صنعوا نهضتهم من أنبوب مياه.. لدولة بلا نقطة ماء!
د. أسامة حمدي,
بلد صغير به أكبر كثافة سكان في العالم، 5.5 مليون نسمة على مساحة ٧١٢ كيلو متر مربع فقط، تحولوا في جيل واحد من أفقر دول العالم لأغناها! فحين تخلت ماليزيا عن جزيرة سنغافورة سنه ١٩٦٥ ليديرها أهلها مدت لهم أنبوبا صغيرا للمياه العذبة حتى لا يعطشوا! فسكان الجزيرة الجدباء وقتها يتكونون من 74% من الصينيين الفقراء وغير المتعلمين من جنوب الصين و13% من أفقر المالاي من سكان ماليزيا و9% من الهنود المعدمين.
مع أنبوب المياه العذبة عاش سكان سنغافورة صراعًا حميمًا من أجل البقاء! فأرض سنغافورة مالحة ولا تصلح للزراعة والجزيرة بدون أي موارد طبيعية.
وكانت بيوتها وقتها أكواخًا في مستنقعات، تسلم أمرها رجل عبقري ذو رؤية ثاقبة اختاره الشعب وهو في السادسة والثلاثين من العمر ليقودها كأول رئيس للوزراء، حدد لي كوان يو Lee Kuan Yew مشاكل بلده بدقة شديدة ووضع مع زملائه بتجرد شديد خطة قصيرة وطويلة المدى لا تحتمل حتى الخطأ الصغير، فالخطأ الواحد معناه فناء هذه الدولة الوليدة للأبد.
عرف منذ الْيَوْم الأول أن مورده الوحيد هو البشر فبدأ بتوحيدهم على قلب رجل واحد في دولة مدنية ليس للدين فيها دخل وجعل الأطفال يقسمون يوميًا في مدارسهم قسمًا غريبًا وهامًا يقول: "نتعهد نحن مواطني سنغافورة كشعب واحد لا يفرقنا عرق ولا دين ولا لغة أن نبني معا مجتمعا ديمقراطيا أساسه العدالة والمساواة من أجل سعادتنا ورفاهيتنا وتقدم وطننا" فقلت لهم قولوه وسجلته.
"We, the citizens of Singapore pledge ourselves as one united people regardless of race, language or religion to build a democratic society based on justice and equality so as to achieve happiness, prosperity and progress of our nation"
وكان استثماره الأول في التعليم لخلق أمة من الشباب الصغير والمثقف والقادر على البحث والتطوير.
قام بالبناء العلوي بلا توقف ليتيح لكل فرد من الشعب مسكنًا يليق به دون إهدار مساحة الأرض الخضراء.. وأنشأ أكفأ شبكة للمواصلات في العالم تحت الأرض حتى يحافظ على الأرض فوقها وردم في المحيط ليزيد مساحة أرضه 23%.. وأخذ أنبوب الماء من ماليزيا واستخدمه بأفضل تكنولوجيا لتنقيته وتعبئته في زجاجات ليبيعه مرة ثانية لماليزيا.
وأنشأ محطات لتحلية المياه وإعادة تنقية مياه الصرف الصحي لاستخدامها! كَبِرَ الأطفال المتعلمين على أعلى مستوى في مدارس صنفت الأولى على العالم في جودة خريجيها.. فدفعهم لي كوان يو للعمل في مجال التكنولوجيا والبيوتيكنولوجي ليبني بهم ولهم عشرات المصانع المتطورة.. أرسلتهم الدولة للخارج ليشاهدوا الجامعات والمستشفيات والمصانع ليعودوا ليعلموا غيرهم ويشيدوا ما هو أفضل منهم.
وصل بالفساد إلى نسبة صفر في المائة.. منذ الْيَوْم الأول أقام علاقات سلام مع كل من حوله ليضمن الاستقرار، وبنى جيشا قويا يدافع به عن أرضه بالتجنيد الإجباري لمدة سنتين بعد التخرج.. فتح الباب على مصراعيه للشباب ليبتكر ويبدع ويطور ويضع ألوانه وإضاءته المبهجة في كل شيء.. لا يوجد في الدولة فرصة للخطأ ولكن لا حدود للخروج عن المألوف بالابتكار.
فجر طاقة الشباب فكانت كالبحر الهادر تبني وتُصَنِّع وتكتشف وتطور، وفِي أقل من أربعين عامًا أصبحت سنغافورة من أكثر دول العالم تقدمًا.. ووصل دخل الفرد إلى ١٠٤ آلاف دولار سنويًا كثالث أعلى دخل في العالم وناتج قومي حوالي ٦١٧ مليار دولار سنويًا ومعدل بطالة لا يتعدى ٢,٦٪. جذبت دولته الاستثمار من كافة أنحاء العالم لاستقرارها وكفاءة شعبها وانخفاض ضرائبها.
وضعت الحكومة أفضل نظام صحي عرفه العالم المتقدم، حققت حكومته المساواة والعدالة فعلًا وقولًا! عمل لي كوان يو بمبدأ القدوة المتواضعة والمخلصة، انتخبه شعبه بديمقراطية حرة حتى ١٩٩٠ وحين توفي منذ ست سنوات عن عمر ٩٢ سنة بكاه شعبه لشهور.. فكل بسمة طفل كان لها سببًا وكل أمل في قلب شاب أو شابة كان له باعثًا وكل سعادة في وجه كهل كان هو مصدرها.
زرع الانتماء فجلب الرخاء.. زرع الأمل فجنى التقدم.. زرع العلم فحصد التحضر.. حارب الفساد فحقق المساواة.. أعطى كل مواطن فرصة للحياة الكريمة فجنى العمل الدؤوب.. وحد قلوبهم فزرع السعادة.. حقق المساواة بين جميع أفراد الشعب وجعل قيمتك في عملك لا في مالَك.. تحولت سنغافورة إلى جنة خضراء لا تشعر فيها بالتزاحم، ما هذه الروعة لقائد له رؤية وشعب شاب لا يعرف المستحيل!.