رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


هامش فى سيرة المسكون بحب مصر

13-5-2021 | 19:38


الكاتب الساخر محمود السعدني

أحمد الجمال

الكتابة عن واحد من الذين اخترعت الكتابة لأجلهم أمر صعب، فما بالك أن تكون الكتابة كلاماً وله معنى عن واحد ممنعكمالكلمة حتى حكمها، فاستبد بمملكتها، وكلما طغى استبداده صاح المستبد بهم منتشين: هل من مزيد ؟!

وحتى صمته تجده صمتاً فصيحاً ناطقاً أبلغ ما يكون النطق..سواء عندما يطبق بأسنانه على سبابته، أو عندما يزم شفتيه ويزوم، أو عندما يعبر بأصوات استنكارية لا تترجمها الحروف لأنه فى ذلك كله يلخص موقفاً أو يطلق وصفا أويرقعنكتة أو يصدر حكماً !

شاء حظى أن أسمع صوته قبل أن أراه وأجلس إليه، وكنت آنذاك فى الثالثة والثلاثين، أى منذ ثمانية وعشرين عاما، لا أعرف شيئا عن مصيرى فى اليوم نفسه الذى أحدثه فيه.. فقد وصلت لندن بشنطة قديمة شبه خالية وتغلق من ناحية واحدة لأن القفل الثانى مكسور منذ ثلاثين سنة حيث كانت شنطة الوالد التى حملها فى رحلة البحث عن عمل ومعه شهادة العالمية وتخصص التدريس من كلية الشريعة بالأزهر الشريف وكانت التعليمات التى حفظتها من قيادةالتنظيمهى أن أطلب الرقم وإذا رد محمود السعدنى فما على إلا أن أقول: أستاذ محمود أنا أحمد من طرف محمد ! .. وبالفعل طلبت الرقم فإذا بصوت أنثوى رقيق وبإنجليزية بريطانية يرد: “يس” .. “أى: نعموارتبكت لأرد بإنجليزية طنطاوية: “ماى آى سبيك تو مستر محمود السعدنى ؟” .. “أى: هل يمكن أن أتكلم إلى السيد محمود السعدنى ؟وتم تحويلى إليه، وتدور أسطوانتى: أستاذ محمود أنا أحمد من طرف محمد !.

وإذا به يلخص الموقف المبدئى برد إسكندرانى معتبر، حيث سحب شهيقا هائلا من إياهم وأردفه بالمصطلح الذى يلازمه، واستكمل: “مش أنت أحمد الجمال اللى كنت فى السجن وجاى من طرف محمد عروق وعاملين تنظيم سرى ضد السادات يا أولاد...! وجفت الرطوبة فى حلقى فلم أرد ولو حتى بالتهتهة واستكمل هو: “يا ابن دين... أنت فى لندن ! إنت فاكر نفسك بتتكلم من الكشك فى طنطا.. بتعرف إنجليزى.. أكتب عندك إيرلز كورتوأملانى عنوان مجلة 23يوليو التى كان يصدرها آنذاك فى العاصمة البريطانية.

وبعد ساعة كنت أجلس أمامه فى الغرفة الواسعة، وكان مكتبه على الشمال وهناك فى أقصى اليمين بالغرفة نفسها مكتب آخر يجلس عليه شخص طويل القامة يميل إلى البياض، ويلتزم الصمت عرفت بعد فترة أنه محمود نورالدين السيد الشهير بنور السيد الذى أصبح فيما بعد قائد تنظيم ثورة مصر !.

وفى لندن مكثت حوالى شهرين من أواخر يوليو 1979 إلى أواخر سبتمبر من العام نفسه، وكنت ألازم عم محمود معظم الوقت !

وأن تلازم محمود السعدنى وتقترب منه فلابد من أن تكون لديك مؤهلات خاصة جداً لا تقل عن مؤهلات من يلازم مفاعلا نوويا مشعاً ! حيث يؤدى أقل خطأ إلى أن تفنى غير مأسوف عليك، وربما تفنى معك قبيلتك ومدينتك والدولة كلها وقد حدث ذلك مع العبد لله، غير أن لطف الله ورحمته كانا قد سبقا قضاءه وقدره، ولذلك قصة شهيرة يعرفها كثيرون ممن عاشوا مطلع الثمانينيات فى منطقة الخليج، وأذكر بعد أن وقعت الفأس فى الرأس وكتبت ما كتبته عنه ولا أحب أن أذكر تفاصيله لأنها قد تضايقه، أن هاتفنى الصديق العزيز الراحل محمد عروق: “انت اتجننت.. فيه حد عنده حد أدنى من الفهم والعقل يجر شكل محمود السعدنى؟!

ومش كده وبس حضرتك بتنتقده فى مقال مكتوب ومنشور" .

 واستكمل عروق: “لقد اتصل بى السعدنى وقال إذا لم يكتب الواد ده اعتذاراً مباشراً يقول فيه إنه لا يقصدنى فلسوف أفضحكم وأضحك عليه طوب الأرض” !

ولم أكتب، وكان أن ضحك طوب الأرض حيث بدأ المقال بأن أصبح الاسم الحركى لى هو: “برعى الجمل ".

رجل الثنائيات

غير أن عم محمود الذى لا يتورع عن إضحاك طوب الأرض على أى شخص يطب فى الغلط معه، هو نفسه الذى تفيض منه الرقة ويتدفق الحنان وتتجلى الشهامة ويعلو طوفان الكرم على من يعرفه ومن لا يعرفه فهو رجل الثنائيات الواضحة التى قد يظنها الجاهلون ازدواجا وتناقضاً، فيما هى العملة الواحدة نفسها ولكن فى مقامات متعددة للتجلى !

فهو الجسور المقتحم الذى لا يبالى بعواقب ما يقول وما يكتب، وهو المتوسل طالب الشفاعة والعفو .. وفى الحالين تجد أن الأصل هو عشقه للحرية وتقديسه لها.. يدفع ثمنها ولا يبالى.. ويطلبها بإصرار ولا يخجل أو يدعى البطولة.

وهو الذى يقول للـأعورأنهأعور، وإذا لزم الأمرخزقله العين الثانية، ولكنه ذلك الذى يصاب بالهلع إذا شاهد من بعيد شخصا يبدو وكأنه يتابعه، أو لمحت عيناه رأسا بشرية تمرق بالقرب من السور الذى يجلس من ورائه ! وهنا يكون الأصل هو حب المواجهة وكراهية الغدر واتقاء شر العدو المجهول، لأنه هو لا يعرف غدرا ولا يجيد حبك المؤامرات.. وهكذا فى كل حال يبدو فيه السعدنى متناقضا أو مزدوج السلوك.. عليك أن تبحث عن الأصل فى الأشياء عنده وبغير ذلك يكون معيارك مختلا وقياسك فاسداً !

وبعد قطيعة استطالت قليلا على إثر ما جرى مني ورد هو عليه، فتح لى بابه وأطعمنى وتحدث طويلا وعندما عاتبته بأن قلت: يا عم محمود أنا هاجمتكسياسةوأنت مرمطنىاجتماعبأن ركزت على أصولى الاجتماعية والطبقية، كان رده المفحم: :يا ابن... أنا بحثت عن حتة أعكمك منها فلم أجد إلا ما كتبته وقد كتبت وفى ذهنى أن ما كتبته أنت يعد بلاغا علنيا ضدى إلى صدام حسين، وأنا ما صدقت اصطلحت معاه!”

وفى تلك الزيارة كان ثالثنا هو أكرم السعدنى الذى هو وأخواته تحويشة عمر عم محمود !.

فالأسرة فى حياة السعدنى تمثل الركن الأول من أركان العقيدة، وبعدها تأتى بقية الأركان، ابتداء من الشهادتين وانتهاء بالحج.. ولم لا ؟! وقد كان التكليف الأول من رب العزة سبحانه وتعالى لأبينا آدم بعد لحظة الخلق الأولى، والجدل فى عالم الملك حول مكانة آدم وضرورة وجوده، هو تكليفه بإقامة أسرة: “اسكن أنت وزوجك الجنة”! وكان ذلك تكريما لآدم فى مواجهة الملائكة ومواجهة إبليس، لأن كليهما لم يتلق تكليفا مماثلا، بل كلاهما غير صالح لتكوين أسرة من الأساس !

ومع أسرته ترى وتسمع لدرجة أنك أنت شخصيا وأنت رجل ملء هدومك تصاب بالرعب عندما يتأخر أكرم أو غيره من السلالة السعدنية عن تلبية النداء، أو يخالف تفصيلة بسيطة من تفصيلات التعليمات فإذا بـتسونامىأو إعصار من الدرجة الخامسة يتحرك ولكنخلىأكرم أو إحدى البنات، يكح أو يصاب بنزلة برد أو تشكه شوكة، عندها يرتد الإعصار إلى قلب وعقل ونفس وجسد الأب، فلا يهمد ولا يغمض له جفن حتى يطمئن على العيال ! وأم العيال التى هى الست أم أكرم العظيمة شريكة المشوار فى كل محطاته وطلوعاته ونزلاته، وفى الترحيلة حيث بلاد تشيل وبلاد تحط وهى صامدة صمود الهيمالايا وشموخها !.

فى صفحة الحوادث

فى لندن وعقب أن سامحنى ائتمننى على أكرم ننزل معاً ونعود معاً، ومع ذلك كان يسأل مائة مرة عن وجهتنا، ومتى سنعود وكان باله مشغولا والقلق يستبد به لأن الأمور كانت قد بدأت فى التعقيد مع محمود نورالدين الذى كاد يجعلنى، فى تلك الزيارة مطلع الثمانينيات، خبراً فى صفحة حوادث الصحف اللندنية بعدما اشتبكنا فى حوار تحول إلى جدل وصياح، ثم محاولة منه لإلقائى من نافذة شقة عم محمود فى نفس العمارة التى ألقى منها الليثى ناصف وسعاد حسنى !

وكان عم محمود قد قرفص على الكنبة، وأخذ يصيح فى وجهى : “خلاص يا ابن دين... خلاص.. حايقتلك يا ابن ...!”

والكنبة ومعها الريموت كنترول الخاص بالتليفزيون هما كرسى الحكم وصولجان السلطة فالكنبة للجلوس وللنوم ولتناول الطعام والكتابة والقراءة والريموت كنترول لزوم تحويل المحطات ويا ويله وسواد ليله من يجرؤ على استخدامه بدون إذن مسبق أما إذا استبدت به الوحدة مع الأرق وهو عادة لا ينام إلا إذا طلع النهار مثله مثل كامل الشناوى فلابد من رفيق أو جليس يؤنس ليله حتى لو أدى الأمر إلى أن يهاتف صديقه وأمين سره وصديق كل مصر المحترم الأستاذ أمين الغفارى فيوقظه من نومه فجراً ويصيح مستنجدا به: “يا أمين ... الحقنى... تعال حالا دلوقت !” وينهض أمين مذعوراً من نومه ويخرج من شقته ويهرول: “فيه إيه يا عم محمود خير إن شاء الله؟!” يقولها ووجهه الأحمر بالطبيعة قد زاد احتقانا وإذا بالرد يأتى: “أصلى عاوز أشرب شاى معاك... ياللا أعمل لنا شاى بقى بس قبل ما تعمل الشاى تعرف تمشى كده ؟!” ويبدأ عم محمود فى مشية متمايلة ويمرجح ذراعيه يمينا وشمالا وخلفا وأماما وحتما تهب عاصفة الضحك بغير توقف !.

قائد تكتيكى

وقد يتخيل البعض أن حكاية شرب الشاى دخيلة على مفردات جلسات السعدنى وأن الأصل هو شرب مشروبات أخرى وتدخين مزروعات مختلفة والحقيقة أن عم محمود قائد تكتيكى من أبرع من اخترعوا تكتيكات القعدات.. فهو ليس سكيرا ولا حشاشا، ولا يتحكم فيه مزاج من أى نوع الشاى ! وإذا حدث وكانت الجلسة فيهامياه وهوافإن كأسه يظل واحدا طيلة الجلسة مهما استطالت، ويتوهم المتوهمون فى زحمة الكلام والضحك أنه شرب أكثر من الجميع.. ومع الشاى هناك المزاج الأكثر رسوخا وإلحاحاً ألا وهوالطاجنذلك الوعاء الفخارى الواسع الذى يجلبه خصيصا صديق عمره الحاج إبراهيم نافع- رحمة الله عليه- وتبدأ حفلةالطاجنمن أول الليل بتجهيز الخلطة السحرية من الخضار والبهار واللحم ويودعه فى فرن هادئ الحرارة حتى تصيح عفاريت مصارين الجميع.. فإذا حدث وجاء الطعام تجلى أرفع لون من ألوان أدب الاستمتاع باللقمة الهنية.. ومهما كانت قدرتك على التقاط الصورة أو وصفها فمن الصعب تلخيص المشهد بين عم محمود وبين تلك اللقمة إذ يختلط القضم بالهبر-من الفعل هبر - بالمضغ ولا يمكن أن يصل الأمر إلى المصمصة لأنه كالضوارى من فصيلة الأسود والنمور يقضم ويهبر ويترك فضلة من لحم ودهن حولالريشةأوفقرة العظم”!.

لقد أحب محمود السعدنى الحياة وبادلته حبا بحب وحتى فى اللحظات المضنية القاسية التى اعتصرته وأفزعته كانت لديه القدرة على التصالح مع اللحظة ليتدبر سبيل النفاذ منها.. والحياة عنده كل لا يتجزأ: البدء فيها كان الكلمة وكذلك الانتهاء ! وربما أتيحت الفرصة لمثلى أن يفصل أكثر وأكثر عن رجل سكنته مصر، فصارت حسبه ونسبه وتملكه حبها فكان أن سكن هو ملايين القلوب وأحبه الناس على نحو نادراً ما عرفه تاريخ البشر فى المحروسة ... أو حسبما كان يفضل أن يؤكد بالقسم: “على الطلاق دا شىء لم يحدث فى تاريخ  البشرية”.