوجّههم إلى العالم الأخروي، وكيفية الاستقامة في كل قول أو فعل أو تصرف أو سلوك.

ولا شك أن كل إنسان منّا يرجو ضمان السعادة للأبناء في الدنيا والآخرة، من هنا كان من قيم التأسيس ربط الأبناء بالمنهج الإلهي، وبترجمة التعاليم الإيمانية سلوكًا عمليًّا، وواقعًا مجسَّدًا، يكون ذلك بسلوك الأبوة والأمومة؛ لينعكس عليهم، ويكون أيضًا بغرسه في نفوسهم وعقولهم.

والاستقامة ضد الاعوجاج، وهي مرور العبد في طريق العبودية بإرشاد الشرع والعقل والمداومة [التعريفات للجرجاني].

وقد رُوي عن سفيان بن عبدِ الله الثَّقفي -رضي الله عنه– قال:(قلتُ يا رسُول الله قُلْ لِي فِي الإسلامِ قَوْلاُ لا أسْألُ عنهُ أحداً بعدك، قال: قُلْ آمنْتُ باللَّهِ ثم اسْتٌقِمْ) [أخرجه أحمد].

وقال عمرُ بنُ الخطاب -رضي الله عنه– : الاستقامةُ أن تَسْتَقِيمَ على الأمْرِ والنَّهْي، ولا تروغ رَوَغَان الثَّعلب (تفسير البغوي).

ولعظيم مكانة الاستقامة وما يترتب عليها من نتائج وثمرات دنيوية وأخروية، كان الأمر من الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سورة هود :112]. وحين نزلت هذه الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "شَيَّبَتْنِي هُودٌ وأَخَوَاتُهَا" [شعب الإيمان للبيهقي]. يعني: سورة هود، والذي شيّب النبي صلى الله عليه وسلم فيها هذه الآية الكريمة من خلال هذا الأمر الوجوبي بالاستقامة.

ومن هان كان حثّ النبي صلى الله عليه وسلم للأمة بقوله: "سَدِّدُوا وَقَارِبُوا" [أخرجه البخاري]، والمقصود بالسداد هنا: الاستقامة [لسان العرب].

والاستقامة ينبغي أن تكون خالصة لله عز وجل من حيث الالتزام بها أمرًا ونهيًا؛ لأنها قانون إلهي، وإن وُجِدَ لها ما يؤكّدها من القوانين البشرية، فالاستقامة هنا تتحقق بألا يشوبها شهوة خفية، أو أن يمتنع الإنسان عما نهى الله عز وجل لأجل عقوبة بشرية مع عدم النظر إلى العقوبة الإلهية، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [سورة فصلت : 6].

فقوله تعالى: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} دعوة صريحة واضحة لأن نستجيب لله عز وجل في كل ما أمر ونهى، سواء وُجد قانون بشري يدعو لذلك أم لا، وأن يكون الأصل في ذلك أن الاستقامة لأجل أن تتوافق إرادتي مع مراد الله عز وجل مطلقًا .

ومن هنا وجدنا سيدنا أبا بكر الصيق رضي الله عنه يقول عن حقيقة الاستقامة: (ألا تُشركَ باللهِ شيئًا)[تفسير الخازن ]. وقال عثمان رضي الله عنه: (أخلصوا العمل لله)، وقال علي رضي الله عنه: (أدوا الفرائض) [تفسير الخازن].

وقد وضّح رسولنا صلى الله عليه وسلم سبيل حدوث الاستقامة بقوله: "لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ" [مسند أحمد].

وفي حجة الوداع كانت هناك الوصايا المركّزة من النبي صلى الله عليه وسلم بالاستقامة على المنهج الإلهي والسنة المشرّفة، فها هو يعطي الأمة ركائز رئيسة قبل توديعه الأمة، فيقول :"إِنِّى قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِه فلن تَضِلُّوا أَبَدًا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّه"[السنن الكبرى للبيهقي].

وهذه آية أخرى تبيّن لنا عظيم ثواب الله عز وجل للمستقيمين على منهجه من حيث الإغداق عليهم بالنعم الكثيرة، والعطاء الوفير، يقول تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [سورة الجن : 16] .

ومن جملة هذه التعريفات الرصينة للاستقامة يجب أن نأخذ سبلها بعين الاعتبار في طريق تأسيس الأجيال؛ وذلك حتى نستطيع أن نُحقق إنسانًا مستقيمًا في سلوكه، ناضجًا في تفكيره، عفيفًا في أسلوبه. إذن فلا بد وأن نبدأ ذلك بتأسيس وتنشئة الأجيال عليها؛ لنصل إلى جيلٍ معتدلٍ في التفكير والسلوك والأسلوب.

فالاستقامة في السلوك تجعل الإنسان منذ نشأته معتدلاً في سائر شئونه.

والاستقامة في التفكير تجعل الإنسان ناضجًا مثقفًا معرفيًّا، يستطيع تحليل الأمور، ومن ثمّ إعادة تركيبها، فلا ينتظر منه إلا زبد الكلام وأجمله .

والاستقامة في الأسلوب تُكسب الإنسان العفّة، فلا يخرج عن حدّ الكلام المعتدل، ولا يكون من أصحاب الكلمات الخاضعة أو الخبيثة، أو التي تحمل معاني الحقد والبغض والكراهية، أو التي تثير الآخر وتستفزّه.

فما أجمل من استقامة فردية تكون سبيلاً إلى استقامة جماعية، يترتب عليها سلوك جماعي متساند، فينعكس ذلك بقيم الألفة والتوادّ والمحبة بين أفراد المجتمع.

ما أجمل من استقامة فردية يتحقق بها الوجود الإنساني من حيث استقامة الفطرة وعدم إفسادها أو الخروج عن مقتضاها.

ما أجمل من استقامة تتعاون فيها الملكات الإنسانية (التي لا يعلم عددها وحقيقتها إلا الله) وتنسجم فيما بينها، فلا يصيبها شيء من التخبّط وعدم الاتزان، أو يخرجها عن اتزانها وانسجامها؛ لنصل إلى الاستقامة المطلوبة مع الكون كله.

ومن الأمور التي تفسد الاستقامة في الإنسان وتخرجه عن حدّ الاعتدال (عدم استقامة الفطرة)، فالفطرة بطبيعتها نقيّة سليمة من الآفات، لكنه حين تكون النفس الإنسانية نفسًا خبيثة، ماذا ننتظر منها ؟ وما هي غايات الأعمال المنتجة من تلك النفس الخبيثة التي أفسدت فطرتها النقيّة ؛ لتحقيق رغباتها وحاجياتها وضرورياتها بطريق فاسد بعيد عن الاستقامة والالتزام بالشرع الشريف؟

إن الاستقامة الإنسانية تحقق للإنسان سلامًا عامًا ما أجمله وما أروعه، إنه سلام مع النفس، سلام مع الجوارح، سلام مع بني جنسه، سلام مع الانضباط بالشرع، سلام مع النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم–، ومن ثمّ فهو سلام مع الله عز وجل، ألم يأمرنا ربنا سبحانه وتعالى بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [سورة البقرة :208].

إذن فكل من خرج عن حد الاستقامة، فهو لا يريد إلا الشر في هذا الوجود، والدين والأخلاق والقيَم والإنسانية كلها لا تريد إلا الخير، فكأن من خرج عن حد الاستقامة هو الإنسان الشاذ في الوجود، البعيد عن رحمة الله ؛ لأنه خالف منهجه، وأراد بالمجتمع الضرر والشر وشيوع الفرقة والخلاف والغايات الخبيثة.

ومن أسباب الخروج عن الاستقامة الهوى، ولا بد أن يُعلم أن الهوى إذا دخل في الشيء فسد، وتكون نتيجته وخيمة، فاستقيموا يرحمكم الله، وحققوا بالاستقامة كل خير لكم ولذويكم ولمجتمعكم ولأمتكم.

وكذلك ينبغي أن يُعلم أن الخروج عن الاستقامة له معنى عظيم، وهو أن صاحبه متمرد على منهج الله عز وجل ؛ لأنه لا يسلك طريقه عز وجل ويتبع دستوره القرآن الكريم، ويلتزم أثر نبيه صلى الله على وسلم، فكأنه متمرد على الأوامر والنواهي، فانتبهوا وكونوا في انسجام والتزام، ولا تكونوا من المتمردين .

فالإنسان يكون في غاية الاستقامة عندما يكون كل جهاز من أجهزته يؤدي ويقوم بمهمته المطلوبة منه وفق المنهج الإلهي، أما إن حدث شيء أخل بأحد هذه الأجهزة بأن عكس مهمتها أو تمرد عليها، فلا ينتظر من وراء ذلك إلا كل حزن وألم ؛ لأنه وقع في أمر غير مطلوب.

إذن فالاستقامة في الحياة هي أقصر الطرق وأعدلها للوصول إلى الغاية الأسمى وهي الرضا من الله وضمان الجنة، أما الخروج عنها، فهو طريق طويل لغايات فاسدة، لا ينتج عنها إلا التعب والشقاء في الدنيا، وعقوبة وعذاب في الآخرة.

ورحم الله شيخنا الشعراوي حين قال: "إننا- نحن البشر- نرى المهندسين وهم يقيسون الأبعاد والمسافات والغايات والبدايات والنهايات، وبعد ذلك يربطون البدايات بالغايات.

إنهم يحضرون آلات معينة ليرصدوا استقامة الطريق وكيفية تمهيده. وقد يعترض استقامة الطريق عقبات صعبة شديدة كَأْدَاء كجبل مثلاً، فيقوم المهندسون إما بنحت نفق في الجبل ليضمنوا له الاستقامة، وإما بأن يحني الطريق ليضمنوا جودة تعبيد الطريق.

 فإن جاء المهندسون وقالوا نمشي من هنا لنضمن استقامة الطريق فإننا نفعل ذلك. وإلاّ جعلوا الطريق متعرجاً أو حلزونيًّا؛ وذلك ليتفادى السائر العقبات التي ليس له قدرة عليها. لكن إذا كان الصراط قد مهّده الله عز وجل أتوجد له عقبة؟ طبعاً لا، إذن فهو طريق مستقيم ".

فعلينا التزام طريق الله في سائر شئوننا، ولا يغرنكم طريق الاعوجاج والانحراف.

ولتعلموا أن للشيطان سبلًا متعددة، وأما سبيل الاستقامة واحد، لأن للطرق المتعددة غوايات منوعة، فهذا طريق يغوي بالمال، وذلك يغوي بالمرأة، وذاك يغوي بالجاه. إذن فالغوايات متعددة.

ولتستحضروا قول ربنا لنبيّنا :{فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ}[هود: 112]، ثم لتعلموا أن الله عز وجل حين ينهانا عن الاقتراب من شيء، فهذه هي ما نسميها استقامة الاحتياط، وهي قد تسمح لك بأن تدخل في التحريم ما ليس داخلاً فيه، فمثلاً عند تحريم الخمر، جاء الأمر باجتنابها أي: الابتعاد عن كل ما يتعلق بالخمر حتى لا يجتمع المسلم هو والخمر في مكان، فيحتاط لنفسه من الخروج عن الاستقامة والانحراف عنها.

ولتعلموا أن كل من خرج عن الاستقامة يكون ظالمًا؛ لأنه مال وعدل عن الحق.

وهناك من أطلق عليه لفظ الفجور؛ لأنه يميل إلى المعاصي.

وهناك من يجعله من المجرمين؛ لأن المجرم هو الذي ينتصر للباطل.

وهناك من سمّاه بالفاسق؛ لأن الفسق هو خروج الشيء عن جوهره، والفاسق عدل وخرج عن الاستقامة على منهج الله عز وجل.

فهل تدركون حقيقة هذه المصطلحات (الظلم – الفجور – المجرم - الفسق)، فحققوا وجودكم واستقامتكم بعدم الميل إلى ما تدعو إلى هذه المصطلحات.

لقد روى لنا الإمام عليّ كرم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "قل اللهم اهدني وسددني" [أخرجه مسلم]

والمعنى المراد من هذا الدعاء الرائع هو: أي وفقني واجعلني مصيبا في جميع أموري مستقيما وأصل السداد الاستقامة والقصد في الأمور، ثم إنه ليس الاستقامة في كونها عدم الميل أو الانحراف عن الطريق المستقيم وفقط، بل إن الاستقامة أيضًا تكون في مسائل الطاعة، بإقامتها على وجه التمام والكمال.

فالاستقامة إذن تحمل معنى دقة الأداء المطلوب لله أمرًا ونهيًا، وهذا ما يجب أن نؤسس عليها الأبناء؛ ليتحقق بالاستقامة في جميع مراحل حياته "طفلًا وشابًّا ورجلًا وشيخًا كبيرًا".